هل تحتاج مصر إلى أحزاب سياسية جديدة؟
أثار الإعلان عن إنشاء حزب سياسي جديد فى مصر، الأسبوع الماضي، الكثير من الجدل بين من يهتمون بالشأن العام المصري. فى تقديري، هناك أربعة أسباب رئيسية لهذا الجدل، أولها هو توقيت الإعلان، وثانيها هو طريقة الإعلان، وثالثها هو خلفية الشخصيات المؤسسة للحزب، ورابعها هو ظروف البيئة السياسية المصرية فى الوقت الحالي.
أما عن التوقيت، فهذا العام سيشهد انتخابات برلمانية جديدة بدءًا من الصيف حينما تعقد انتخابات مجلس الشيوخ، ثم في الخريف حينما تعقد انتخابات مجلس النواب. أثار التوقيت سؤالًا منطقيًا حول ما إذا كان هذا الحزب الجديد يتم إعداده ليكون تحالفًا انتخابيًا لخوض هذه الانتخابات بديلًا لغيره من الأحزاب وخصوصًا تلك التي تملك أغلبية نسبية فى البرلمان الحالي؟
أما عن طريقة الإعلان، فالتغطية الإعلامية المكثفة لتدشين الحزب، وطريقة إخراج مشهد الافتتاح حيث دخل المؤسسون واحدًا تلو الآخر إلى قاعة إعلان التدشين على سجادة حمراء تتبعهم الكاميرات من أسفل إلى أعلى (وهو أسلوب فى الإخراج متعلق فى الخبرة العربية والمصرية برجال الدولة)، كانت أحد الأسباب التي عضدت الاعتقاد بأننا أمام حزب جديد للدولة/الحكومة.
أما عن خلفية الشخصيات المؤسسة، فأعضاء الهيئة التأسيسية هم خليط من المشاهير ونجوم المجتمع والصحافة والسياسة بالإضافة إلى رجال الأعمال والشخصيات العامة والمثقفين، وإذا ما نظرنا إلى هؤلاء الأشخاص سنجد أنه لا رابطة واضحة بينهم سواء من الناحية الفكرية، أو السياسية، بل إن بعضهم كان قد اختفى تمامًا من العمل العام لسنوات! وبالتالي فإذا ما ربطنا خلفيات المؤسسين بتوقيت الإعلان وطريقته، فيكون ذلك ربما مرجحًا للفرضية القائلة بأن هذا الحزب الوليد قد يكون بالفعل هو حزب الدولة أو الحكومة الجديد، وخصوصًا وأنه منذ عام 2013، لا يمكننا الحديث بوضوح عن "حزب للدولة" كالحزب الوطني أيام مبارك على سبيل المثال.
أما عن ظروف البيئة السياسية، فمن بعد عام 2013 تلاشت حيوية الكثير من الأحزاب السياسية المصرية وخصوصًا تلك التى نشأت بعد ثورة يناير/كانون الثاني 2011، كما توقف كُثر عن العمل العام والحزبي، إما خوفًا أو اضطرارًا أو يأسًا. صحيح أن السنوات القليلة الماضية شهدت بعض الانفراجات المؤقتة كالحوار الوطني أو قرارات العفو عن الشباب الذى قبع فى السجون لسنوات، وهى أمور مشجعة ومحمودة، إلا أن هذه البيئة لا تزال مقيدة سياسيًا، ومن ثم فالإعلان عن حزب جديد فى هذا التوقيت ومع هذه الشخصيات وفى هذه البيئة كان بالفعل داعيًا لطرح الأسئلة والافتراضات.
من المهم هنا الإشارة بأن تصريحات بعض أعضاء الهيئة التأسيسية للحزب فى الإعلام قد غذّت هذا الجدل، ففي مداخلة هاتفية للإعلامي محمد مصطفى شردى مع قناة "TEN" ورغم نفيه التام بأن يكون الحزب مواليًا للحكومة، إلا أنه قال تصريحات أخرى فى نفس المداخلة ربما عززت فرضية الموالاة، حيث أكد أن المؤسسين وصلوا إلى ذروة العمل العام ومن ثم فليس لديهم أيّ أطماع شخصية، ولكنهم يحاولون "خدمة مصر". ثم عاد وأكد المعنى نفسه عندما قال بأن أعضاء الهيئة التأسيسية من اليسار واليمين، فمنهم الناصري والاشتراكي ومنهم الليبرالي مدللًا بذلك على هدف الحزب لخدمة المواطن والوطن!
تراجع العمل الحزبي
من حيث القانون والدستور، فلا يوجد أيّ مانع من إنشاء أحزاب سياسية جديدة لطالما التزمت بمواد الدستور المصري المنظمة للحياة السياسية وبالقوانين المنظمة للأحزاب. لكن فيما يتعلق بسؤال الضرورة فبكل تأكيد يحتاج الأمر إلى قراءة متأنية للمشهد السياسي المصري القائم. لمصر تجربة نيابية قديمة ورائدة سبقت بها دول المنطقة، فقد وُلدت الحياة النيابية التمثيلية فى مصر عام 1866، بل وقد يدفع البعض بأن مجلس المشورة الذى أسسه محمد على عام 1829 كان بمثابة اللبنة الأولى للحياة النيابية/الاستشارية المصرية. كذلك لمصر تجربة حزبية قديمة حيث بدأت الأحزاب السياسية مع الحركة الوطنية التى تزعمها مصطفى كامل وتأسيسه للحزب الوطني عام 1907 واستمرت حتى قيام ثورة 1919، ثم كانت تجربة التعددية الحزبية المصرية من بعد ثورة 1919 وحتى انتهاء الملكية.
صحيح أن التعددية الحزبية فى تلك المرحلة كانت تشوبها العيوب سواء من حيث تأثير الاحتلال البريطاني على القرارات المصرية المتعلقة بالقصر أو بالحكومة، أو من حيث سعي القصر دائمًا إلى وجود حزب سياسي مدعوم منه يتم استخدامه لفرض إرادة الملك على الحكومة، لكن علينا ألا ننسى أنه قياسًا على ذلك العصر فقد كانت التعددية الحزبية في تلك المرحلة أمرًا متقدمًا ورائدًا فى التحديث السياسي فى الدول غير الغربية، وخصوصًا وأن تلك التجربة فى مصر شهدت تداولًا سلميًا للسلطة بين الأحزاب وهو أمر لم يتكرر أبدًا منذ ذلك الحين!
لا أريد هنا الإبحار طويلًا فى التاريخ بسبب ضيق المساحة، ولكننا نعلم ما الذى حدث بعد ذلك! فمن التجربة الناصرية القائمة على الحزب الواحد، إلى التجربة الساداتية فى فتح الباب أمام المنابر الثلاث، ثم التجربة المباركية فى التعددية المقيدة، ظلّت الحياة السياسية فى مصر بعيدة كل البعد عن التمثيل النيابي الديموقراطي، إلى أن جاءت ثورة يناير لتفتح الطريق أمام الأحزاب، لكن كما نعلم، فتلك التجربة القصيرة لم تؤدِ إلى أيّ تداول سلمي للسلطة!
يعنى هذا أنه وفى خلال 60 عامًا (1953-2013) كان هناك سمتان أساسيتان للحياة الحزبية والسياسية المصرية؛ الأولى أنه لم يحدث أبدًا أي تداول سلمي للسلطة بين الأحزاب السياسية، والثانية أنه كان دائمًا هناك حزب يمثل رئيس الجمهورية بشكل وثيق، وكان هذا الحزب هو من يشكل الحكومة ويضع الأجندة التشريعية وينخرط فى التعديلات الدستورية... إلخ.
سياسة الاستدانة بشكل مفرط تهدد مستقبل مصر
الأزمة الاقتصادية والمالية التي تعيشها مصر تعود في المقام الأول إلى سياسة الاستدانة بشكل مفرط لا يستطيع الاقتصاد المصري الفعلي أن يتحمله. الخبير الاقتصادي يزيد صايغ يسلط الضوء على عيوب النموذج الاقتصادي المصري وينتقد تعامل السياسة الألمانية والأوروبية مع نظام السيسي. حاوره محمود حسين لموقع قنطرة.
هاتان السمتان بقت واحدة منهما معنا حتى الآن فيما اختفت الأخرى. أما عن السمة الباقية فهي عدم تداول السلطة بين الأحزاب، ببساطة لأن العمل الحزبى تراجع بشدة ليس فقط عند مقارنته بفترة (2011-2013)، بل وحتى لو قارناه بفترة مبارك! أما عن تلك السمة التي اختفت فهي المتعلقة بحزب الرئيس، حيث لم يكن للرئيس عدلي منصور حزب سياسي بسبب ظروف توليه السلطة وطبيعة العام الانتقالي (2013-2014)، ولم يرغب الرئيس السيسي فى أن يكون له حزب سياسي وهو أمر ما زال محافظًا ومصرًا عليه حتى اللحظة.
انقسام الأحزاب سواء في المعارضة أو الموالاة
عدم وجود حزب للرئيس لا ينفى وجود أحزاب سياسية يمكن وصفها بأنها "أحزاب موالاة!" فمنذ الانتخابات الرئاسية التى جرت في 2014، ثم الانتخابات التشريعية التى جرت فى 2015 وحتى اللحظة يمكن الإشارة بوضوح إلى وجود ثلاثة أنواع من الأحزاب السياسية المصرية، أحزاب معارضة انسحبت ولم تشارك أو اضطرت لعدم المشاركة؛ أحزاب سياسية معارضة شاركت فى الانتخابات لكنها لم تنجح، ثم هناك أحزاب الموالاة.
انقسمت أحزاب الموالاة بدورها إلى أحزاب موالاة للرئيس، ولكنها تشاكس – ولا أقول تعارض - الحكومة. وقد حصلت هذه الأحزاب على بعض المقاعد الرمزية فى البرلمان، وأحزاب أخرى يمكن اعتبارها مؤيدة للرئيس وللحكومة .
يمكننا أن نضيف إلى هذا المشهد ثلاث حقائق أخرى: الحقيقة الأولى أن مصر ما زالت فى مرحلة التعددية المقيدة التى كانت قائمة قبل 2011. والحقيقة الثانية أن المعنى التمثيلي للأحزاب تلاشى لصالح المعنى الخدمي، بمعنى أن الناس ما زالوا يرون الأحزاب على أنها أماكن للحصول على بعض الخدمات لا كيانات سياسية تمثلها فى صنع القوانين والرقابة على السلطة التنفيذية. أما الحقيقة الثالثة، فهي أن العمل الحزبي ضعف بشكل عام لأسباب كثيرة بعضها يعود للنظام وبعضها يعود للأحزاب نفسها؛ فمن ناحية، فالحكومة ما زالت بصورة غير مباشرة اللاعب الرئيسي فى عملية الانتخابات، ومن ناحية أخرى، فإن الأحزاب تراجع دورها لصالح أفراد سواء من داخل هذه الأحزاب أو من خارجها، مع العلم أن النظام الانتخابي المعمول به حاليًا قد ساعد على كل ذلك بالتأكيد!
إذا ما أضفنا حقيقة أخرى، وهى أن بعض أحزاب المعارضة، قد تعرّضت للانقسامات، بل وحدث داخلها صراع على شرعية قيادة الحزب، فيمكننا الوصول إلى خلاصة تقول بأن مصر فى الظرف الحالي ليست فى حاجة إلى أحزاب جديدة بقدر ما هي في حاجة إلى تفعيل العمل الحزبي، وهذا الأخير يحتاج إلى ما هو أكثر من حوار وطني، يحتاج إلى تعديل القوانين المنظمة للانتخابات، وإلى إدارة انتخابية أكثر حيادية، وقبل هذا وذاك إلى إرادة سياسية تسمح بمزيد من الانفتاح السياسي.
نُشر المقال لأول مرة في جريدة الشروق المصرية
© قنطرة