أربعة أعداء في نفسٍ واحد

الإسلاميون، القُضاة، البدو، الأقباط...أربع حروب داخلية يخوضها حسني مبارك في وقت واحد. تلك الفئات الأربعة المُستبعدة باتت في تمرد متزايد ضد النظام الذي عَـمَّـر كثيراً. بقلم سعد الدين إبراهيم.

عامل مصري يُعد إحدى مُلصقات الرئيس المصري محمد حسني مبارك، قبيل إجراء الانتخابات الرئاسية الأولى من نوعها في مصر، أغسطس 2005، الصورة: أ ب
مبارك خالف وعوده الانتخابية وطالب بمد قانون الطوارئ لمدة عامين، وقام البرلمان بالتأمين على مطلبه

​​الإسلاميون، القُضاة، البدو، الأقباط...أربع حروب داخلية يخوضها حسني مبارك في وقت واحد. تلك الفئات الأربعة المُستبعدة باتت في تمرد متزايد ضد النظام الذي عَـمَّـر كثيراً إلى ما بعد زوال سلطته الشرعية. بقلم سعد الدين إبراهيم.

اهتزت مصر بالكامل في أعقاب القرار الذي أصدرته حكومة الرئيس المصري حسني مبارك بمحاكمة اثنين من كبار القضاة
بسبب كشفهما النقاب عن التلاعب بأصوات الناخبين أثناء الانتخابات البرلمانية التي جرت في الخريف الماضي. ونزلت جماهير حاشدة إلى الشوارع لمساندة القضاة ـ ولم يكن ذلك متوقعاً بالمرة من قِـبَل نظام مبارك.

ويبدو أن حكومة مبارك تحاول الآن التراجع عن موقفها في أسرع وقت ممكن. فقد تمت تبرئة القاضي محمود مكي ، أما القاضي هشام البسطاويسي ، الذي أصيب بنوبة قلبية قبل ذلك بيوم واحد، فلم ينل سوى التأنيب الرسمي. لكن القاهرة ما زالت تشهد حالة من الاستياء والتوتر، وتخشى الحكومة انطلاق موجة أخرى من التأييد للديمقراطية، حيث دعا القضاة إلى تجديد المظاهرات على مستوى الأمة.

مبارك ضد تسعة آلاف قاضي

يتسم القضاة المصريون بالحفاظ على تقليد قديم من الدبلوماسية واللياقة. لكنهم يشعرون بأن الحكومة أساءت إليهم حين حاولت تذويق التلاعب في الانتخابات الأخيرة بادعائها أن القضاة هم الذين أشرفوا على عملية التصويت. والأمر الذي يجعل كفاحهم يبدو بهذه الضخامة في نظر عامة المصريين الذين يتحلون عادة بالهدوء والصبر، هو أن كل القضاة تقريباً، والذين يلغ عددهم تسعة آلاف، يقفون صامدين في تضامن شديد. ومنذ مدة طويلة يسعى نادي القضاة، وهي الهيئة التي تمثلهم، إلى استصدار قانون جديد يعيد إلى القضاء استقلاله.

والآن يصر القضاة على نيل استقلالهم بأنفسهم.
لكن نظام مبارك يعارض ذلك بشدة، ويلجأ إلى أساليب قضائية غير اعتيادية، مثل محاكم الطوارئ ومحاكم أمن الدولة والمحاكم العسكرية، التي لا تتقيد بالمعايير الدولية. وعلى خلاف وعوده الانتخابية أثناء حملة انتخابه لفترة خامسة كرئيس للجمهورية، طالب مبارك (وأمَّن برلمانه على مطلبه) بمد العمل بقانون الطوارئ لمدة عامين، وهو القانون الذي حكم مصر طيلة مدة رئاسته للبلاد.

وهذا القانون موضع اعتراض القضاة وهيئات المجتمع المدني في مصر في المقام الأول. لقد ظل قانون الطوارئ معمولاً به في مصر منذ اغتيال الرئيس أنور السادات في أكتوبر/تشرين الأول 1981، ويزعم مبارك أنه في حاجة إلى فترة تمديد أخرى لذلك القانون من أجل مكافحة الإرهاب.

ولكن طبقاً لتقرير حديث خاص بحقوق الإنسان، فإن العمل بقانون الطوارئ لم يمنع مقتل 89 شخصاً وجرح 236 آخرين من جراء هجمات إرهابية وقعت في مصر خلال السنة الماضية وحدها، بينما شهدت إسرائيل المجاورة، التي ما زالت في صراع مع الفلسطينيين، مقتل 18 شخصاً وجرح 25 آخرين في هجمات مماثلة أثناء نفس الفترة. ومع ذلك لا تعيش إسرائيل في ظل قانون الطوارئ.

فضلاً عن ذلك، ينبغي علينا أن ننتبه إلى أن تعداد القوات المسلحة المصرية في أوج الصراع العربي الإسرائيلي أثناء عام 1973، كان حوالي مليون جندي. أما الآن فيخدم 350 ألف جندي فقط في القوات المسلحة، بينما بلغ تعداد قوات شرطة الأمن الداخلي المليون فرد.

من محاربة الإسلاميين إلى محاربة البدو والأقباط

الهجوم الإرهابي على منتجع شرم الشيخ في 23 يوليو 2005، الصورة: أ ب
البدو كانوا من ضمن المتهمين في تفجيرات شرم الشيخ

​​كانت حرب مبارك الداخلية الأولى ضد المتطرفين الإسلاميين أثناء سنواته الأولى في السلطة، لكنه الآن وجد نفسه متورطاً في ثلاث حروب داخلية أخرى. فقد تسببت المعركة ضد القضاة في تحريض قدر كاف من الاحتجاج الشعبي لتبرير مسارعة مبارك إلى نشر الآلاف من قوات الأمن المركزي ذات الزي الأسود في قلب القاهرة. وهذا الانتشار الذي دام ثلاثة أسابيع حتى الآن يتجاوز مدة الحربين الأخيرتين اللتين خاضتهما مصر ضد إسرائيل مجتمعتين.

وتدور الآن حرب داخلية أخرى ضد بدو سيناء المصريين، والتي اندلعت منذ عامين. فمع اقتدائهم بجيرانهم الفلسطينيين، إن لم يكن بتنظيم القاعدة، يبدو أن الشباب من البدو المبعدين قرروا أن يتمردوا ضد التعامل معهم باعتبارهم مواطنين من الدرجة الثالثة. ففي كل مكان من حولهم، وبصورة خاصة في المنتجعات البهيجة المشرقة في جنوب سيناء، تُـنْـفَق المليارات على الطرق والمطارات والشواطئ؛ وتخصص بكل سخاء قطع ضخمة من الأراضي هناك للمصريين الأثرياء من وادي النيل ومن الأجانب، ولكن ليس لأهل سيناء.

الحقيقة أن بدو سيناء يتمتعون بحق الانتفاع بالأرض ولكن ليس لديهم الحق في امتلاكها، وذلك بسبب تلك البيروقراطية الكسولة، الفاسدة في بعض الأحيان، والتي ما زالت تعتبر سيناء منطقة عسكرية، وتحكم على مواطنيها بأنهم من المشكوك في ولائهم. منذ عامين، وأثناء الاحتفال بالذكرى السنوية لحرب أكتوبر 1973، فجر متطرفون من شباب سيناء فندق هيلتون طابا.

وفي شهر يوليو/تموز الماضي، وأثناء عيد وطني آخر، ضربوا ثلاثة مواقع سياحية لا تبعد كثيراً عن مجمع مبارك العائلي في شرم الشيخ. والحقيقة أن هذه التحذيرات الرمزية والفتاكة في آن، لهذه الأسرة التي أصبحت تضارع الأسر الفرعونية في الحجم والأسلوب والسلطة، قد مرت دون أن تسترعي الكثير من الانتباه.

أما الحرب الداخلية الثالثة التي شهدتها الآونة الأخيرة، والتي تدور حول حقوق المسيحيين الأقباط في المواطنة، فهي تختمر منذ أعوام. الأقباط هم المصريون الأصليون، وكان تعدادهم يشكل أغلبية سكان مصر حتى القرن العاشر الميلادي. وبعد أن تعربت مصر وتأسلمت، أصبح الأقباط يشكلون أقلية في بلدهم الأصلي.

حروب ضد الفئات المُستبعدة

دكتور سعد الدين إبراهيم، الصورة: صالح دياب
سعد الدين إبراهيم يتوقع بأن القضاة المصريين قد يشكلون - فيما بعد - نقطة ضعف قاتلة لمبارك

​​في مصر تحت رئاسة مبارك لا تحظى المساواة القانونية للمواطنين بالاحترام أو الرعاية، على الرغم من أن الدستور المصري ينص عليها صراحة، ويتجلى هذا بصورة خاصة فيما يتصل ببناء وحماية الكنائس القبطية. وفي شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي - حين هاجم بعض المسلمين المتعصبين كنيسة قبطية في الإسكندرية - أسفر ذلك الهجوم عن جرح العديد من الأقباط.

وبعد ذلك بستة أشهر استهدف أحد المتعصبين ثلاث كنائس أثناء قداس الأحد، فقتل قليلاً من مرتادي الكنائس وأصاب الكثيرين منهم. وخلال الأيام الثلاثة التالية، نظم الأقباط المسيرات في شوارع الإسكندرية، في احتجاج على تهاون السلطات الأمنية في التعامل مع الفاعلين، أو تحويل مجتمعهم إلى كبش فداء، أو حتى احتمال أن تكون يد رسمية ضالعة في الهجمات لتبرير تمديد العمل بقانون الطوارئ.

إن الحروب الداخلية الأربع التي يخوضها حسني مبارك ، تتغذى على الفئات المستبعدة في مصر. ولقد أصبحت تلك الفئات في تمرد متزايد ضد النظام الذي عَـمَّـر كثيراً إلى ما بعد زوال سلطته الشرعية. وربما تثبت الأيام أن الحرب ضد القضاة كانت بمثابة "كعب أخيل " بالنسبة لمبارك، أو نقطة ضعفه القاتلة.

إن العدالة تشكل قيمة أساسية للمصريين، وبغيابها تتأجج الصراعات وتبرز الاحتجاجات والاعتراضات. وليس هناك دليل على ذلك أقوى من تلك الأعداد غير المسبوقة من المواطنين الذين احتشدوا في مظاهرات سلمية تضامناً مع القضاة.

بقلم سعد الدين إبراهيم
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2006.

أستاذ علم الاجتماع السياسي في الجامعة الأميركية بالقاهرة ورئيس مركز بن خلدون لدراسات التنمية

قنطرة

تونس ومصر نموذجا
يعتصم القضاة في مصر بنادي القضاة بالقاهرة كآخر شكل من أشكال الاحتجاج، كما يعتصم المحامون بدار المحاماة بتونس بعد أن تجاوزت السلطة كل الحدود في عدم إقامة أي اعتبار لشأنهم.

علاقة فوق فوهة البركان
توترات وصدامات بين مسلمين وأقباط ليست أحداث فردية في مصر كما يشاع، والدولة مازالت تحل الخلافات بين الطرفين بظهور شيخ الأزهر وبابا الكنيسة يتبادلان العناق والقبلات. تقرير نيللي يوسف

ما مستقبل الليبراليين؟
يرى الصحفي المصري إسندر العمراني أن هناك أدلة على وجود تأييد لليبرالية في مصر ولكن السؤال هو ما إذا كان بإمكان الأحزاب الليبرالية الحصول على تأييد المصريين وتشكيل قاعدة انتخابية.

لقد اهتز عرش الاستبداد
يتحدث سعد الدين إبراهيم أحد المرشحين للرئاسة المصرية وأستاذ علم الاجتماع السياسي في الجامعة الأمريكية في القاهرة ورئيس مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية عن مدى مصداقية أوربا والولايات المتحدة في دعم الديموقراطية في العالم العربي.

www

project-syndicate.org

مركز بن خلدون للدراسات الإنمائية