شبح الاختطاف يلاحق النساء في سوريا

اختطاف النساء في سوريا (Poto: picture alliance / Sipa USA / E. Gestri)
سوريون يتظاهرون أمام المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي رافعين صور نساء علويّات مختطفات في سوريا، 24 مايو/أيار 2025. (Photo: picture alliance / Sipa USA / E. Gestri)

في سوريا الجديدة بعد الأسد، لا تزال تختفي النساء قسرًا، وتُجبر أخريات على "الزواج" بالإكراه. في شهادة خاصة لـ"قنطرة"، تتكشف فصول مرعبة من الخوف والتهديد.

الكاتبة ، الكاتب: لميس عبد الله

في صباح الخميس، 20 شباط/فبراير 2025، دخلت سمية (اسم مستعار)، 38 عامًا، متزوجة وأم لثلاثة أطفال، من ريف حماة في سوريا إلى مستوصف حكومي لتلقي علاجها الأسبوعي من داء الليشمانيا، كانت الساعة تشير حينها إلى الثامنة صباحًا؛ عندما أوصلتها حافلة كالعادة إلى المركز، وانتظرتها لتأخذ الإبرة، إلا أنها لم تخرج هذه المرة.

 يقول شقيقها لـ"قنطرة": "أخبرنا الموظفون أنها غادرت بعد تلقي العلاج، لكن لم يرها أحد منذ ذلك الحين". 

قدّمت العائلة في ذلك اليوم بلاغًا إلى جهاز الأمن العام في المحافظة، لكن الجهاز أخبرهم أنه لا يمكنه التحرك قبل مرور 24 ساعة على اختفائها. رغم ذلك، بدأ شقيقها البحث عنها في شوارع المدينة، دون أن يعثر على أيّ أثر لها.

وبدأت حوادث الاختطاف تتصاعد في مناطق الساحل ومحافظتي حمص وحماة، عقب اختفاء رشا العلي، أستاذة في كلية التربية بمدينة حمص، وذلك بعد أقل من شهرين على سقوط نظام بشار الأسد. ويُقدَّر عدد المختطفات منذ ديسمبر/كانون الأول الماضي بالعشرات، لكن لا تتوفر إحصائيات دقيقة، بحسب ما أفاد به المرصد السوري لحقوق الإنسان لموقع قنطرة.

تهديدات واختفاء قسري

تلقت عائلة سمية، بعد يومين، رسالة عبر تطبيق "واتساب" من رقم أجنبي يطالب بفدية قدرها 10 آلاف دولار، تلتها رسائل أخرى من أرقام أجنبية، تطالب أيضًا بمبالغ مالية.

وبعد خمسة أيام، وصل تسجيل صوتي بصوت سمية من رقم يعود إلى دولة عربية، تقول فيه إنها كانت غائبة عن الوعي لأربعة أيام، أما اليوم فهي بخير، وإنها قد تزوجت من رجل لا تعرف عنه شيئًا، وتوصي أولادها بالاهتمام بدراستهم، فهي لن تعود إلى منزلها، حسبما قالت.

وطلبت من شقيقها في التسجيل؛ الذي حصلت قنطرة على نسخة منه، ألا يعاود أحد من أفراد أسرتها مراسلتها أو محاولة الاتصال بها، مؤكدةً أنها توسلت إلى الرجل المجهول الذي عقد قرانه عليها، بأن يسمح لها بمراسلة ابنتها.

يقول شقيقها: "أصبنا جميعًا بصدمة، فقد بدا أنها كانت تحت الضغط"، وقالت في التسجيل إنها في دولة عربية، وعندما اتصلت العائلة بالرقم، أجاب رجل بلهجة البلد الذي يعود إليه الرقم، يضيف شقيقها: "أعتقد أن الأرقام مزيفة، وأن الخاطفين في داخل الأراضي السورية".

ويستطرد قائلًا: "نحن نعلم أنها مختطفة، لكن لا نملك شيئًا نفعله، كل كلمة قد تُكلّفنا حياتها".

يشاطر شقيق سمية قلق عائلات المختطفات الأخريات، إذ امتلأت وسائل التواصل بمناشدات بحث عن فتيات خُطفن في وضح النهار قرب منازلهنّ أو أماكن عملهنّ. في المقابل، التزمت عائلات أخرى الصمت خوفًا من الوصمة الاجتماعية أو استهداف بقية أفرادها، ما حال دون البحث الجدي عن بناتهنّ.

في بعض الحالات، عادت النساء إلى منازلهن، لكنهن واجهن ضغوطًا أمنية وإعلامية لتسجيل فيديوهات تدحض تعرضهنّ للخطف. يقول قريب إحدى الناجيات لـ"قنطرة": "عادت ابنة عمي بعد عشرة أيام من الغياب، لكن السلطات طلبت منها تصوير فيديو تُنكر فيه تعرضها للخطف، وافقت خوفًا من الفضيحة"، ومع ذلك فقد هوجمت وتعرّضت للمضايقات والشتائم التي طالتها وعائلتها على مواقع التواصل الاجتماعي، وبعضهم اتهمها بأنها كانت برفقة أحد الرجال وأسرتها استغلت غيابها لتسيء إلى السلطة الجديدة، بحسب ما أكد. 

وغالبًا ما ظهرت العائدات عبر مقاطع الفيديو يبررن أنهنّ انتقلن طوعًا إلى محافظة أخرى للبحث عن عمل أو للقاء صديقة، من بينها فتاة قاصر، قالت إنها سافرت من محافظة إلى أخرى "لرؤية عائلتها في حياتها السابقة"، ما أثار موجة سخرية من معتقدات الطائفة العلوية التي تؤمن بتناسخ الأرواح.

كما ظهرت فتاة أخرى في فيديو عائلي أثناء استقبالها، تبكي وتهمس لشقيقها: "اغتصبوني يا حسن"، لاحقًا، احتُجزت لساعات، وصورت فيديو جديد تنفي فيه كل ما حصل، مدعية أنها كانت في حلب مع صديقة تعرفت عليها على مواقع التواصل الاجتماعي. 

وفي حالات أخرى، عُثر على نساء في محافظات تبعد مئات الكيلومترات عن أماكن اختفائهنّ، دون أيّ توضيح رسمي لآلية وصولهنّ إلى هناك، وسط غياب شبه كامل لأي تحقيق في ملابسات هذا الاختفاء الجماعي. وقد تواصلت "قنطرة" مع السلطات المحلية السورية للاستفسار عن الأمر، لكنها لم تتلقَّ أيّ رد حتى وقت نشر هذا التقرير.

وتتنوع أسباب عمليات الخطف في سوريا ما بين طلب الفدية لتحقيق مكاسب مالية، وتصفية الحسابات القديمة، وفرض شروط على جهات معينة، إضافة إلى الدوافع الانتقامية ذات الطابع الطائفي أو العشائري، حيث يسعى المنتقِم غالبًا للرد بالطريقة ذاتها التي تعرّض فيها للإهانة أو الأذى، بحسب ما أكد مدير المرصد السوري رامي عبد الرحمن لـ"قنطرة"، مضيفًا أنها لا تقتصر على النساء فقط، بل تشمل أيضًا الرجال. 

وتزايدت أعداد خطف النساء، خاصة العلويات، بعد مجازر الساحل، حيث ارتبطت بعض الحالات بالزواج القسري، ومحاولات الضغط على ذوي المختطفات أو تصفية حسابات قديمة.

خوف يومي يطارد النساء

تشعر النساء القابعات في بيئة ينشط فيها الاختطاف بالخوف من المصير المجهول، هذا الشعور بات جزءًا من الحياة اليومية للنساء في بعض قرى ومدن الساحل وحماة وحمص. 

تقول مريم، وهي فتاة علوية من مدينة جبلة الساحلية: "لا نخرج ليلاً إطلاقًا، بعضنا قرر ارتداء الحجاب كوسيلة وقائية من الاختطاف، إلا أننا نعلم أن الاختطاف قد يقع على جميع الطوائف دون استثناء، إلا أن هنالك تهديد إضافي لكوننا ننتمي إلى الطائفة العلوية، الخوف يجتاحنا جميعًا، نساءً ورجالاً".

أما هبة، وهي معلمة من حي ذي أكثرية علوية في حمص، فتقول: "المسافة بين منزلي والمدرسة التي أعمل بها لا تتجاوز عشر دقائق سيرًا، ولمجرد مرور سيارة ذات نمرة غير واضحة أو مظللة النوافذ، أستحضر جميع سيناريوهات الخطف، ورغم اقترابي من سنّ الخامسة والثلاثين، اضطر إلى إبلاغ أهلي عند خروجي ووصولي إلى المدرسة".

تُضيف هبة: "مؤخرًا، بدأت الفصائل في منطقتنا تنصب حواجز وتسيّر دوريات، وتُفتّش هويات النساء فقط، كل هذه الوقائع المريبة تدفعنا لعدم مغادرة المنزل إلا للضرورة. بالتأكيد هناك اختطاف وابتزاز، لكن الشائعات التي تحيط بالقضية تطمس حقوق الضحايا والناجيات".

"إبادة جماعية ثقافية"

يقول الباحث السوري سامي كيال إنه لا يمكن فصل ما تتعرض له النساء في الساحل السوري والمنطقة الوسطى عن سياق العنف الذي يستهدف البنية الاجتماعية في المنطقة. وقد تعرّض الساحل السوري إلى مجازر قتل في 7 و8 مارس/آذار الماضي،  ووصفتها منظمة العفو الدولية بـ"عمليات قتل جماعي". وألقت المنظمة باللوم على "ميليشيات مقربة من الحكومة السورية الجديدة"، وشكّل الرئيس أحمد الشرع لجنة تحقيق ووعد بمحاسبة المسؤولين دون أن يُقرّ هو نفسه بأي ذنب.

ويضيف أن "الاختطاف، والتزويج القسري، وتغيير الدين، وإجبار النساء على إنكار ما تعرضن له، ليست أفعالًا فردية أو جنائية فقط، بل أدوات ممنهجة لهدم البنية الاجتماعية للطائفة العلوية كاملةً". 

ويعتبر كيال أن الاستخدام العنيف للنساء يعد وسيلة للإذلال، وقد يُصبح أداة من أدوات "الإبادة الجماعية الثقافية"، بحسب وصفه. ويضيف أن البنية الأبوية لا ترى المرأة ككيان مستقل، بل "هي على دين زوجها"، ما يجعل تزويج المختطفات فعلاً متعمدًا لتذويب انتمائهنّ، وتحويلهنّ إلى نساء مستلَبات الهوية والمكانة.

ويرى أن "البُنى الميليشياوية التي تتجلى على صورة "فصائل منفلتة" بما تحمله من عنف موجه تجاه النساء، توظف سلطتها لإقصائهنّ عن الفضاء العام، وكسر إمكانية وجودهن كذوات فاعلة".

ويحمّل الحكومة الانتقالية المسؤولية المباشرة عن هذه الانتهاكات، مؤكدًا أن "السلطة هي من ترتكب هذه الجرائم"، من خلال استخدام خطاب الدولة المركزية، بدعوى ضرورة نزع الشرعية عن المعارضة بالقوة، مضيفًا:"أن هذا الخطاب في حقيقته، لا يعبّر عن دولة، بل عن ائتلاف فصائل مسلّحة".

ويرى كيال أن جمهور السلطة، بدوره، متواطئ بصمته، بل وبخطابه المزدوج، "فمع أن كثيرين يدركون أن ما يجري بحق العلويين جريمة، إلا أنهم يكررون رواية السلطة، لأنها تتيح لهم التماهي مع العنف وتمنحهم شعورًا بالهيمنة".

قنطرة ©