حلم نهضة إسلامية
الاخوان المسلمون: أول حركة اجتماعية مصرية
ايفيزا لوبن
جاءت الانتخابات البرلمانية المصرية فى نوفمبر/تشرين الثاني 2001 بأكبر المفاجآت للمراقبين، ألا وهي النجاح المعقول نسبيا للإخوان المسلمين. فبالرغم من التدخلات الضخمة لقوات الأمن، وأيضا رغم حملة الاعتقالات الجماعية والمحاكمات التى تعرض لها أعضاء الجماعة منذ منتصف التسعينيات - والتى غالبا ما استهدفت أنشط الكوادر الوسيطة- برغم كل هذا حصل الإخوان على سبعة عشر مقعدا فى البرلمان. ومع أن هذا العدد لا يمثل سوى 5% من مقاعد البرلمان، إلا أنه يزيد عما حصلت عليه أحزاب المعارضة مجتمعة.
لهذه النتيجة قبل كل شيء معنى رمزيا يتجاوز كثيرا الوزن البرلمانى الفعلى للإخوان المسلمين. فقد كشف هذا للرأى العام أن الإخوان يمثلون القوة المعارضة الوحيدة الحقيقية فى مصر. بل يمكن القول أنها القوة الوحيدة الفاعلة اجتماعيا، التى تتمتع بنفوذ جماهيرى يتجاوز حدود النخبة السياسية والثقافية فى مصر، وهذا بالرغم من الحظر الذى فرض عليها منذ أيام عبد الناصر ولمدة تزيد عن نصف قرن من الزمان. واذا ما أخذنا بالاعتبار أن عدد الأعضاء العاملين بالإخوان بلغ نحو نصف مليون عضو فى نهاية الأربعينيات، فإنها تمثل منذ ذلك الحين وحتى الآن أقوى المنظمات المستقلة فى تاريخ مصر الحديثة، وإحدى أقوى الحركات الجماهيرية فى الشرق الأوسط.
أهمية الإخوان المسلمون
لا يمثل الإخوان المسلمون قوة سياسية واجتماعية هامة فى مصر فحسب، بل للمنطقة ككل. اذ أن الطلاب الوافدين من البلدان العربية والذين احتكوا بحركة الإخوان أسسوا منذ فترة مبكرة فروعا فى بلدانهم الأم. واليوم توجد تنظيمات اخوانية – شرعية أو غير شرعية- فى بلدان كثيرة من أهمها التنظيمات الموجودة فى سوريا ولبنان والكويت واليمن والسعودية والجزائر والمغرب والسودان. كما وأن الكثير من إخوان الجيلين الأول والثانى يعملون كمستشارين سياسيين فى العديد من البلاد الإسلامية من المغرب وحتى ماليزيا. ومن بين الإخوان أعضاء مؤسسون فى الشبكات الدولية للبنوك الإسلامية. ومن بين هذين الجيلين أيضا من بنى مؤسسات الإغاثة الإسلامية العاملة على المستوى العالمى. ومن بينهم أيضا من وضع أسس تيار أسلمة العلوم، خاصة فى ماليزيا والولايات المتحدة الأمريكية. فضلا عن التأثير الحالى الملحوظ للإخوان المسلمين على الجاليات الإسلامية فى اوروبا والولايات المتحدة.
وفى مصر، يلعب هؤلاء المتأثرون سياسيا وإيديولوجيا بتيار الأخوان المسلمين- سواء كانوا ملتزمين بفكر الجماعة أو مجرد متعاطفين معها، وبغض النظر عن طبيعة العلاقات التى تربطهم بالقيادة الحالية للجماعة- يلعب هؤلاء أدوارا هامة سواء فى النقابات المهنية أو فى المساجد أو البنى الاقتصادية أو كمثقفين أو أعضاء فى السلك القضائى أو فى الشبكات الاجتماعية غير الرسمية.
لقد أثرت حركة الأخوان المسلمين ومؤسسها حسن البنا تأثيرات حاسمة على الخطاب الإسلامي. ومن خلال هذا أثروا تأثيرا ملحوظا على التطورات الاجتماعية والثقافية والأيديولوجية فى العالم الإسلامي أجمع. وفى غالب الأحيان حدثت هذه التأثيرات دون الرجوع علنا الى اسم الجماعة أو الاعتماد على حسن البنا. فالخطاب يميل عادة الى إعادة إنتاج نفسه تاركا خلفه المؤلف فى دائرة النسيان.
ملاحظات نقدية على الأدبيات السابقة
قبل أن أقدم فرضياتى الخاصة، أريد أن أبدأ بتسجيل بعض الملاحظات النقدية على ما قدم حتى الآن فى الغرب وكذلك العالم العربى، خاصة مصر، حول هذا الموضوع.
بسبب أهمية حركة الأخوان المسلمين التى أشرت اليها فى البداية، نتوقع بطبيعة الحال وجود عدد هائل من الباحثين الذين اهتموا بدراسة هذه الجماعة ومؤسسيها. ونتوقع كذلك أن القضايا التفصيلية- ومنها على سبيل المثال موقف الأخوان من قضية المرأة، وتصورهم للنظام الدولى، وتصورهم للسياسات الاقتصادية والاجتماعية .الخ- قد عولجت بتعمق وعلى نحو شمولى، وأن سيرة حياة حسن البنا وبقية مؤسسى الحركة متوفرة فى لغات كثيرة مثلما هو الحال بالنسبة للشخصيات البارزة الأخرى فى القرن العشرين.
بيد أن الغريب فى الأمر، وعلى عكس المتوقع، أنه لا تكاد توجد أية كتابات فى الموضوعات المشار اليها خارج العالم العربى. فهناك فيض من الكتابات حول الإسلام كدين، والإسلام السياسى، والأصولية الإسلامية، والإرهاب الإسلامي، والمرأة والإسلام.الخ، بينما لا يتجاوز عدد الدراسات التى يمكن أخذها بجدية حول أهم واكبر حركة إسلامية جماهيرية فى القرن العشرين عشر دراسات تقريبا.
صحيح أن الكثير من الكتب التى تتناول موضوع "الأصولية الاسلامية" تتناول من ضمن جماعة الأخوان المسلمين فى عدة صفحات ايضا، لكن إذا ما دققنا النظر قليلا سنجد أن أحدا لم يكد يرجع الى المصادر الأصلية العربية، كرسائل حسن البنا ذاتها على سبيل المثال، فالكل ينقل عمن سبقه، وبالتالى يبتعد الخطاب المصاغ حول الاخوان المسلمين أكثر فأكثر عن الواقع التاريخى الفعلى . ويظل العمل الموسوعى الوحيد المتوفر عن هذا الموضوع حتى الان هو رسالة الدكتوراه التى أعدها ريتشارد ميتشيل(Richard Mitchell) فى نهاية الستينيات، وقد ترجمت الى لغة واحدة فقط و هى العربية.
هناك اذن فجوة بحثية ومعرفية واضحة حول حركة الأخوان ومؤسسيها، سواء فى الأدبيات العلمية أو فى وسائل الإعلام. وعادة ما يتم ملأ هذه الفجوة بتخمينات وأسطرة واسقاطات متعسفة.
ربما كان أحد أسباب هذا هو أن انتباه المراقب- وهذا ينطبق على الصحفيين والمحررين فى وسائل الإعلام مثلما ينطبق على الكثير من الباحثين المختصين بالشرق الأوسط- ينصرف الى كل ما هو مثير وغير عادى. فالظواهر التى تشكل الآخر الثقافى/الحضارى بوصفه نقيضا متطرفا للأنا هى الأكثر تشويقا وإثارة، أما الجماعات الإصلاحية الأقل إثارة فلا تحقق هذه الوظيفة، ومن ثم يتم إهمالها.
يتحول هذا الإهمال الى نوع من انعدام الأمانة فى البحث، بل ويوشك أن ينقلب خطرا إذا ما أدى تناول ما هو استثنائى الى استخلاص نتائج عامة وقطعية يتم إسقاطها بدون تحقيق أو مراجعة على تيارات أخرى.
هذا ما حدث بالضبط خلال العقدين الأخيرين فى المناظرة حول ما يسمى بالأصولية الإسلامية. فقد اندلعت المناظرات الحديثة حول ما هو إسلامي بسبب أحداث تاريخية فارقة لها بعد عالمي، مثل إسقاط الشاه فى إيران واغتيال الرئيس السادات فى مصر. فانطلاقا من هذه الأحداث ركزت الأبحاث على أسباب العنف الإسلامي ونشأة الجماعات المتطرفة. ومن هنا تم تعميم النتائج على كافة أشكال التيارات الإسلامية بما فيها الحركات الإصلاحية، دون الأخذ بعين الاعتبار لما بينها من اختلافات وتمايزات كبيرة.أمثلة
وهنا سوف أتطرق الى عدة أمثلة لتوضيح ما أعنيه:
كانت فرضية التهميش، ومازالت، إحدى النماذج التفسيرية المفضلة بصدد تحليل نشأة الجماعات الإسلامية الراديكالية: فوفقا لهذا النموذج التفسيرى تجتذب الأصولية صبية مهمشين وشبابا لا يتوفر لهم أفق للتحقق فى المستقبل. ووفقا لهذا المنظور تبدو الأصولية أيديولوجية حثالة البروليتياريا والبرجوازية الصغيرة المحبطة. ينطلق رينهارد شولتسه(Reinhard Schulze) مثلا ، الذى يعد أحد الدارسين الجادين للإسلام فى المناطق المتحدثة بالألمانية، من هذه الفرضية، وذلك فى سياق حديثه عن نشأة الأخوان المسلمين. فحسن البنا، طبقا لما لما أشار اليه شولتسه فى دراسته عن الإسلام فى القرن العشرين، كان محبطا لأنه لم يحصل بعد تخرجه سوى على وظيفة مدرس فى الإسماعيلية، أي فى أحد الأقاليم وليس فى القاهرة. ومن ثم يعتبر شولتسه أن تجربة الإحباط هذه ،واحباطات اخرى متعلقة بطفولته، كانت أحد العوامل الذاتية التى دفعته لتسييس الاخوان المسلمين.
لكن الصورة سوف تختلف تماما عما ذكره شولتسه إذا ما قرأنا الخطابات التى أرسلها حسن البنا ابن الثالثة والعشرين من الإسماعيلية الى والده. فالشاب كان فخورا بحصوله على راتبه الأول ومن ثم طلب حضور أخيه الأصغر الى الإسماعيلية حتى يعتنى بتربيته ويخفف من حمل والديه. واستطاع البنا فضلا عن ذلك أن يندمج وبسرعة فى النخبة المحلية للإسماعيلية، وان يتزوج من ابنة أحد التجار المرموقين بالمدينة . الأمر إذن أقرب الى أن يكون قصة نجاح وليس إحباطا كما أشار شولتسه.
وفى أعمال أخرى يتم إسقاط الموضوعات الإسلامية العامة على الجماعات المفردة. فاندرياس ماير (Andreas Meier)، الذى حرر بالالمانية مجموعة من نصوص مصادر الحركات الإسلامية، يطرح السؤال الآتى: لماذا تمكنت الناصرية من الهيمنة الأيديولوجية مقارنة بالبرنامج الإسلامي للإخوان؟. وتقول إجابته: إن الأخوان أرادوا أن تكون حركة التحرر من الاستعمار البريطانى فى إطار الخلافة العثمانية التى يجب استعادتها، بينما أراد الضباط الأحرار أن يكون هذا التحرر فى إطار الدولة القومية، وفى النهاية نجحت خطتهم الأقرب الى الواقع.
اذن هل كان الهدف الحقيقى للإخوان هو استعادة الخلافة؟!. صحيح أن قضية الخلافة كانت موضع نقاش حيوى فى عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضى، لكن الأخوان كانوا بعيدين عن تلك الحوارات بل وتجاهلوها. ولقد ناقشها البنا فى صياغات حذرة ومهذبة، وهو الأسلوب الذى اعتاده البنا فى تعامله مع خصومه وحلفائه على السواء دون استخدام هجوم لفظي قاس، نقول إن البنا ناقش مسألة عودة الخلافة فى المؤتمر العام الخامس عام 1939 بوصفها أمرا غير واقعى محيلا إياها الى مقعد انتظار التاريخ حتى لا يعاد الحديث عنها مرة أخرى. ولدينا الكثير من الأمثلة لهذا النوع من الاستقراء المنطقى وتعميم العام على الخاص.
يصبح هذا التعميم وخيم العاقبة فى الحوارات العامة بعد 11 سبتمبر، وبالتحديد فيما يخص قضية العنف. ففى أغلب الدول الغربية ترسخ تصور يأخذ بهذا التطابق السهل: الإسلامية = الأصولية = العنف. وعلى أساس مثل هذه الصورة رأى البعض أنه من المشروع اتخاذ مواقف تمييز بدون تفرقة ضد كل أشكال الإسلام السياسى وتجريمها فى المجال العام، بل أخذ الرأى العام نفسه يطالب بذلك. ونذكر فى هذا السياق، على سبيل المثال، الحوارات حول إمكانية حظر جماعة ميللى غوريش Milli) (Görüs القريبة من الأخوان المسلمين والتى تعد أكبر جماعة إسلامية تركية فى المانيا.
واذا ما انتقلنا الى المناظرات الجارية فى مصر نجد أنفسنا أمام مشكلة من نوع آخر: فلقد صدر فى مصر، ولازال يصدر، عدد لانهائى من الكتب حول جماعة الأخوان فى مراحلها الأولى. لكن نشر أكثر هذه الكتب يعد جزءا من الصراعات السياسية الحالية لذا تكون تلك الكتب مؤدلجة بشدة. والقليل من هذه الأعمال ما يلتزم بالمعايير العلمية. وتأتى هذه المؤلفات لتبرير الموقف السياسى الخاص بالمؤلف، سواء كان مع الأخوان أو ضدهم. وهذا ما أدى الى أشياء متناقضة ومثيرة للضحك بمعنى الكلمة أحيانا: ففى فترة الأربعينيات اتهمت تقارير استخبارية الأخوان بأنهن يخططون لمؤامرة شيوعية، هذا بينما يفسر الأخوان مطاردة الحكومة لهم بأسباب عدة منها انها مؤامرة شيوعية ضدهم.
مثال آخر يتمثل فى رفعت السعيد، السكرتير العام لحزب التجمع اليسارى، وأحد أبرز من انتقد حركة الأخوان. فعندما يتحدث الى مستمعيه اليساريين فانه يتهم الأخوان بأنهم كانوا عملاء للبريطانيين. وهنا يشير الى اتصالات جماعة الأخوان المسلمين بالسفارة البريطانية إبان الحرب العالمية الثانية. وعندما يريد أن يبرر مطاردة الحكومة لأعضاء الجماعة، فانه يشير الى الهجمات التى قام بها بعض الأخوان فى الأربعينيات على المؤسسات البريطانية وعلى العناصر المؤيدة للبريطانيين، وذلك بهدف التدليل على الجذور الإرهابية للجماعة.
لا نستطيع إعفاء الأخوان أنفسهم من المسئولية فى هذا الصدد. حيث قدم بعض الأخوان معالجات سطحية للغاية لتاريخهم المبكر، باستثناء بعض الكتب التى أضاءت بعض من جوانب هذا التاريخ، خاصة السير الشخصية لمعاصرى حسن البنا من رفقائه. ففى دار نشر واحدة تجد كتبا تسعى الى إقامة علاقة تواصل فكرى بين حسن البنا وسيد قطب، جنبا الى جنب مع كتب أخرى تقرر عكس ذلك، دون أن يشير أحد المؤلفين الى الآخرين، أو يبذل جهدا لمناقشة هذه القضية.
هناك أيضا مشكلة بحثية أخرى تتعلق بالمنهجيات المستخدمة؛ فالأبحاث حول الحركات الاجتماعية، والنقابات المهنية والتيارات الشبابية، أو حول تغيرات الخطاب السياسى، يتم عادة إنجازها داخل حقل البحث الاجتماعي. ولأجل ذلك تم تطوير أدوات بحثية كاملة سواء للدراسات النظرية أو الامبريقية. أما الأبحاث حول الحركات الإسلامية فقد بقيت في الغالب خارج حقل السوسيولوجيا، إذ تم التعامل معها على أنها حكر للعلوم الإسلامية التى تعتبر نفسها علوم فقه- لغوية تستهدف النص فحسب، وتميل بالتالى الى النظر الى كل الظواهر الاجتماعية فى البلدان الإسلامية من خلال منظور دينى. وكثيرا ما لا توجد لتلك العلوم الإسلامية أية علاقة بالواقع الاجتماعي الذي تنشأ وتتطور فيه الحركات الإسلامية وما تنتجه من خطاب، وعليه لا يصبح بإمكان تلك العلوم الإسلامية تفسير المعنى الاجتماعي لهذا الخطاب.قراءة مغايرة لحركة الأخوان المسلمين كحركة اجتماعية حداثية
أسس حسن البنا جماعة الأخوان المسلمين، كما سبق وأشرنا، عام 1928 فى مدينة الإسماعيلية. وكانت الإسماعيلية آنذاك مقرا لشركة قناة السويس التى يسيطر عليها البريطانيون. من هنا كانت المدينة فى نظر الكثير من المصريين رمزا للوجود الاستعماري بحى فيللات الأجانب والأحياء الفقيرة التى تأوي العمال وأسرهم من أبناء البلد. ولقد ظهر هذا بوضوح فى قسم الولاء لأول مجموعة اخوانية:"لا ندرى ما الطريق العملية الى عزة الإسلام وخير المسلمين ولقد سئمنا هذه الحياة، حياة الذلة والقيود، وها أنت ترى أن العرب والمسلمين فى هذا البلد لا حظ لهم من منزلة أو كرامة، وأنهم لا يعدون مرتبة الأجراء التابعين لهؤلاء الأجانب (...) وأن جماعة تعاهد الله مخلصة على أن تحيا لدينه، وتموت فى سبيله، لا تبتغى بذلك الا وجهه، لجديرة أن تنتصر، وان قل عددها وضعفت عددها"
كان البنا يطمح الى تأسيس نظام اجتماعي إسلامي ودولة إسلامية تقوم على قيم أساسية مثل "الأخوة" و"النهوض بالرجل والمرأة معا" و"تأمين الحق فى الحياة والتعليم والملكية والعمل على العناية الصحية" وكذلك على "الحرية والأمن"، وهو ما شرحه فى رسالة "بين الأمس واليوم". أما الاهتمام بالسياسة الخارجية فقد تمثل لديه بداية فى تحرير مصر من نير الاستعمار.
نمت جماعة الأخوان المسلمين فى وقت قصير حتى أصبحت نوعا جديدا تماما من التنظيمات الاجتماعية. ولم يأت هذا من فراغ؛ فلقد انطلق البنا من الأشكال الموجودة بالفعل للتنظيمات الاجتماعية بغرض إعادة صياغتها والوصول بها الى مستوى أعلى للفاعلية والتدخل الاجتماعين وهذا تمثل فى:
أولا: شهدت مصر قبل ظهور الأخوان حركات وانتفاضات شعبية واسعة، مثل تلك المظاهرات التى قادها سعد زغلول وحزب الوفد ضد البريطانيين عام 1919. لكنها ظلت انتفاضات شعبية عفوية. وكانت الأحزاب آنذاك- باستثناء الوفد- شبكات مصالح لشرائح النخبة الأرستقراطية ونخبة الطبقة البرجوازية العليا، ولم تكن بالتالي تمتلك أية جذور جماهيرية. وفى سنوات ما قبل تأسيس جماعة الأخوان المسلمين نمت شبكة من الجمعيات الإسلامية، لكنها كانت فى الغالب الأعم منتديات خطابية حوارية أو جمعيات خيرية. أما البنا فقد صاغ استراتيجيته انطلاقا من "الفرد المسلم"، مرورا ب"الأسرة المسلمة"، ثم "الشعب المسلم"، نهاية بالحكومة الإسلامية"، تلك الاستراتيجية التى جمعت بين التنقية الروحية للفرد المسلم، والتحديث المجتمعى، وتطوير القدرة على الفعل السياسى، فى سياق عضوى اجتماعي جديد.
ثانيا: وجد كذلك قبل البنا مصلحون إسلاميون مثل الأفغاني وعبده ورشيد رضا صاحب مجلة المنار. لكن هؤلاء مثلوا تيارا إسلاميا فكريا افتقد الربط بين الفكرة والفعل الاجتماعي. فى حين تمكن البنا من تحويل هذا التيار الفكرى الاسلامى الى إيديولوجية سياسية شعبية، وخلق تنظيما يعد بمثابة الحامل والتجسيد الاجتماعي لهذه الايديولوجية.
ثالثا: حاول البنا أن يتجاوز انقسام الحركات والمؤسسات الإسلامية بين إسلام صوفي وسلفية نصية أخلاقية منغلقة. كما رفض أيضا انقسام الخطاب الإسلامي الفقهي الى مذاهب مختلفة. لقد كان يفضل إسلاما بسيطا يسيرا لكن من دون أن يشكك فى السلطة الفقهية للأزهر.
وقد صاغ البنا السمات الأساسية للجماعة فى مؤتمرها الخامس بالكلمات التالية: "دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية ثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية".
فى نهاية الأربعينيات أصبح لدى الأخوان المسلمين فى كافة أنحاء البلاد مراكز يضم كل منها مسجدا ومدرسة، وكثيرا ما كان يضم أيضا ورشا لتشغيل العاطلين والنساء والفتيات. وكانت فرق الجوالة تنظم المسابقات الرياضية والرحلات والمعسكرات الصيفية. كذلك افتتحوا مراكز صحية، وامتلكوا بعض الصحف ومطبعة وأسسوا بعض الشركات الاقتصادية فى شكل شركات مساهمة. علاوة على ذلك قاد الأخوان أول حملة لمحو الأمية على مستوى مصر. كما وضعوا أنفسهم ضمن القوى التى تخوض حركة النضال ضد الاستعمار. من هنا تطور إحساسهم بأهمية دورهم حتى أنهم أرسلوا مصطفى مؤمن الى نيويورك عام 1947 بوصفه صوت الشعب المصرى فى مشاورات مجلس الأمن حول مستقبل مصر.
وفى اعتقادى مثلت حركة الأخوان أول حركة اجتماعية حداثية فى تاريخ مصر، سواء من حيث أساسها الاجتماعي، أو من حيث طروحاتها ومبادئها. فالحركات الاجتماعية نتاج للتغير ومنتجة له فى الوقت ذاته. هكذا كتب يواخيم راشكا فى عمله الأساسى حول الجماعات الاجتماعية. فهى من ناحية نتاج للمجتمعات الحديثة، فعمليات التصنيع ومحو الأمية والتمدين أفرزت إشكاليات لم يكن من الممكن التعامل معها من خلال الأشكال السياسية التقليدية أو المفروضة من قبل الدولة السلطوية ما قبل الرأسمالية. ومن ناحية أخرى تتمثل محاولة إنجاز هذا التغير الاجتماعي بوصفها فعلا جماعيا نافذا. أما ما يميزها فى ذلك عن الحركات ما قبل الحداثية فهو وضعها لأطر عقلانية الهدف والفعل. فالأهداف تفهم من خلال أسبابها حيث تحدد فى سياق إيديولوجي شامل وتطوير استراتيجية عقلانية، قصيرة المدى وبعيدة المدى، لأجل التغلب على تردى الواقع.
صعود الأفندية
جاء تأسيس الأخوان المسلمين فى عصر شهد تغيرا اجتماعيا سريعا، وتكون طبقة وسطى ذات أفق برجوازى ( (bürgerliche أطلق عليها "طبقة الأفندية". وكان ذلك فى سياق توسع نظام التعليم الحكومى وجهاز الإدارة فى فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى. وتشمل "طبقة الأفندية" موظفي الجهاز الحكومي، المدرسين، الاكاديميين أصحاب المهن الحرة مثل الأطباء والمحامين والتجار، وكذلك طلبة المدارس العليا. وبدأ الافندية المنحدرون غالبا من البرجوازية الصغيرة المدينية التقليدية، ومن الطبقة الوسطى فى الريف، بدأوا يبحثون عن توسيع وجودهم تدريجيا داخل المجال العام الذى كان أعضاء الطبقة الأرستقراطية العليا (طبقة الباشوات) يهيمنون عليه حتى ذلك الوقت. هذا فى الوقت الذى كانت الجاليات الأجنبية تسيطر على الجزء الأكبر من الاقتصاد. من هنا كانت "طبقة الافندية" ترى فى نفسها طليعة الشباب الذين يتطلعون الى امتلاك مستقبلهم.
أن صعود هؤلاء الافندية، الذين انتقلوا غالبا على المستوى الشخصى من تنشئة اجتماعية أسرية تقليدية الى طريق حداثى للصعود متضمنا تحول الخطاب السياسى، أدى صعود هؤلاء الافندية الى بروز أكبر للخطاب الإسلامي فى الخطاب العام، لكن ذلك الخطاب الإسلامي لم يكن إسلام الأزهر أو الإسلام الشعبي. فالطبقة الوسطى الجديدة اعتبرت كلا الشكلين للإسلام أحد أسباب التخلف الاجتماعي للبلاد، من ناحية بسبب الجمود الارثوذكسى للمذاهب الإسلامية الرسمية، ومن ناحية أخرى بسبب الاعتقاد فى الخرافات اللاعقلانية للإسلام الشعبى. لقد كان الأفندية يريدون تحديث الإسلام وأسلمة الحداثة حتى يجعلوها مقاربة لنموذجهم الفكرى والثقافى الخاص.
كان حسن البنا نموذجا لطبقة الافندية هذه. قضى طفولته فى قرية المحمودية التى تقع فى دلتا النيل وعلى أحد فروعه (فرع رشيد). وكان والده يعمل ساعاتي، وفى أوقات فراغه يعمل كإمام مسجد وعالم خارج الهيئة الدينية الرسمية. فيما بعد انتقلت الأسرة الى القاهرة كى يتمكن حسن، وكان الابن الأكبر بين خمسة أطفال، من مواصلة دراسته فى كلية المعلمين الجديدة "دار العلوم"، ومنها انتقل الى شغل وظيفته الأولى كمدرس فى الإسماعيلية. وعندما أنشأ البنا هناك جماعة الأخوان كان لم يزل فى الثالثة والعشرين من عمره. وعندما انتقل عام 1932 الى القاهرة أصبحت جامعة فؤاد ذات الطبيعة العلمانية (جامعة القاهرة الآن) وليس الأزهر أو المعاهد الدينية مركز التجنيد الرئيسي للجماعة.
النهضة الحديثة أو البحث عن النهضة الإسلامية
انعكست موجة صعود طبقة الأفندية فى إيمان البنا بالتقدم. فقد دعا المسلمين الى فهم القرآن بوصفه علامات هادية على طريق الفعل. لم يكن البنا يدعو الى الرجوع الى إسلام ماضوى، وانما كان يدعو اتباعه الى فهم القرآن بالتعمق فى معانيه ومعايشتها فعليا فى حياتهم الاجتماعية. ف"الفهم" و"العمل" مصطلحان يترددان بصفة دائمة فى رسائله. لقد كان يدعو الى إحياء روح الإسلام وعزم الصحابة، والنظر أثناء ذلك الى الأمام للمستقبل بنفس التفاؤل الذى نظرت به الطبقة البرجوازية الأوروبية(Das europäische Bürgertum) ابان صعودها.
ينتشر مصطلح "النهضة الجديدة" أو "النهضة الحديثة"، التى ينبغى أن تشمل كافة جوانب الحياة، فى كل كتابات حسن البنا. ومن هنا يتحدث بصورة متبادلة عن "التقدم" و"الرقى" و"العمران" و"بناء المستقبل" و"تكوين الأمة". والتطلع، على سبيل المثال، الى نظام تعليمى "لرجل المستقبل" الذى سيحمل "النهضة الحديثة" على كتفيه.
وتنجز قضية التقدم فى مراحل متتابعة متعاقبة: فالأمم التى تتطلع، كما يرى البنا، الى نهضة حديثة، لا بد وأن تجتاز مرحلة انتقالية تبنى فيها حياتها المستقبلية على أساس متين يضمن للجيل الناشئ الرفاهة والهناءة. وفى سياق عملية التقدم يتكامل المجتمع والعلم. فقد أكد علماء الاجتماع أن حقائق اليوم كانت أحلاما بالأمس، كذلك فان أحلام اليوم هى حقائق الغد. فمحور تقدم الإنسانية وتدرجها مدارج الكمال هى حقائق أساسية. وقد أبرز البنا تفاؤله بالمستقبل مدركا وملاحظا أن الكثير من الاكتشافات والاختراعات العلمية المعروفة اليوم كانت فى العصور المبكرة غير ممكنة التصور حتى لخيرة العلماء آنذاك. ومن خلال تبنيه لمفهوم التاريخ الخطي الصاعد، وكذلك من خلال انتقائه لمصطلحاته، يريد البنا أن يجد لمعانيه ومصطلحاته مكانا فى الخطاب الحداثى النهضوى القائم على التنوير.
لكن، اذا كان قانون حركة التاريخ يعد عند البنا قانونا عاما وكونيا، الا أنه أكد على ضرورة أن تعتمد نهضة الشعوب الإسلامية على نظام القيم الموحى به فى القرآن، وعلى ربط روحانية الدين بالتطبيق العملى. إذ على هذه الشعوب أن تهتدى فى نهضتها بالقيم الإسلامية الأساسية مثل العدل والأخوة، كما ينبغى عليها محاربة الفساد الأخلاقي وعدم السماح بخرق الحدود التى سنها القرآن.
أريد هنا أن أشير سريعا الى ثلاثة أمثلة تبين كيف كان البنا يريد أن يطبق روح الإسلام على الحقل السياسي والاجتماعي. لكن قبل ذلك لى ملاحظة منهجية: فبعض المؤلفين اتهموا البنا بأنه، مختلفا فى ذلك عن غيره من المفكرين الإسلاميين، لم يقدم نموذجا سياسيا اجتماعيا شاملا. وهنا يقع هؤلاء، فيما أرى، فى سوء فهم لوظيفة إيديولوجية الحركات الاجتماعية. فيكتب راشكا، الذى أشرت اليه من قبل، عن وظيفة إيديولوجية الحركات الاجتماعية:"إنها مثل خريطة للاهتداء بها فى عالم شديد التعقيد. فالتبسيط، والتركيز على نقاط معينة تدفع الجوهري الى مركز الاهتمام. فإيديولوجية حركة ما تبرز تناقضات معينة بوصفها أسباب لعدم الرضى، وتخطط صورة للواقع خالية من التناقضات. وترى الحركة بوصفها القوة الوحيدة لتجنب هذه التناقضات".
كذلك توجد أسباب أخرى تفرض على خطاب أي حركة اجتماعية أن يكون مفتوحا: لا بد وأن يحدث الخطاب نوعا من الاندماج والتكيف داخل الحركة، وأن يبني جسرا للتواصل مع حلفاء محتملين، وأن توجد لديه القدرة على تفهم واستيعاب الحركة التاريخية.
لقد أكد حسن البنا على آلية الإجماع الاجتماعي. وكان يفضل أن تترك الأسئلة المتخصصة للمختصين. وسعى الى إحياء مبادئ الإسلام، لكنه كان يؤمن فى ذات الوقت بمبدأ الاختلاف ويدعمه علنا. وقد أشار فى رسالة "دعوتنا" الى "اختلاف العقول فى قوة الاستنباط أو ضعفه وإدراك الدلائل والجهل بها والغوص فى أعماق المعانى.." والى اختلاف البيئات حتى أن التطبيق ليختلف باختلاف كل بيئة". ولأن الدين يدرك من خلال الفهم الذى يختلف حسب كل ذلك، فلا بد وأن تطبق مبادئ الإسلام بطرق مختلفة. وهذا هو المدخل للقول بالشمولية الكونية للقرآن، أي القول بأنه صالح للتطبيق فى كل زمان ومكان.المثال الاول: النظام السياسي
لا بد وان يعتمد النظام السياسي فى رأى البنا على ثلاثة مبادئ رئيسة: الحفاظ على وحدة الأمة، مسئولية الحاكم أمام الأمة، واحترام إرادتها. وهنا يتمتع مبدأ الحفاظ على وحدة الأمة بأولوية مطلقة حتى أمام الالتزام بأحكام السلوك الإسلامية. ويتضح هذا من خلال ذكره للحديث:"ومن خرج على أمت يضرب برها وفاجرها...فليس منى ولست منه". فهذا الإصرار على مبدأ الوحدة له خلفيتة: فالترابط والوحدة ضد الاحتلال البريطاني كان شرطا لنجاح الحركة الوطنية.
رفض البنا النظام الحزبي المصري رفضا قطعيا، بيد أن أسباب ذلك كانت براغماتية وليست إيديولوجية دينية:"هى (أي الأحزاب) سيئة هذا الوطن الكبرى، وهى أساس الفساد الاجتماعي الذى نصطلي بناره الآن، وأنها ليست أحزابا حقيقية بالمعنى الذى تعرف به الأحزاب فى أى بلد من بلدان الدنيا، فهى ليست أكثر من سلسلة انشقاقات أحدثتها خلافات شخصية بين نفر من أبناء هذه الأمة، اقتضت الظروف في يوم ما أن يتحدثوا باسمها وأن يطالبوا بحقوقها". وفى مقابل هذا فإن البنا يفضل نظاما للانتخابات الفردية المباشرة كبديل عن النظام الحزبى.
ولا تتحقق وحدة الأمة، فى رأى البنا، عن طريق إجراءات جبرية من قبل السلطة، وانما عن طريق إجماع اجتماعي يتم تشكله من خلال عمليات دستورية تشريعية تتمثل فى نظام الشورى. فالحاكم مسؤول أما الجماعة ومن حقها أن تحاسبه وأن تعزله إذا لزم الأمر. ويحدد البنا مبدأه الثالث، اي احترام إرادة الأمة، بوصفه شكلا للعقد الاجتماعي بالمعنى الحديث. و انه يتضمن من واجبات الحاكم أن يستشير الأمة ويأخذ بمشورتها عند ممارسته للحكم. وفى هذا السياق يقترب البنا من المفهوم البرجوازي(bürgerlich) "سيادة الشعب" وان كان يتبناه تحت مسمى "سلطة الأمة".
مثال الثاني: مفهوم القومية عند البنا
ليس بالضرورة أن تتحقق وحدة الأمة، التى يدعو اليها البنا، فى دولة إسلامية موحدة. ففى فترة الأربعينيات وبصفة خاصة مع تنامي مشاركة الأخوان المسلمين فى الحركة الوطنية، تصبح القومية المصرية بوضوح متنامي وحدة تميز اجتماعي للهوية. وفى رسالته "دعوتنا فى طور جديد" سبق البنا نموذج دوائر الانتماء المتحدة المركز التي طورها فيما بعد جمال عبد الناصر، والتى تندمج فيها الهويات المتنوعة، حتى وإن لم تتطابق الدوائر عند البنا وناصر، فهي عند البنا دائرة القومية المصرية، ودائرة الأمة العربية/الإسلامية، ودائرة الشرق.
وتأتى مصر فى مركز الدوائر الأخرى. يقول البنا فى إحدى رسائله:"المصرية لها فى دعوتنا مكانها وحقها فى الكفاح والنضال..إننا نعتز بأننا مخلصون لهذا الوطن الحبيب عاملون له مجاهدون فى سبيل خيره. وسنظل كذلك.معتقدين أن هذه هى الحلقة الأولى فى سلسلة النهضة المنشودة. وأنها جزء من الوطن العربى العام. وأننا حين نعمل لمصر نعمل للعروبة والشرق والإسلام".
وتأتى بعد ذلك الدائرة العربية لتعتلى الدائرة المصرية. غير أن الوقت، كما يرى البنا، لم يكن قد نضج بعد لطرح السؤال عن الشكل الممكن للكيان السياسى المنشود للأمم العربية. فمن حق كل شعب من الشعوب العربية أن يختار بنفسه الشكل المأمول للحكم. لكن لا بد بداية وقبل كل ذلك من تحقق شرطين هما: حق تقرير المصير وسيادة الشعوب، قبل أن يدور أي حوار حول البنى السياسية الأشمل. وفى هذا يرى البنا أن تحالفا بين الدول العربية، وهو ما تحقق فيما بعد فى شكل رابطة الدول الإسلامية، يعد شكلا مناسبا للتعاون. ومثل هذا التحالف سيكون عامل استقرار فى نظام السلام العالمى المنشود بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.
ويعتمد البنا على نظام القيم الذى نص عليه ميثاق الأطلسى، حيث طالب بتطبيقه على العالم العربى- الإسلامي ايضا. وهذا يعنى طلاقا بائنا بين البنا وبين الثنائيتين الشهيرتين: الثنائية الجغرافية السياسية الإسلامية التقليدية المبنية على (دار الحرب/دار الإسلام)، والثنائية الأخرى التى تقسم النظام القيمي الى ما هو إسلامي وما ليس إسلاميا. فالقيم الإسلامية لدى البنا تلتقي مع النظم القيمية الأخرى، ويمكن تحقيقها واقعيا فى النظام الدولي القائم. وبهذا المعنى يكتب البنا فى خطاب يوجهه الى لجنة تكوين الجامعة العربية:"إننا ننادى بضرورة الاستفادة من التراث القرآنى فى الحياة العملية، الذى هو للمسلمين دين والذى يعطى الأمة العربية والعالم أمنا وسلاما".
المثال الثالث: النظام الاقتصادي الاجتماعي
يعتمد النموذج الاقتصادي لحسن البنا على الجمع بين العداء للاستعمار الاقتصادي، وهو ما أدى به فيما بعد الى المطالبة بتأميم الممتلكات الأجنبية، وبين البحث عن طريق ثالث بين الرأسمالية والاشتراكية وذلك على أساس اقتصاد أخلاقي إسلامي، هذا إذا ما أردنا استخدام مصطلح تومبسون (Thompson) .
تعبر طروحات البنا الاقتصادية الاجتماعية عن مصلحة البرجوازية الصغيرة والطبقة الوسطى، وهما الأساس الاجتماعي للإخوان المسلمين، وذلك بتشجيعها على تخطى التفاوتات الطبقية الحادة بين الفقر والغنى من خلال الحد من الملكيات الكبيرة، وتشجيع الملكيات الصغيرة، وكذلك الحد من الاستهلاك الترفي للطبقات العليا. وفى ذات الاتجاه يأتى تشجيع البنا على الاستخدام الإنتاجي لرأس المال، والتركيز على ضرورة الالتزام بأخلاقيات عمل إسلامية تقوم على التقوى. وأساس هذا النظام الاقتصادى عند البنا هو "المال الصالح" الذى يجب استثماره فى الإنتاج واستخدامه لأهداف خيرة تقية. ويضيف الى هذا النظام الاقتصادي نظام ضمان اجتماعي شامل لكل المواطنين، مشتقا إياه من نظام الزكاة، لكنه يرى فى الوقت نفسه ضرورة إكمال نظام الزكاة التقليدى بنظام الضرائب التصاعدية الحديث.
هل كان البنا أصوليا؟
تعتبر كثير من الأدبيات حسن البنا أبا للأصولية الإسلامية، لذا فاني أريد أن أطرح هنا هذه التسمية للتساؤل.
رأينا من خلال الأمثلة الثلاثة المذكورة آنفا أن البنا لم يكن يقف معترضا طريق الحداثة، ولم يكن يستنبط نموذجه الاجتماعي من المرجعيات النصية الدينية مباشرة. وبهذا المعنى أعتقد أنه لم يكن أصوليا.
يشير أستاذ علم اجتماع الدين مارتن ريزبرودت (Martin Riesebrodt) الى الفرق بين التفكير الأصولي بوصفه شكل من الالتزام النصى بالقرآن (أو الانجيل مثلا) ، وبين ما يسميه رجوعا يوتوبيا. فالفكر الأصولى وفقا لريزبرودت " يرى أن أسباب أزمة المجتمع تتمثل فى الانحراف عن مبادئ النظام أبدية الصلاحية، إلهية المصدر، والتى يتم نقلها نصيا وحرفيا، وسبق وأن تحققت فى مجتمع مثالي: هو ما يسمى بالعصر الذهبى للجماعة الأولى سواء كانت مسيحية أو إسلامية أو غير ذلك". وتخطي الأزمة الحاضرة يكون ممكنا فقط بالعودة الى القانون الإلهي. هذه هى الأصولية بالنسبة لريزبرودت.
الى جانب ذلك وجدت حركات ومدارس وتيارات فكرية يوتوبية. وهذه تعلن شرعيتها أيضا اعتمادا على القانون الإلهي أو الوحي أو جماعة أولى مثالية. لكن هذا النظام المثالى يتحول الى يوتوبيا فى إطار تجاوز تقدمي للأزمة، فليست الحروف والنص وانما روح الماضى هى التى يمكن تحويلها الى واقع فى ظل شروط جديدة.ونعتقد أن البنا ينضوى بوضوح تحت التعريف الثانى.
فى طروحاته فى مجالي السياسة الاقتصادية والسياسة الاجتماعية، على وجه الخصوص، نجد البنا يشير باستمرار الى روح الإسلام. فهو يدعو الى نظام أخلاقي يقوم على الحق والعدل والأخوة، مشتقا تلك القيم من الإسلام كما يتصوره. وفى تلك الحالات الخاصة التى يوجد بشأنها نص قطعي واضح الأحكام، يطالب البنا بالالتزام بها، والطريق الى هذا الالتزام يكون برجوع الفرد الى دينه والتطهر الروحى. ان البنا يمثل الانتقال من التقليدى الى الحداثي، بوصفه انتقالا تاريخيا، وبوصفه انتقالا ايديولوجيا أيضا: فهو يدخل الى مفاهيم الحداثة من خلال مصطلحات تقليدية، ويملأ فى نفس الوقت المفاهيم التقليدية بمضامين حداثية، ويستبدل على نحو تدريجى جزء من المفاهيم التقليدية بمفاهيم حديثة. أما نقده للنماذج الاجتماعية الغربية فانه يبدأ عندما يتعلق الأمر بالأحكام الأخلاقية وبالوحى الإلهي حول الدولة والمجتمع.
نص محاضرة ألقيت في القاهرة في إطار فعالية الهيئة الألمانية للتبادل العلمي بعنوان: تجارب الإصلاح وحوار حول أوجه الإصلاح المختلفة في العالم العربي
ايفيزا لوبين درست السياسة والأقتصاد فى بريمن ودرست العربية فى دمشق. عملت ولسنوات طويلة كصحفية حرة. وهى تكتب الآن رسالةالدكتوراه حول مؤسس الإخوان المسلمون، حسن البنا.
ترجم النص عن الألمانية د. عبدالسلام حيدر و راجعته الباحثة