حوار خاص لقنطرة مع المفكر وائل حلاق حول بعض الاعتراضات المثارة على "الدولة المستحيلة"
حوار خاص لقنطرة مع المفكر وائل حلاق حول بعض الاعتراضات المثارة على "الدولة المستحيلة"
أجرى الحوار وترجمه من الإنجليزية عثمان أمكور
لقد خلق كتاب "الدولة المستحيلة" لوائل حلاق، جدلاً في الساحة الثقافية، لما أثاره من قضايا مرتبطة بجذور الدولة الحديثة، واختلافاتها البنيوية مع الدولة الإسلامية في صيغتها التاريخية، وهذا ما جعلَ كتابهُ "الدولة المستحيلة" محطَ مسائلة ونقد معرفي وايديولوجي من طرف أرباب التيارين الحداثي والإسلامي معاً، ومن أجل التفاعل مع بعض هذه الاستشكالات النابعة من هاذين التيارين، قامت قنطرة بحوار مع المفكر وائل حلاق من أجل الإجابة على بعض هذه الانتقادات الموجهة لعملهِ العلمي.
البروفيسور وائل ب. حلاق أستاذ بمؤسسة أفالون في العلوم الإنسانية في جامعة كولومبيا ، حيث يدرس الأخلاق والقانون والفكر السياسي منذ عام 2009. ويتناول تعليمه وأبحاثه التمزقات المعرفية الإشكالية الناتجة عن بداية الحداثة والأوضاع الاجتماعية. - القوى السياسية والتاريخية التي تندرج في إطارها؛ مع التاريخ الفكري للاستشراق وتفاعلات التصورات الاستشراقية مع مختلف الحقول المعرفية المرتبطة العلوم الاسلامية.
قام حلاق من خلال كتاباتهِ من خلقِ بناء معرفي يتفاعلُ فيه مع سؤال الحداثة والتشريع الإسلامي ، كما فحصَ مركزية النظرية الأخلاقية في فهم تاريخ الشريعة الإسلامية والحركات السياسية الحديثة. ركز عمله بشكل كبير على نقد مشروع الحداثة. يحاول مشروعهُ البحثي الحالي رسم خريطة للممارسات الدستورية للحكم الإسلامي بين القرنين الثامن والثامن عش ، بهدف بناء دليل إرشادي لنقد المقاربة الدستورية الحديثة الداعمة للدولة الحديثة.
أوردت في كتابك "الدولة المستحيلة" بأنه “لم توجد ثمة دولة إسلامية قط، فالدولة شيء حديث”، هل تعني بذلك بأن الدولة لا يمكنها أن تكون سوى دولة حديثة، أي دولة مفرغة المنظومة الأخلاقية؟
وائل ب. حلاق: يمكنُ تقديمُ جوابين لهذا السؤال أحدهما مختصر والثاني فيهِ نوعٌ من البسط والتفصيل؛ الجواب المقتضب هو أن الدولة الحديثة تمتلكُ بنيتها الخاصة المتفردة بطبيعتها؛ حيثُ تمثلُ جسماً سياسياً مجهولاً للإسلام في كلِ الأزمنة والأمكنة إلى حدودِ نهاية القرن التاسع عشر؛ إلى أن فُرضت على العالم الإسلامي من خلال المشروع الكلونيالي، عملية الزرعِ هذه زرعت الغربة لدى المسلمين؛ حيث أن الدولة نشأت في سياق عام وشامل للفصل بين الرؤية الكونية الأخلاقية والأخلاق الوجودية من ناحية، وكذا جفاء الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي باتت تلعبُ فيهِ الأخلاق دوراً ثانوياً في أحسن الأحوال من ناحية أخرى.
أما الإجابة المستفيضة فتتطلبُ تفسيرًا تاريخيًا؛ الاسم المعياري للجهاز الحاكم في الحداثة متمثلٌ في (state) في اللغة الإنجليزية، و (etat) في اللغة الفرنسية، و (stato) في اللغة الإيطالية، و (Staat) في اللغة الألمانية؛ وكما هو بَيِّنٌ فإن هذه المصطلحات لها جذرٌ مشترك، كما أن هذه مصطلحات لم تظهر قبل القرن الخامس عشر في أوروبا لتدل على نظام حكم معين؛ حتى نكونَ واضحين فإن هذا النظام كان أوروبيًا محضاً وكان محصلة ونتيجة لتطورات خاصة وفريدة حدثت في إيطاليا وألمانيا وفرنسا وإنجلترا؛ كانت هذه التطورات سياسية واقتصادية واجتماعية، والأهم من ذلك أنها كانت ربما عسكرية، كان انهيار النظام الإقطاعي وصعود المُلك المطلق أمراً ضروريًا لهذا التطور، بالإضافة إلى ظهور المدن والنقابات والأشكال الجديدة للتبادل الاقتصادي والإدارة البيروقراطية.
يجب أن نفهم أن المؤسسات السياسية الحديثة التي طورتها أوروبا كانت نتيجة مقاومة قوية ضد السلطة المطلقة والمطالبات الإلهية لملوك أوروبا، كان ذلك أيضًا نتيجة لردود الفعل ضد الإساءات طويلة الأمد التي أحدثتها الكنيسة الكاثوليكية، والإساءات التي ارتُكبت بحق أعداد كبيرة من سكان أوروبا باسم الله أيضًا.
ولكي تُكْبحَ سلطات المَلِكِ والكنيسة الشريرتين كان من الضروري بناء نظامٍ للحد من القوى السياسية للمَلِكِ ويدحضُ ادعاءات الكنيسة التي كانت تسمحُ لنفسها بالانخراط في السياسة نيابة عن الله. وكانت الحريات الجديدة المكتسبة ضد هاتين القوتين المتعاظمتين سياسيةً في البداية، ولكن تُرجمت فيما بعد إلى حريات اقتصادية التي خلقت أشكالًا جديدة من تكوين الثروة، وهي الأشكال التي تم إنشاؤها للعمل جنبًا إلى جنب مع السياسة.
هذا هو السبب في أن الدولة الحديثة بحكم تعريفها تشكل بشكلٍ حتمي دولة احتلال؛ خلقت هذه التحولات كيانًا سياسيًا يعدُ انعكاساً للمسيحية الكاثوليكية داخل أشكالٍ علمانية، وهو ما يتوافقُ مع طرحِ كارل شميت المُقنِعِ الذي مفادهُ أن جميع المفاهيم والمؤسسات السياسية المهمة التي بحوزتنا الآن داخل منظومة الحداثة هي أشكال علمانية لمضامينَ مسيحية؛ أي أن كل هذه التطورات خلقت أشكالًا علمانية فريدة للسياسة المسيحية، والتي أمسينا نطلقُ عليها اسم الدولة الحديثة؛ ومن هنا فإن الدولة هي تجربة أوروبية متفردة لا تمتُ بصلة مع التجارب السياسية أو الاجتماعية التي عرفها الإسلام.
من ناحية أخرى، طور الإسلام نظام حكم ينتمي بعمقٍ للتجربة الإسلامية التي شُكِلَت من مجموعة من الأحداث والأفكار والمؤسسات التي ظهرت في المخيال السياسي والديني للمسلمين باعتبارها وحدة واحدة ضرورية تَرومُ صناعة هذه التجربة؛ المكونة أساساً من: - الحدث القرآني كتجلي سياسي كامل (وهو ما سأناقشهُ لاحقًا)؛ طبيعة انتقال الحكم من النبي إلى الخليفة أبو بكر الصديق في عصر الخلفاء الراشدين وكذا حروب الردة التي تلت ذلك؛ وانهيار الخلافة المرفق بصعود النظام السلطاني، لكن السمة الأبرز لهذه التجربة هي ظهور وتأسيس الشريعة في بلاد الإسلام، وانبثاقِ وظهور جميع فقهائها ومؤسساتها للوجود تقريبًا بنهاية القرن الثاني الهجري.
على الرغم من أن المكونات السابقة للتجربة ذهبت إلى جعل الشريعة نظرية سياسية ودستورية – وهو دور الشريعة سابقاً - فإن ذلك راجعٌ أيضًا لكونِ الشريعة جعلت من اهتمامها تنظيم كل جوانب الحياة البشرية؛ ومن هنا يمكننا أن نقول بأن الحكم الإسلامي لم يكن حكماً إسلاميًا متفرداً فحسب، بل كان انعكاساً لروح وجسد الشريعة نفسها كذلك؛ يمكن للمرء أن يقول بإن الحكم الإسلامي يتسمُ بالصفة الإسلامية والشرعية على غرار العقيدة أو أصول الفقه، المتسمين بالإسلامية بشكلٍ قاطع. أي أن كل هذه التطورات أو السمات أعطت الإسلام شكلاً فريدًا من أشكال الحكم الذي تجلى في الإمامة أو الخلافة؛ وهي ليست مجردَ مصطلحات، ولكن كان لها دور محدد بشكل كبير في تشكيل جودة تاريخ وممارسة دستورية الاسلام.
من الواضح إذن أن "الدولة" الحديثة أوروبية (ومسيحية في الأصل) وليست إسلامية بتاتاً، وبما أننا نعلم أنه لم تكن هناك دولة في عصر الإقطاع، الذي انتهى حوالي 1500 ميلادي، فلا بد إذن من أن نخلصَ إلى أن الدولة بقدرِ ما هي حديثة هي أوروبية على حد سواء، ولا تزال تستبطنُ أشكالاً مسيحية علمانية بداخلها.
كما أوضحت في كتاب "الدولة المستحيلة"[1]، كانت هناك تطورات ملموسة وواضحة في أوروبا خلقت هوة لا يمكن تجسيرها، بين المجال الأخلاقي وجميع مجالات الحياة البشرية الأخرى؛ هذا التطور الرامي لفصل الأخلاق عن كل شيء هو ما أسمته أوروبا بالحرية والليبيرالية؛ وثمَّ وصف الفصل وتعريفه بأنه فصل بين الحقيقة والقيمة، والذي بلغ ذروته خلال عصر التنوير بالتمييز الفلسفي بين ما هو كائن (Is) وما يجبُ أن يكون (Ought)، وهو ما يمكنُ اعتبارهُ ربما السؤال الأهم في الفلسفة الأخلاقية منذ أكثر من قرنين من الزمن؛ وبالتالي فإن الدولة الحديثة لديها القليل من القواسم المشتركة فقط مع أي نوع من أنواعِ الحكم قبل القرن الثامن عشر أو التاسع عشر في أي مكان في العالم بما في ذلك العالم الاسلامي على وجه الخصوص. ومازالت الحداثة ومؤسساتها القوية مستمرة، فإن الدولة الحديثة تستمرُ أيضًا، لكنني لا أعتقد أن هذه الدولة مستدامة على المدى الطويل؛ يجب أن تتغير على غرارِ نظامنا الاقتصادي وأساليب حياتنا عاجلاً أم آجلاً، وإلا فإننا سنواجه أزمات وجودية أكثر مما نحن فيهِ الآن؛ الدولة جزء لا يتجزأ من موجات الدمار التي أحدثناها على البيئة والمجتمع والأسرة – أي داخل الهياكل الاجتماعية - وعلى أسلوبِ حياتنا الاقتصادية والاجتماعية والنفسية. فالدولة يجبُ أن تزولَ وبدون شكٍ، وما أقترحه هو أن نقومَ أولاً بتشخيصٍ هيكلي يمكنهُ أن يساعدنا في تغيير الأشياء. لكن قبل أن نقومَ بعملية التغيير؛ أي قبل أن نبدأ عملية معالجة أمراض الحداثة، نحتاج إلى فهم أعمق للمشاكل المختلفة التي ابتلينا بها.
هناك من يرى بأن "الدولة المستحيلة" قدمت صورة متخيلة ومثالية عن الحضارة الإسلامية خاصة فكرة "الخلافة"، حيث ان ربطها بالتصور الأخلاقي " المطلق "، يجعلُ هذا الطرح قابل للمساءلة وخاصة أن التاريخ الإسلامي مليء بالأفعال اللاأخلاقية الناجمة عن السعي نحو السلطة، ما ردك على هذا الطرح؟
وائل ب. حلاق: ذكرت عدة مرات سلفاً، أن الكثير من القراء أساءوا فهم الكتاب بشكل عام، وأساءوا فهم هذه النقطة بشكلِ خاص؛ لقد افترضوا أنني أدافع عن تاريخ مثالي للإسلام لا يمتُ بصلة بالواقع الفعلي؛ وفي حقيقة الأمر فإنني لم أشارك بأي شكل من الأشكال في بناءِ أي تصورٍ مثالي للتاريخ الإسلامي. من الواضح أن النقاد الذين يعارضون خلاصاتي يريدون أن يجدوا أي خطئ في الكتاب ليساعدهم على تشويه هذه الخلاصات، لذلك يسارعون إلى إصدار أحكامٍ سلبية من أجل تحقيق غرضهم السياسي والأيديولوجي؛ لأن منهجَ قراءتهم لكتابي مشبعٌ بأحكام نابعة من أجندات سياسية؛ لكن دَعني آخذُ ادعاءاتهم على محملِ الجدِ وأتفاعلَ معها بشكلٍ أكاديمي جاد، على الرغم أنهم كأفراد غيرُ حقيقين بأي ردٍ أقدمهُ لهم، إلا أن هذا الرد الذي أسعى لتقديمهِ هو لأولئك الذي يسعون حقاً لفهمٍ لحقيقيٍ لهذا الاستشكال لأزيل الالتباس الحاصل حوله.
يجب على هؤلاء المنتقدين أن يفهموا ويأخذوا في حسبانهم المكونات الأيديولوجية المكونة لمواقفهم، ويجب أن يمارسوا بعض التأمل الذاتي قبل أن يسارعوا نحو النقد، لأن نقدهم يعربُ عن وجودِ عدة افتراضات خاطئة لم يقوموا بفحصها أو فهمها؛ لقد أعماهم ثقلُ تحيزاتهم لدرجة أنهم لم يعودوا قادرين على رؤية هذه التحيزات التي تؤثر على مسارات فهمهم الذي آل إلى التشوه والتشويه.
الافتراض الخاطئ الأول هو مفهومهم الإشكالي للتاريخ والتاريخانية؛ حيث إنهم لا يدركون هشاشة الأسس التي يقفون عليها، إنهم يعتقدون أنه نظرًا لأن هذا المفهوم يحظى بقبولٍ من قبل الأكثرية من الناس، فإنه يجب أن يكون صحيحًا. فإذا كانوا يتهمون كتابي بالمثالية التاريخية، فإنهم بذلك يقدمونَ ادعاءً يستوجبُ عليهم اثباتهُ، فكما قيل البينة على من ادعى؛ يجب أن يبرهنوا أن ادعائهم لا يقوم على أباطيل أو على افتراضات هشة، إن ادعائي المتمثلَ في أن موقفهم يستند بالفعل إلى ما أسميته في " قصور الاستشراق "[2] بـ "لاهوت التقدم"؛ باعتبارها نظرة للعالم تقومُ على تصورٍ خيالي أصاب التأريخ وبقية مجالات الحياة؛ أسمي الإيمان بالتقدم بـ "لاهوت التقدم" لأن هذا الاعتقاد دُغمائي ومتعصب على غرار أي أيديولوجية شوفينية، ولأنه مفهوم علماني لا يقلُ تعصباً وتسلطاً؛ تشكلُ عقيدة التقدم ولاهوتيتهُ قواعد الخطاب الخادمِ لمصلحة موقف واحد لا أكثر - أي لصالح ذاتيتهِ ولصالح خط واحد محدد سلفًا للحركة التاريخية؛ هذا يعني أن الحضورَ القوي جدًا لهذه العقيدة يمنع أي آراء أو مفاهيم أخرى للتاريخ ان تُأخَذَ بعين الاعتبارِ ليتم التعاملُ معها بمحملِ الجد، خاصة وجهات النظر التي تقدمُ تصوراتٍ منافسة، فحقيقة وجود ضرورة لتقديمِ شرحٍ لموقفي اتجاهَ هذه الادعاءات (والذي قدمتهُ في مناسبات عديدة) دليل على استبداد هذا المفهوم.
وبهذا التقييد المستبد للتاريخ، تبررُ هذه العقيدة الاهوتية ممارسات الحاضر وتسوّغه، متدثرةً بسلطتها الاستعلائية لإدانة أي شيءٍ وكل شيءٍ تراهُ خارج حدودها؛ هكذا يتمُ مثلاً رفضُ أي استدعاء لقاعدة أخلاقية في تراثٍ تاريخيٍ معين من أجل إعادة تقويم انهماك المشروع الحداثي في تدمير الطبيعة وكأنّهُ استدعاء يتسمُ بالماضوية، اعتقاداً بأن أدوات الحداثة التقدمية الممثلة في تطورها التقني تملكُ قدرات المعالجة لتلك الآثار المدمرة، أو أنها تسمح لأولئك الذين ينتقدونني بادعاء أني أصورُ الماضي بمثالية بحكمِ افتراضهم بأن الحاضر يجبُ أن يكونَ أفضل دائماً؛ ومثلُ هذا الادعاء كمثلِ مديرٍ أو رئيسٍ جديدٍ لجمعية يقللُ من قدر سلفه حتى يسوغَ ممارساته الفاشلة، ويَظهر دائمًا بشكل أفضل من سلفه؛ إن عقيدة التقدم تضحي بالماضي من أجل تبرير حاضرها المَرَضِيِ والإجرامي؛ فقد دمرنا كوكبنا باسم التقدم ، وخلقنا أمراضًا تنهشُ العقل والبدنَ والهياكل الاجتماعية؛ إن عقيدة التقدم تخفي جرائمنا وخطايانا، وهي متعجرفة بغيرِ حدٍ.
عقيدة التقدم هي أصلُ المفهوم الحديث للتاريخ؛ سواء كانوا مؤرخين أو أناساً عاديين، يستخدم المعاصرون الحاضرَ كمعيار مطلق للحكم على الماضي، ولعرض التاريخ كله على أنه حركة حتمية نحو التقدم، حركة تبلغُ ذروتها في تجسدِ الأشياء في الحاضر؛ مما يعني أن أي لحظة في الماضي تكون دائمًا أقل تقدماً من "لحظتنا". لقد وضعنا أنفسنا كذروة لنموذج، وذلك في الوقت الذي كنا فيهِ أكثر فساداً في الأرضِ من أي عصر آخر في التجربة البشرية؛ لذلك فإن كتابة التاريخ وعرضه من منظور العقل الحديث هو أمر غير تاريخي أساساً، لأنه لا يشمل فقط إخضاع الماضي للحاضر، ولكن جعلِ الحاضر يطغى على الماضي؛ وفقَ هذا المنظورِ نحكم على السلف على أنهم بدائيون ومتخلفين دائمًا.
تأسست نظرية التقدم على افتراض أن الزمن له بنية غائية متجانسة وخَطِّية، وأن هذا الهيكل حتمي؛ وبالتالي فإن المراحل الأولى من التاريخ كانت ممهدة للمراحل التي تليها، والتي كانت بدورها مجرد وسيلة للوصول إلى القمة المقصودة للتقدم البشري الحقيقي والمتمثلة في الحداثة الغربية؛ لذلك يُنظر دائمًا إلى التاريخ على أنه أقل تطورًا من الحاضر، ولذا نشعر دائمًا بتفوقٍ حينما نصدرُ الأحكام المستساغة لنا عليه، نُصدِرُ أحكامنا في الوقت الذي نقرُ فيه على هيمنتنا؛ إن بسبب عقيدة التقدم حسب منظوري ظهرنا في الحداثة كأكثر المخلوقات غطرسة عرفها التاريخ على الإطلاق.
لقد أسبغ عصرُ التنوير بنية جديدة على التاريخ الذي أصبحَ حاضناً للتجربة الانسانية منذ بداية الزمن (أياً كانت هذه البداية)، وفي حين كانت بنية التاريخ في ثقافاتٍ كثيرة بنيةً أخروية؛ توفرُ سرديةً للاختيارات الأخلاقية التي تهدفُ إلى التوجيهِ، فإن بنية التنويرِ تحددت أساساً بطرحٍ كوني ليبرالي مفادهُ أن تجاربَ المجتمعات الماضية التي لا حصر لها تمثلُ ظاهرة جمعية (بل واحدية) مدفوعة بغرضِ أو روحٍ (Geist) محددة وموجهة نحو هدفٍ معين متمثلٍ "الارتقاء التقدمي "؛ يتجلى هذا التقدم في الأمور المادية والمعرفة العلمية، والتطور التقني والسياسي وكذا زيادة الثروة، ويفترض الكمال في منطقِ العقل البشري. لذا فإن الحاضر دائمًا هو منتجنا؛ ولأننا نفترض أننا متفوقون على السلف، فإننا من منظورِ عصرنا أفضل وأكثرُ تفوقاً بشكل بديهي على كلِ تمثلاتِ التاريخ، سواء كان أوروبيًا أو آسيويًا أو أفريقيًا، وبما أن التاريخ الإسلامي هو جزء من التاريخ، فمن البديهي أنهُ أقلُ مرتبة من التاريخ الحديث.
الخطأ الثاني الذي يقعُ فيه هؤلاء النقاد أنهم لا يفهمون أن التاريخ الإسلامي دُبِجَ بأقلامٍ أوروبية وليس من طرفِ المسلمين؛ مما يعني أن التاريخ الإسلامي مكتوب من منظور المستعمر الكولونيالي ؛ ومنذ أن تعرض المسلمون للكلونيالية الأوروبية، تم تبنيهم لهذه السردية من التاريخ وكأنها منتجهم الخاص؛ لذلك كلما مر الوقت، كلما أضحى التاريخ الإسلامي مشابهًا بل ومطابقًا لتاريخ أوروبا من حيث الجهازُ المفاهيمي؛ على سبيل المثال كان تاريخ العلماء في الإسلام مغايراً تمامًا لتاريخ الكنيسة في أوروبا ، التي من المعروف أنها أساءت للناس وانخرطت في أكثر السلوكيات إجراماً والتي لا تمتُ بالأخلاق بصلة، فقبل ثلاثين أو أربعين عامًا فقط، لم يقم أيُ مثقفٍ أو مفكرٍ مسلمٍ ذا شأن بإدانة العلماء على أنهم ظلمة وفسده وهو الأمر الذي تلاشى الآن؛ فبعض الإسلاميين أنفسهم أمسو منخرطين في هذه الادعاءات الاستشراقية في إدانة علماء السلام، إن الطريقة التي كتب بها الغربُ تاريخنا جعلتنا نمقتُ ذواتنا، بما في ذلك ماضينا.
الخطأ الثالث الذي وقع فيه هؤلاء المنتقدين متمثلٌ في تجاهلهم لما قلته عن المعيار الأخلاقي؛ لم ادّعِ قط أن الحياة كانت مثالية في ظل الإسلام، بل لا توجد حياة مثالية في أي مكان على هذه الأرض؛ الحياة المثالية هي فكرة تنبعُ من خيال ورغبة، لكنها لا تتحقق أبدًا، ولكن عدمُ تحققها لا يعني أننا كبشر يجب ألا نسعى لتحقيق أكبر قدر ممكن منها؛ هذا ما لم يفعله المسلمون فحسب ، بل قاموا أيضًا ببناءِ أنظمة حياتهم الخاصة؛ أنشأت الحضارة الإسلامية لنفسها معيارًا أخلاقيًا، وهو أعلى بكثير من أي شيء نعرفهُ اليوم، وهو ما يفسرُ حقيقة أن العديد من الحداثيين بما في ذلك الذين انتقدوني لم يتمكنوا من فهم واستيعاب فكرة المقارنة هذه؛ لقد ناقشت هذه الفكرة وتطبيقاتها باستفاضة في قصورِ الاستشراقِ، وأحيل القارئ إلى مناقشاتي التفصيلية المبثوثة فيه.
هناك من ينتقدُ كتابك بقولهِ بأنك بقدر ما تنزهُ الإسلام والحضارة الإسلامية عن الأفعال "اللاأخلاقية" التي تعرفها الدولة الحديثة، فإنك بطريقة غير مباشرة توصلنا لخلاصة مفادها بأن هذه الحضارة الاسلامية "الطاهرة"، لا يجب تلويثها بجعلها تتفاعل مع الحداثة ودولتها "اللاأخلاقية"، وهي خلاصة تجعلنا مضطرين في النهاية أن نتعامل مع الحداثة الغربية وفقط بحكم أنها الموجود الوحيد في المشهد، هل هذا صحيح؟
وائل ب. حلاق: انطلاقا من إجابتي على السؤال السابق يمكن أن نستنتِجُ أنني لم أعتبر الإسلام "طاهراً"؛ لقد واجهتْ وتعاملتْ الحضارةُ الإسلاميةِ مع الحياةِ ومشاكلهَا بجرأةٍ؛ في الواقع لقد أقرَّ الإسلام بحدود الطبيعة البشرية وقدم حلولاً عملية بخصوصها، وذلك على عكس المسيحية؛ حيثُ لم ينكر الإسلام أبدًا الطبيعة ومتطلباتها، سواء أكانت طبيعة بشرية أم النظام الطبيعي؛ لقد اعترف الإسلام بحتمية حاجاتنا البشرية وحاول إنشاء آليات صحية لتدبير هذه الحاجات سواء كانت اتجاه الجشع اتجاه المال أو رغبة في ممارسة الجنس وغيرها من الأمور؛ إذا قمنا بمقارنة التاريخ الإسلامي بالتاريخ الأوروبي ، سواء في ظل المسيحية أو في ظل "عصر العلمانية" الحالي يمكننا القول إن الأشكال الأوروبية الحديثة للمعرفة هي التي أنكرت الواقع وعاشت في خوف من الطبيعة؛ لهذا السبب وتحت تأثير وهيمنة النظام المعرفي الحديث، نبذل قصارى جهدنا لتجنب الطبيعة وتغييرها وتحويلها وترويضها؛ إننا ننفق المليارات على الجراحة التجميلية، والكريمات المضادة للشيخوخة ، ومزيلات العرق، وأشياء أخرى كثيرة من أجل تعديل الطبيعة بكل الطرق الممكنة، وهو ما يشملُ حدائقنا ومتنزهاتنا الاصطناعية إلى استنساخ الحيوانات والبشر.
مهما كان الأمر فإن النقطة المهمة هي أنني آخر من يدعي أن الإسلام لا يجب أن يتلوث بالواقع؛ فانا أومنُ بأن الإسلام هو لأجل عيش الحياة بشكل كامل، ولذا فإن ادعائي متمثلٌ في أن أنماط الحكم الإسلامية حتى القرن الثامن عشر هي نماذج فكرية ومفاهيمية مفيدة يمكن أن تعلمنا نقض (critique) وليس فقط نقد (criticism) وانتقاد أنظمتنا الخاصة بالحكم، أنا مقتنع بأن المسلمين يمتلكون نظامًا واقعيًا لسيادة القانون يُمكنُنَا التعلم منه، سواء كنا مسلمين أو غير مسلمين؛ وهو ما يجسدُ أحد المشاريع العلمية التي أعمل عليها حاليًا، وفي المستقبل أخطط للعمل على القرآن كنص معرفي يمكننا من خلاله اشتقاق نقضٍ ما بعد حداثي؛ كل هذا لأقول بصوت عالٍ ولكي يصغي لي الجميع، بأنني لم أقل قط ولم ألمح أبدًا بأن الإسلام يجب أن يُحاصر ويُحفظ على الرف وأن يتنحى، بل على العكس من ذلك؛ أزعم أن التجربة الإسلامية على غرار التجربة الهندية والصينية السابقتين أيضًا، يمكنها أن تعلمنا الكثير حول كيفية تجاوز الأمراض الحديثة ونأمل أن نصل إلى عصر أفضل ، عصر ما بعد حداثي حقيقي؛ مما يعني أنني أقترح أن للتراث الإسلامي القدرة على تقديم حلول ما بعد حداثية جادة وواعدة حقيقةٌ بالانخراطِ فيها.
لا يريدُ الذين ينتقدونني الاقرارَ والاعترافَ، بأن ما قالوهُ يجورُ على مقترحي وموقفي، باعتبارهِ وحدة واحدة غير قابلة للتجزئة، لأنهم إذا فعلوا ذلك، فسيتعين عليهم مواجهة حججي بشكلٍ مباشر، للرد عليها بطرق جادة، وليس بالطرق السطحية التي يتفاعلون من خلالها (خاصة المنتقدين الذين ينتمون للعالم الإسلامي)، إذا كنت أُتهم بأي شيء، فيجدرُ بان أتهمَ بتكليفي للمسلمين بمهمة بالغة الخطورة؛ مفادها مساعدة أنفسهم والعالم على التغلب على أمراض الحداثة الحالية؛ هذه مهمة جدية، وهي تمثلُ عمقُ انغماس الاسلام في الواقع؛ فهي تجعلُ الثقافة الإسلامية والتراث الثقافي في تفاعلٍ وانخراطٍ مع الحداثة وواقعها الكارثي.
يعترضُ بعضُ نقادك على كتابِ الدولة المستحيلة من مُدخَلِ كونِ الحضارة الإسلامية المبكرة واجهت تأثيرات استوعبتها وساهمت بتشكلها، بدرجاتٍ متفاوتة، مثل التأثيرات الساسانية على التفكير السياسي الإسلامي، وانطلاقا من هذا المعطى فهم يسائلونك لما تتقبلُ انفتاحَ المسلمين على الطرحِ الساساني في التراث الإسلامي في حين تستهجنُ انفتاحهم على الطرح الأوروبي الحديث المتمثلِ في الدولة الحديثة؟
وائل ب. حلاق: من طبيعة المعرفة أننا عندما ننظر إلى الأشياء من بعيد فإن الأمور تبدو لنا متشابهة حد التطابق، فنظرتك للكواكب من الأرض تجعلُ جميعَ الكواكب والشمس تبدو متشابهة، حتى نظرتك للمجرات تكون مشابهة لنظرتك للكواكب لكن واقعُ الأمر يؤكدُ تفردَ كلٍّ منها على حدا، هناك ثلاثة اعتبارات على الأقل في هذا السياق؛ أولاً التأثيرات الساسانية هي في حقيقة الأمر مستوحاة من ملوك فارسيين مشهورين مثل كسرى أنوشيروان و أردشير وبهرام بن سابور وأشباههم؛ وهذا الاقتباس يكونُ لبغيةِ تعزيز مبدأ أخلاقي موجود سلفاً أو ممارسة في الحكم، أو لاستجداء الحكمة السياسية، حيث طُبِقَ نفسُ الأمرِ مع الإسكندر الأكبر وأرسطو وغيرهما من علماء الاغريق، وليس الساسانيين فقط.
ثانيًا، احتوت مثل هذه الاقتباسات على محتوى أخلاقي وحكمة في ممارسة السياسة، وكانت متوافقة إلى حد كبير مع نظام الأخلاق الذي يتبناه العلماء المسلمين، ومردُ هذا وجودُ تقليدٍ مشترك يجمع بين دول البحر الأبيض المتوسط؛ الذي كانَ مرتعَ الأفكار التي ساهم فيها الجميع، كما لا ننسى أن عرب الشمال الشرقي [3]كانوا جزءًا لا يتجزأ من الثقافة الفارسية، ولذلك نقل سكانهم الأفكار والمعرفة إلى الإسلام؛ لذلك نما "النفوذ الفارسي" عضويًا منذ البداية ومن الداخل، ولم يكن أجنبيًا ولا مفروضًا بالقوة.
وثالثاً، استوعب المسلمون كل هذه التأثيرات الفارسية والهندية والاغريقية طواعية؛ أي قاموا بشكلٍ اختياري باستيعاب وأخذ ما أرادوا، كما رفضوا الأمور الغيرِ مستساغةِ لهم، وهو الأمر الذي ينافي بشكلٍ كبير ما حدث في آخر قرنين؛ أي عندما دمرت الأفكار الأوروبية المفروضة خارجياً المؤسسات والبنى الاجتماعية للإسلام واستعمرتهُ استعماراً كولونيالياً، متوسلة بأدوات القوة والعنف؛ حيث جلبت أوروبا الأفكار والمؤسسات الأجنبية إلى العالم الإسلامي، والتي أثبتت - كما نرى - أن لها آثارًا ضارة على العالم الإسلامي؛ حيث أدت على الصعيد العالمي إلى الأزمات البيئية والاجتماعية والنفسية التي نمر بها، لكن لا يبدو أن لدى النقاد - المسلمين والغربيين - رؤية واضحة للتاريخ، ويفتقرون إلى دقة التفكير في الاختلاف التاريخي - وهو أمر محزن.
لطالما كان الإسلام مرنًا في قبول الأفكار والممارسات القادمة من الخارج؛ انظر إلى كيفية تعامل المسلمين مع الفلسفة اليونانية في عهد العباسيين الأوائل، وهذا مثال ممتاز لفهم طبيعة السياق؛ حيث رفض المسلمون جميع المحصلات الميتافيزيقية التي توصل إليها ووعظ بهما النظامان الأرسطي والأفلاطوني المحدث، لكنهما في المقابل قبلوا أشياء أخرى كثيرة إلى حدِ دمجها في العلوم الإسلامية؛ والمنطق وفلسفة الفيض مثالان يدعمان هذا الطرح، لكن خيار القبول أو الرفض كان راجعاً لهم، ولم يفرض عليهم أحد أي شيء ودائمًا ما أخذوا أجزاء من نظام معين ورفضوا أجزاء أخرى، وهي عملية امتازت بالحرية التامة في مراحل القيام بها.
هذا الوضع مختلف تمامًا الآن؛ فالمسلمون اليوم ملزمون بقبول الكولونيالية الأوروبية وكامل نظام المعرفة والسياسة وكل شيء آخر دون خيار؛ لا يمكن للمسلمين أن يأخذوا أجزاء من الدولة الحديثة وأن يتركوا أجزاء أخرى، ليس لديهم حرية الاختيار وقبول أجزاءٍ ورفض أخرى، فُرضت الدولة الحديثة عليهم (خاصة في القرن التاسع عشر)، وقبل أن تُفرض عليهم ، أو أثناء فرضها عليهم ، تم تدمير أنظمتهم الأصلية، بما في ذلك الشريعة ومؤسساتها بشكلٍ تامٍ تقريباً، ومن الواضح أن الدولة الحديثة لا تتناسب مع أنماط الحياة الإسلامية، والدليل على ذلك هو وضعُ العالم العربي والاسلامي اليوم منذ القرن التاسع عشر.
هناك من انتقد الدولة المستحيلة واعتبرك قمت بعملية استدعاء للفلسفة الهيغلية (حسب ادعاءهم)، وخاصة تلك التي ختم بها هيجل الفصل الذي خصصه للإسلام في فلسفة التاريخ. وهي حسب رأيهم فكرة كذبها التاريخ. فهم يرون بأن الدولة الإسلامية هي جوهر الإسلام، وتجسيدٌ لاستخلاف الإنسان في الأرض، ووفقاً لهذا الطرح فإن الانسان منوط بتحقيق الدولة حتى في زمن الحداثة من أجل تحقيق دورهِ الاستخلافي، ما ردكم على هذا الطرح؟
وائل ب. حلاق: إنها حجة رثة، وربما أكثر الحجج تهافتاً بين جميع الحجج التي قدمها المنتقدين الذين تفاعلوا مع كتابي؛ وبادئ ذي بدء، يهمني أن أنوهَ بأني لا أوافق على أي من فرضيات هيجل المقدمة عن الإسلام؛ كتاباتُ هيجل عن الإسلام والمسيحية في الواقعِ هي عكس ما أطرحهُ تمامًا؛ فهو يعتقد بإن المسيحية هي الأكثر كمالًا؛ وقد وصلت إلى مستوى من الكمال لم يبلغهُ إليها أي دين آخر، في المقابل فإن تصوري للمسيحية الأوروبية قبل مرحلة العلمنة انها كانت كارثة على كل من أوروبا نفسها وتاريخ العالم، وأصنفها على أنها أسوأ تجربة دينية عرفها التاريخ البشري. (وهنا يجب أن أصرح لأولئك الذين لا يعرفون، أنني أنتمي إلى المعتقدِ المسيحي بحكمِ أني من عائلة مسيحية من كلا والديّ).
ثانيًا، اعتقد هيجل أن الإسلام دين متعصب، في حين أن الإسلام قدمَ أكثرَ الحضارات انفتاحًا في تاريخ البشرية، شهدت في جوهرِها تعدداً وفضاءات وكذلك شهدت وجودَ اختلافٍ في الآراء. أعتقد أن المسيحية الأوروبية كانت عكس ما تخيله هيجل تماماً؛ حيث جسدت المسيحية بالضبط ما أُتهم به الإسلام والمتمثلِ بالتصعب.
ثالثاً، اعتقد هيجل أن الشريعة لا تراعي الحياة البشرية، وأنها تحط من قدر الإنسان؛ هنا مجدداً، يهمني أن أقول بأن هيجل لم يكن مخطئًا بشكلٍ تامٍ بشأن الشريعة فحسب (التي لم يكن يعرف عنها شيئًا تقريبًا) ولكن أعتقدُ كذلك بأن المسيحية وتمثلاتها الحديثة هي التي أدت إلى تدهور الحياة البشرية والإنسانية، وهو ما أوضحتهُ بالتفصيل في كتابي "قصورِ الاستشراق". نحن لا نحتاج أن نذكر القارئ بأفعال أوروبا الكولونيالية والدمار الذي أحدثته في جميع أنحاء العالم، كما أننا لا نحتاج أن نُذَّكِرَ بالدمار الذي أحدثته المناطق الكولونياية الصناعية لمساكننا الطبيعية، وكل ذلك باسم العلم الحديث والابتكارات المبهرة؛ كما أن هناك ضرورة بأن أذكر بآثار هذا "التقدم" على هياكلنا المجتمعية، وأسرنا، ونفسيات شبابنا، إلى غير ذلك.
الناقد الذي قدم هذا النقد "الهيغلي" المتخيل لديه رؤية محدودة للواقع بشكل مذهل؛ مع الأسف إنهُ يمتلكُ فهماً محدوداً لماهية الحداثة ، والأهم من ذلك أنه لا يفهم آثار الأفكار والمؤسسات الحديثة على الذاتية وعلم النفس البشريين؛ كما أن لديهِ فهمٌ محدودٌ لما تمثله الدولة الحديثة، وكيف تعمل وما هي الآثار السلبية التي خلقتها على المجتمع والفرد، لقد انحدرت معاييره إلى درجة متدنية إلى حدِ اعتقادهِ أنه لا يوجد نظام في العالم يخلو من "حمولة أخلاقية "؛ معاييره الأخلاقية على وجه الخصوص ضيقة لأبعدِ درجة؛ هذا التدني يجعلهُ يرى أنه حتى "النظام المافيوي" لديه شيء من الأخلاق.
جادل هذا الناقد أيضًا بشكل صحيح - دون أن يدرك أن مضامين حجته تتعارض مع ادعاءاته - بأن الدولة "لا يمكن أن تكون خالية تمامًا من الأخلاق، سواء في الفعل أو على الأقل الخطابات/التصريحات؛ عندما يكون هناك تعارض بين أخلاقيات ومصالح [الدولة] فإن أولويات الدولة هي التي تسمو على الأخلاق، بينما تسمو الأخلاق على الدولة في الخطابات/التصريحات فقط، من أجل الانخراطِ في التنفيذ في ظلِ هذه المنظومة الأخلاقية المتدنية، المتوافقة مع الفلسفة السياسية المعروفة بـ "الأيدي القذرة"؛ لا يدرك هذا الناقدُ أنه يكرر حجة كارل شميت بأن أي خطاب أخلاقي في المجال السياسي ليس سوى لغة سياسية خالية من الاهتمام الجوهري بالأخلاق، فبحسب شميت لا مكان للأخلاق في السياسة، إلا كوسيلة وذريعة خطابية.
لست بحاجة إلى قول الكثير لإظهار مدى تبسيط الأخلاق والقواعد الأخلاقية لهذا الناقد، الذي يرتكب خطأين على الأقل، بشكلٍ متزامنٍ؛ الخطأ الأول متمثلٌ في ارتكابهِ لمغالطة التعميم فيما يتعلق بالدول، حينما يرى بأنها متساوية في التجلي الأخلاقي، هذا ليس مفاجئًا لأن هذا الناقد لا يعرف شيئًا سوى الفلسفة التي كانت بمثابة سجنهِ الفكري، خاصة نوع الفلسفة التي يعرفها.
الخطأ الثاني متمثلٌ في عدمِ فهمهِ لتاريخ صعود الحداثة والدولة الحديثة المتشابكتين والمتواشجتين بطرق لا حصر لها؛ وقفت الدولة الحديثة والحداثة معًا في علاقة جدلية، أحدهما يدعم و"ويقوي" الآخر؛ ساعدت الدولة في خلق الحداثة وساعدت الحداثة في إنشاء الدولة وتطويرها؛ هذا يعني أن الدولة في صيغتها الحديثة تعدُ ظاهرة جديدة في تاريخ العالم. لا يفهم هذا الناقد أن هناك عملية تاريخية خاصة ومتفردة أدت إلى هذا التطور، وهو ما تطلب الفصل بين الحقيقة والقيمة؛ حيث وُضعت الأخلاق في رف الماضي، أي فيلسوف ولا سيما الفيلسوف الأخلاقي لا يمكنهُ تجاهل ما أُطلِقُ عليه المشكلة الأكثر مركزية في الفلسفة الأخلاقية، والمتمثلة في الفصل بين الكائن (Is) وما الذي يجبُ أن يكون (Ought).
وأخيرًا يجدرُ الإشارة بأن هذا الناقد مفتون جدًا بالحداثة وبريقها الظاهرِ الذي أعماهُ تمامًا عن رؤية عللها وآثارها المدمرة لدولتها الحديثة، وبحكمِ أن الدولة الحديثة والحداثة يعدان منتجين محوريين للسلطة (التي وصفها فوكو بامتياز)، فإنهما دمرا - كما أقول دائماً - بيئتنا الطبيعية، وهياكلنا المجتمعية والعائلية، وأنتجوا وعززوا جشعَ الشركة ونهمها، و خلقت أشكالًا جديدة من العنف لم تكن معروفة للإنسانية حتى الآن؛ بعبارة أخرى ،انخرط هذا الناقد ، باسم الفلسفة أو بالأحرى تمثل التفلسف الغير الناضج في توصيفات خاطئة وجسيمة.
جادل بعض النقاد بأنك تقومُ بدمجِ النظرية بالممارسة من حيث أنك تحكم على القيمة الأخلاقية للممارسة وتتجاهل الفلسفة التي تشكل أساساها، حيثُ أن الجانب النظري قد يتسمُ بالأخلاق وبواعثِ النية حسنة، فإن كل ممارسة على الأرض تتسمُ بالفوضوية والتعقيد، وهو ما يجعلُ ضرورة عدم تقييم الممارسة بنفس المعايير الأخلاقية للنظرية فيما يخصُ التنظيم والحكم، كيف ترد على الادعاء؟
وائل ب. حلاق: اولا يسعدني ان اقول ان هذا الناقد على الاقل لا ينكر ان ممارسات الحداثة وانعكاساتها العملية كانت سيئة ومدمرة. وهو ما يجعلُ امتلاكنا لأرضية مشتركة نتفقُ عليها على الأقل، لكني ما زلت أعتقد أن مثل هؤلاء النقاد يخطئون المقصد؛ أرفض الموقف الذي يميز بين النظرية والتطبيق؛ كان المسلمون قبل القرن التاسع عشر يتفاعلون مع هذا الطرح من خلالِ علاقة العلم بالعمل[4]، المشكلة الأولى هنا هي أن النظام الذي لا ترتبط معرفته النظرية بقليلٍ من الممارسة الأخلاقية هو نظام يعيش داخل نسقٍ يغلبُ عليهِ التشظي والثنائية، مما يتسبب في عدم الترابط والتفكك في نهاية المطاف، لأنه لا يقوم على أسس عقلانية؛ لذلك لم أعرّف الدولة كنظرية ، وبالتالي لا يمكن القول أنني حكمت عليها على أنها ممارسة؛ كان وصفي للدولة توليفياً على وجه التحديد لأنني أردت تجنب الوقوع في فخ انتقاد أحد الجانبين والفشل في انتقاد الجانب الآخر.
تميل جميع الأنظمة "نظريًا" إلى أن توصفَ بطرق جذابة ومرضية، وواقعُ ممارسة هذه الأنظمة يتسمُ في الغالبِ بالفوضوية والتعقيد، لقد قمت بتحليل الدولة على أنها تتكون من خمس سمات تركيبية: الأولى تتمحورُ حولَ كونِ الدولة أوروبية في التطور والأصل؛ وهي حقيقة تحملُ آثاراً سياسية وثقافية، والسمة الثانية تتمحورُ حول تمتعِ الدولة بسيادة غير محدودة؛ فالدولة الحديثة ليست ملزمة بأي سلطة مقيِّدَة؛ فهي تسيطر على كل شيء (ما لم تختار عدم القيام بذلك ، كما هو الحال عندما تقرر عدم تقييد انتهاكات الشركة ، وفي هذه الحالة تكون قد قررت عدم ممارسة سلطتها)، أما السمة الثالثة فتتمثلُ في احتكارِ الدولة للتشريع كاحتكارها للعنف تماما؛ ومردُهُ جزئيًا اعتبارها دولة ذات سيادة، أما السمة الرابعة فتتمثلُ في اعتبارِ الدولة بيروقراطية؛ ما يعني أنها ليست شخصاً ولا تهتم بالشخص كفرد، بل هي تعاملُ الأفراد وكأنهم متساوين؛ لذلك يقف الفقراء والأغنياء أمام القانون على قدم المساواة، بينما هم في الواقع ليسوا متساوين، أما السمة الخامسة فتتمثلُ في كونِ الدولة مهيمنة وتسيطر على كل جوانب النظام الاجتماعي؛ إنها تصنع وتعيدُ تشكيل الفردِ والمجتمع والاقتصاد والثقافة كما تشاء، من المهم التأكيد قبل المضي قدمًا على عدمِ إمكانية أي شخص عاقل أن ينازع الدولة في أي من هذه السمات أو الصفات الخمس، من المهم أيضًا التأكيد على أن هذه السمات الخمس تنطبق على معظم جوانب ومكونات الدولة ، إن لم يكن كلها.
وما ذكرتهُ الآن لا يمثلُ نظرية للدولة بل وصفاً تحليلياً لها، لذا فإنني أدرس كيف يتجلى هذا الوصف التحليلي في نطاقه الخاص للواقع بشكلٍ فردي، وليس بالمقارنة مع النظرية كـ"نظرية" أو ممارسة كـ"ممارسة"، بل داخل منظومة التحليل نفسها، ثم أجد أن كلا من تركيب الوصف من حيث ما هو عليه باعتباره واقعًا منطقياً (أنثروبولوجيا) مشوهٌ أخلاقياً؛ وهو نظامُ تصديقٍ مزدوج إذا جاز التعبير؛ لأن الوصف التحليلي هو في آن واحد مزيج بين الواقع والممارسة، وهو لا ينتهك أي من الأوصاف التحليلية الخمسة للدولة التي قدمتها في "الدولة المستحيلة".
قد يجيب الناقد بأن نظرية الدولة على الأقل تتسمُ بالقوامة والأخلاق، لأن الدولة تبذل جهدًا في سعيها لتكون عادلة، كما أنها تعتني بمواطنيها، وتحد من فترة عمل المسؤولين في المكاتب الحكومية، كما تمنحُ حيزاً لمعارضة الحزب الحاكم وكذا إعطاء حقوق في ممارسة الشعائر الدينية في المجال الخاص، وكذا إعطاء امتيازاتٍ طبية واجتماعية لمواطنيها، والفصل بين سلطات الدولة، وغيرها من لأمور؛ وهو طرحٌ صحيحٌ ليس فقط من الناحية النظرية ولكن من الناحية العملية أيضًا؛ تبذل الحكومة في الديمقراطيات الليبرالية قصارى جهدها لحماية حقوق مواطنيها كما تقدم بعض الحماية لهم، لكنَ هذا جميعهُ هو أقصى وأعلى ما يمكنُ للحكومة تقيمه؛ أي تقديمُ بعض الحقوق وبعض الحماية وبعض الامتيازات، خاصة بالنسبة للطبقات الدنيا من مواطنيها، لكن يجب على المرء أن يتساءل عن الدوافع التي تقف وراء هذا الخير، فلو درسنا تاريخ الدولة خاصة في أعقابِ الثورة الفرنسية والثورة الصناعية، فإننا سنرى نمطًا واضحًا حيث تعطي الدولة الحد الأدنى من جودة الحياة لمواطنيها من أجل السماح باستخدام وإساءة استخدام الطبقات الدنيا، باعتبارهم ضرورة ماسة للأثرياء والأقوياء لمواصلة خدمتهم وجعلهم عبرَ تسخيرهم موردَ ثورة وقوة للأثراء؛ ومنه فإن المنطق الناظم لهذه العلاقة هو منطق الصيانة وليس العدالة أو الأخلاق؛ عليك أن تطعم ثورك وتحافظ عليه لتجعله يحرث حقلك، فإذا لم تطعمه ، فسيموت أو سيصبح عديم الفائدة؛ ما تفعله الدولة لمعظم مواطنيها هو إطعامهم وإيوائهم، حتى يظلوا عمالاً مثابرين في خدمة أغنياء المجتمع والطبقات العليا؛ ما تريدهُ الدولة منا هو أن نصير مواطنين مطيعين صالحين لخدمتها ومستعدين لدودِ عنها والموتِ من أجلها ومن أجل حروبها.
يجب أن أذكر في هذا السياق أيضًا أن هناك مشكلة معرفية عميقة مع كل أولئك الذين يدافعون عن الدولة ككيان أخلاقي، وككيان يعمل بصدق من أجل تحسين حياة الإنسان وكرامته؛ المشكلة معرفية التي تتحولُ إلى مشكلةٍ منهجية تتمحورُ حول دراسة الدولة ذاتها؛ هؤلاء النقاد لا يدركون أنهم رعايا للدولة، وسذاجتهم الفكرية تمنعهم من رؤية المشاكل الخطيرة التي تطوقهم كمفكرين في الدولة؛ أصبحت الذات الفردية صورة مرآتية للدولة الحديثة وجزءًا لا يتجزأ من الدولة ومكونًا لها لدرجة أنه يمكن وصف هذه الذات بأنها صورة مصغرة للدولة نفسها، أو أن الدولة صورة مكّبرة لهذه الذات. لا شك أن الدولة تفكر في الذات، لأن الدولة/المواطن ، الدولة/ خادم ، هو من يصنع الدولة ويتحدثُ من خلالها، وهؤلاء النقاد هم بالتحديد جزء لا يتجزأ من تلك المجموعة ولكن من الصحيح أيضًا أنه من خلال الذات يتم التفكير والتصور والتمثيل للدولة؛ هذا هو الدافع الرئيسي لملاحظة فيبر وبورديو ، التي ترانا أننا لا نستطيع تحمل الفشل “للتفكير في دولة لا تزال تفكر في نفسها من خلال أولئك الذين يحاولون التفكير بها (كما في حال مع هيجل أو دوركهايم)؛ يجب على المرء أن يسعى إلى التشكيك في جميع الافتراضات والبنى المسبقة المنقوشة في الواقع وكذا أفكار المُحَلِّلَ ليحللها”.[5]وبالتالي ، فإن هؤلاء النقاد يتجاهلون الواقع ، ويتجاهلون خاصة ذواتهم المؤدلجة.
هناك من يرى بأنك لا تُعرِّف الدولة الإسلامية بناء على أي رؤية معيارية تستمد مرجعيتها من الوحي الإسلامي أو حتى التنظير السياسي الإسلامي، بل تكتفي بالبحث عن تجسيداتها في “الظواهر النظرية-الفلسفية، والاجتماعية، والأنثروبوليجية، والقانونية والسياسية، والاقتصادية، التي ظهرت في التاريخ الإسلامي.”، هل هذا صحيح؟ ولماذا؟
وائل ب. حلاق: أولئك الذين يقدمون هذه الاعتراضات يخلصون لأحكامٍ دون معرفة كاملة بما كتبته؛ فهم أولاً لم يطلعوا على كتاباتي المختلفة عن التاريخ الدستوري الإسلامي، وثانيًا فلقد جانبوا الصواب في قراءاتهم لكتبي التي اطلعوا عليها، نشرت مقالتين مسهبتين منذ أكثر من عقد من الزمان واحدة في مجلة "الشريعة الإسلامية والمجتمع "[6] والثانية في مجلة "الدراسات الإسلامية المقارنة"[7]؛ قدمت في هاتين المقالتين تحليلاً شاملاً للقرآن الكريم باعتبارهِ أساساً لما تبناه الإسلام عن الحكم السياسي، وبينتُ لماذا لا يُسمَحُ للحاكم بأن يُشرع أو يَسُنَ القانون، بل كان هذا الدورُ منوطاً بالفقهاء الذين يقطنونَ داخل البقاع الاسلامية من الأندلس إلى غرب الصين، باعتبارهم خبراء في المجال التشريعي، وتشريع الحلال والحرام هذه الحقيقة البارزة تكتسي لوحدها أهمية كبيرة وعميقة للحوكمة السياسية الإسلامية طيلة قرونٍ عديدة، فمنذُ أن منعَ القرآن الفرد أو الوكالة السياسية بالقيام بالدور التشريعي ؛ فإنهُ قد جسدَ بذلك فصلًا قويًا بين الجانب التشريعي والجانب التنفيذي للحكم السياسي. كان هذا الفصل حاسمًا في تشكيل الطرق الإسلامية لصياغة أنظمة الحكم، التي حافظت على مبادئها حتى القرن التاسع عشر، لكن جاءت الكولونيالية الأوروبية لتدميرِ المؤسسات الإسلامية التشريعية والسياسية والهياكل الاجتماعية والاقتصادية.
تشكل هاتان الدراستان الأسس التحليلية لكتاب "الدولة المستحيلة"، وكذا كتابي " الشريعة: النظرية والممارس والتحولات "[8] (نشرته مطبعة جامعة كامبريدج في عام 2009)، من المهم أن نلاحظ أن الغالبية العظمى من التعليقات التي صدرت عن "الدولة المستحيلة" لم تعر هاتين الدراستين الكثير من الاهتمام، وكيف وضعت ظاهرة الحكم الإسلامي التي ناقشتها في "الدولة المستحيلة" في سياق كتابي عن "الشريعة "، وكما أوردتُ في مقدمة "الدولة المستحيلة" فان فهم الكتاب يعتمدُ على فهمٍ صحيحٍ لهذه الدراسات السابقة؛ والمقصدُ هنا أني قمت بتحليل الأسس والجذور القرآنية للحكم.
في مشروعي القادم (وهو قيدُ الانجازِ حالياً)، سأتعامل مع التنظير السياسي الواردِ في طرحِ المواردي والجويني والغزالي وابن تيمية، وغيرهم الكثير، وصحيحٌ أنهُ لم يكن لدي مساحة كافية في "الدولة المستحيلة" لمناقشة هذا الموضوع بشكلٍ مستفيضٍ بما يكفي، وذلك على الرغم من أنني قد كتبت عن هذه الأعمال من قبل وقمتُ بمدارستها منذ أيام دراستي الجامعية[9].
ورغم هذا فقد قدمتُ - كما قلت - تحليلًا اجتماعيًا واقتصاديًا وأنثروبولوجيًا وفلسفيًا، كما يجبُ أن أؤكد أن هدفي لم يكن أن أُكسيِ الحكم الإسلامي طابعَ المثالية على غرارِ حكم النبي في المدينة المنورة، أو حتى حكم الخلفاء الراشدين. ومهما كانت هاتين التجربتين عادلتين ومنصفتين فإنهما لا تعكسان التجربة الإسلامية عبر التاريخ. كنت أرغب في تقديم وتحليل هيكل الحكم الإسلامي ومبادئه وقواعد عمله؛ ولكي تظهر مثل هذه الصورة، يجب علينا دراسة نماذج الممارسة السياسية والفلسفة الدستورية عبر القرون، هذا لا يعني أنني يجب أن أغطي كل فترة تاريخية وأن أدرس كل التفاصيل، فهو أمرٌ لا يُدركُ؛ فإن اهتمامي ينصبُ في الجانب الهيكلي؛ أي ماذا يعني تناول مثل هذه المسألة هيكلياً؟
يجادل العديد من النقاد بأن ما عرضته كان صورة مثالية للحكم الإسلامي؛ حيث أن العديد من الخلفاء والسلاطين كانوا مستبدين وظلمة، وحقيقة أن العديد من السلاطين كانوا مستبدين وجائرين حقيقة صحيحة بالتأكيد - فالحكام السيئون موجودون في كل مكان وزمان ولازالت السياسة الحديثة مُبْتَلِيَة بأمثالهم أيضًا، لكن هذا لا يؤثر بأي شكل من الأشكال على تحليلي؛ عندما ندرس على سبيل المثال النظام السياسي والدستوري الأمريكي ، لا يمكننا الحكم عليه على مدار تاريخ الولايات المتحدة بأكملها من خلال ما فعله أندرو جونسون وريتشارد نيكسون ودونالد ترامب وآخرين، وذلك على الرغم من أن نيكسون وترامب وأمثالهم أساءوا استخدام السلطة بطرق ملحوظة (وذلك على الرغم من أن السياسة الخارجية للولايات المتحدة ملطخة دوماً بانتهاكاتها لمبادئ التعبير الديمقراطي في جميع أنحاء العالم)، فإننا نواصل بشكل عام اعتبار النظام السياسي الأمريكي نظامًا ديمقراطيًا، لأن هياكل الحوكمة الأمريكية صمدت ولم تتغير بفعلِ هؤلاء المستغلون، وهو ما ينطبقُ على الحكم الإسلامي كذلك، الذي استمر طويلاً من خلال هياكله السياسية التي تستلهمُ الشريعة وضروراتها. ويستوجبُ على من يرى نقيضَ ذلك إثبات مدى صحة ادعاءه.
يمكن للمرء أن يقول بثقة أنه طالما كانت الشريعة هي قانون ودستور دار الاسلام، وطالما كانت الشريعة المهيمن الذي يقرُ بهِ الجميع (كما كان)، فإن تلك الهياكل السياسية صمدت بقوة وتحملت اختبار القرون؛ بعبارة أخرى، وعلى عكس ما دعا إليه الاستشراق بخصوص المسلمين والعرب، فأنا مهتم بالبنى التي لا تقع في حلقات الاستغلال، التي عممها المستشرقون لجعل قصة الإسلام قصة استبداد، وهو ما أطلقوا عليهِ بـ "الاستبداد الشرقي". " وهي سردية أرفضها تمامًا.
أجرى الحوار وترجمه من الإنجليزية عثمان أمكور
حقوق النشر محفوظة لموقع قنطرة 2022
[1] See, Hallaq, Wael B., 1955-. The Impossible State : Islam, Politics, and Modernity's Moral Predicament. New York :Columbia University Press, 2013.
[2] See, Hallaq, Wael B. Restating Orientalism: A Critique of Modern Knowledge. Columbia University Press, 2018.
[3]المناطق العراقية والأجزاء الشمالية الشرقية من شبه الجزيرة العربية
[4]المترجم: على غرار مقولة أبو حامد الغزالي في كتيبهِ المعنونِ "أيها الولد" حينما قال "العلم بلا عمل لا يكون ، والعمل بلا علمٍ جنون"
[5] Pierre Bourdieu, Rethinking the State: Genesis and Structure of the Bureaucratic Field,TRANSLATED BY LOlC J. D. WACQUANT AND SAMAR FARAGE, STATE/CULTURE State-Format ion after the Cultural Turn,Edited by GEORGE STEINMETZ, 1999,p:54
[6] Hallaq, W. (2009). Groundwork of the Moral Law: A New Look at the Qur'ān and the Genesis of Sharī'a. Islamic Law and Society 16, 3-4, 239-279, Available From: Brill https://doi.org/10.1163/092893809X12547479392108 [Accessed 01 April 2022]
[7] Hallaq, W. Qur’ānic Constitutionalism and Moral Governmentality: Further Notes on the Founding Principles of Islamic Society and Polity. the Journal of Comparative Islamic Studies. , 2012 , 2012, pp. 1-51Available From: doi: 10.1558/cis.v8i1-2.1 [Accessed 01 April 2022]
[8] الكتاب الأصلي يحمل عنوان (Sharia: Theory, Practice, Transformation) كما صدرت له ترجمة ن دار المدار الإسلامي يحملُ عنوان " الشريعة: النظرية والممارس والتحولات "
[9] see, for example, “Caliphs, Jurists and the Saljuqs in the Political Thought of Juwayni,” The Muslim World, 1984, pp. 26-41