طغيان صور العدو الوهمية
برهان غليون، سوري الأصل، ومدير "مركز الدراسات العربية والشرق المعاصر"، وأستاذ العلوم الاجتماعية في جامعة السوربون في باريس، يبين في الحوار التالي كيف أنّ الأيديولوجيات تدفع بالمنطقة نحو الانفجارات الداخلية ونحو إبعادها عن المناهج الديمقراطية.
لا يزال الرئيس بوش يراهن على القوة العسكرية في حربه ضد ما يعتبره "تطرفًا إسلاميًا". وعلى عكس توصيات تقرير لجنة-جيمس بيكر لا يرى بوش لا في إيران ولا في سورية شريكًا للحوار، بل يوجه لهما التهديدات السافرة. ما هو تقديرك للوضع الحالي؟
برهان غليون: إنها ببساطة سياسة عدوانية. مفتاح تحقيق السلام في المنطقة موجود في أيدي الولايات المتحدة والغرب، وليس في أيدي سورية وإيران. يتوجب على الغرب أنْ يغيِّر سياسته الاستعمارية جذريًا، تلك السياسة التي لم يمارسها في المرحلة الراهنة وحسب بل فعليًا منذ نصف قرن.
لكنني لا أرى حدوث هذا التغيير. والدليل على ذلك يكمن في تقرير-بيكر بالذات. التقرير الذي تمت كتابته بنبرة أكثر تهذيبًا فقط، لم يغير نهج التفكير الامبريالي. في المقابل لنْ يحيد محور "المقاومين" عن طريقه بفعل العنف والعقوبات.
فكل من "حزب الله"، و"حماس"، وإيران، وسورية يتوخون الدفاع عن مصالحهم التي يعتقدون أنها مشروعة. الأمر يتعلق هنا بحقوقٍ واضحة، بدءً ببرنامج إيران للتخصيب النووي لغايات سلمية، مرورا باستعادة الجولان المحتل، وانتهاءً بإقامة الدولة الفلسطينية. لاحظ أنّ بوش لم يأت على ذكر فلسطين في خطابه في العاشر من كانون الثاني/ يناير الجاري ولو لمرة واحدة.
تعد "مشكلة فلسطين" المشكلة الأصلية في الشرق الأوسط بلا أدنى شك. بيد أنّ السنوات الخمس الأخيرة أضافت إليها بؤرًا أخرى خالية من الاستقرار.
غليون: نحن نشهد تصعيدًا فعليًّا في فلسطين، وأفغانستان، والعراق، تصعيداٌ غير مسبوق، ومن المحتمل أنْ يطال لبنان أيضًا. علاوةً على ذلك تتشابك الملفات بشكل يتجاوز الحدود القطرية، كما نرى في النزاع المتصاعد بين السنة والشيعة، حيث يؤجِّج ما يسمى بالمحور المعتدل بقيادة السعودية حدة هذا الانقسام بهدف الحد من النفوذ الإيراني في العراق وفي مجمل المنطقة. ولا يستبعد أن يفكر التحالف الغربي بحل مفاده الانسحاب من العراق، مخلفًا ورائه معسكرات إسلامية متعادية، وحالة من الفوضى الشاملة.
إلا أنّ هذه المجموعات المختلفة تدخل في تحالفاتٍ مع بعضها البعض، كما هو الحال بين "حماس" السنية و"حزب الله" الشيعي على سبيل المثال.
غليون: كلاهما يريد الاحتفاظ بسلاحه. بالإضافة إلى ذلك هناك أولوية تامة لدى "حزب الله" حاليًا لمقاومة المحكمة الدولية التي تعنى بالتحقيق باغتيال رفيق الحريري. في الوقت الذي يتعين فيه على رئيس الحكومة اللبنانية فؤاد السنيورة الإصرار على هذه المحكمة، لأن شرعية حكومته وحركة 14 آذار الداعمة لها تأسست على رفض الاغتيالات السياسية واستكمال التحقيق فيها.
ولا يعني التنازل عن التحريات الرسمية عن القتلة – بغض النظر عن النتائج – سوى التنكر لهذه الشرعية والقبول بالاتهامات التي توجه للحكومة الراهنة على أنها تجسيد للخط الأمريكي في لبنان، في مواجهة خط المقاومة الرديكالية. لكن على الرغم من هذا التصعيد المنتظر، لا أعتقد أنّ حربًا أهليةً سوف تنشب قريبا.
ولا يزال من الممكن التوصل إلى تسوية إذا قبل "حزب الله" أن يعترف، في مقابل الحصول على الأقلية الضامنة في الحكومة، بشرعية المحكمة الدولية. وسيكون بوسع هذه الأقلية أن توقف أي قرار سياسي واقتصادي ما عدا إلغاء هذه المحكمة. ومن شأن "حزب الله" أن يقبل بهذا، إذا حصل على ضماناتٍ بأنّ نتائج التحقيق لن تمس النظام السوري في نهاية الأمر. فهو يعتبر هذا النظام حليفه الاستراتيجي الأول ولا يستطيع أن يتخلى عنه من دون أن يهدد مواقعه ذاتها.
ألا ترى في ذلك حلاً مؤقتًا لا يقدم أفقًا مستقبليًا لحل لبناني داخلي؟
غليون: نعم بالتأكيد. سيكون ذلك تهدئة مؤقتة فحسب. إذ ليس هناك حلول نهائية داخلية، لا لبنانية ولا عراقية ولا سورية. فقضايا هذه البلدان متشابكة بشكل عميق. والحل الوحيد هو الحل الشامل الذي يتناول جميع قضايا المنطقة دفعة واحدة، وفي مفاوضات تضم جميع الأطراف. وفتح مثل هذه المفاوضات يعتمد بالدرجة الأولى على موقف التكتل الغربي الذي يتمتع بنفوذ قوي في كل مكان. ومن دون ذلك سوف يبقى العنف والمواجهة سيد الموقف.
وهذا ما يشير إليه إعلان مقتدى الصدر مؤخرا أنّ لا جدوى من المقاومة السلمية، وكذلك إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد احتمال التفاوض مع إدارة بوش من حساباته. وفي المقابل يزيد الأسد من الضغط على معارضيه في سورية، وفي لبنان من خلال حزب الله، وفي فلسطين من خلال حماس، وفي العراق من خلال المقاومين.
لكنه يؤكد بالتزامن مع هذا وبلا كللٍ استعداده غير المشروط للتفاوض مع إسرائيل.
غليون: إنه يأمل من ذلك في تخفيف الضغوط عنه في الوقت الذي لا يتوقف عن الضغط على خصومه. ولسان حاله يقول: طالما تمتنعون حتى عن مجرد التفكير بمطالبنا، فإننا سوف نتابع "نضالنا".
أنت تقول أنّ الملفات متشابكة، لكن المعارضة الداخلية في سورية تنادي بالضبط بفصل الملفات عن بعضها البعض، وبالتركيز على مشاكل البلد الداخلية، بعيدًا عن نضال "حزب الله" في لبنان بالذات.
غليون: ليس هذا تماما. المطالبة بالتركيز على المشاكل الداخلية لا يعني فصل الملفات. فالقضايا كما ذكرت متداخلة. تردد بعض أقطاب المعارضة في دعم "حزب الله" أثناء حرب تموز لأنهم كانوا يخشون أن يستغل النظام ذلك لتشديد القبضة على المعارضة، لا لشيء آخر.
والواقع أن حالة الحريات قد ساءت في ظل حكم بشار الأسد. فإبان حكم والده لم يُلاحقُ أحدٌ على الأقل بسبب كتابته لمقالةٍ ما. من المحتمل أن المعارضة لم تتصور، في غمرة تفكيرها في انعكاسات انتصار "حزب الله" على علاقة النظام بها، حجم التأييد الذي سيناله انتصار حزب الله لدى الرأي العام العربي.
لكن الكثيرين قد ضاقوا ذرعًا بالحديث عن الوحدة العربية بالذات...
غليون: هذه هي المعضلة الرئيسية، فقد وضعت الدكتاتوريات العربية، وعلى رأسها النظام السوري، النضال القومي في مواجهة الاهتمام بالقضايا الداخلية الوطنية واستخدمته، على مدى عقودٍ طويلة، ذريعةً لتأجيل الإصلاحات الداخلية. لكن ألا يستطيع المرء أنْ يرفض هذا الرياء، وأن يوجه النقد للسياسة الاستبدادية والإمبريالية في الوقت ذاته ؟
يقع الرافضون للهوية العربية في سورية في الفخ نفسه الذي وقع فيه القسم الأكبر من الرأي العام السوري. فخٌ نصبه النظام: إما أن يكون المرء "قوميا" وبالتالي "معاديًا للديمقراطية" أو يكون ديمقراطيا ويصبح حليفا للقوى الأجنبية. وهكذا ينتصر الاستقطاب داخل الصف الوطني. وتنتشر الولاءات المتنازعة. وبدلاً من تعميق التضامن بين المجتمعات العربية تتفاقم القطيعة والانقسام. الأمر الذي لا يخدم في نهاية المطاف إلا الدكتاتوريات والسياسة الامبريالية معا.
أجرت هذا الحوار منى سركيس
ترجمة يوسف حجازي
حقوق الطبع قنطرة 2007
قنطرة
الديمقراطية العربية المنتظرة لم تولد بعد"
المفكر برهان غليون مدير مركز دراسات الشرق المعاصر وأستاذ علم الاجتماع في جامعة السوربون في باريس، يتحدث لقنطرة عن الإصلاحات السياسية، والتطورات الديمقراطية في العالم العربي،ومستقبل الإصلاحات والديمقراطية في سوريا.