حين يُستدعى التاريخ لأغراض سياسية

بوستر مسلسل معاوية
بوستر مسلسل "معاوية" الذي أثار الجدل بعد عرضه، وتم منع بثه في إيران والعراق. (Photo: Shahid/MBC)

فرض مسلسل "معاوية"، الذي أنتجته السعودية، نفسه على دراما رمضان 2025، بعدما فجر جدلاً تاريخيًا وسياسيًا ودينيًا في الشرق الأوسط. وقد منعت إيران والعراق عرض المسلسل، متهمين القائمين عليه بإثارة السجالات الطائفية بين المسلمين.

الكاتبة ، الكاتب: رحاب عليوة

"الطهو والسياسة متقاربان... الطهو أن ينضج الطعام ليأكله الناس، والسياسة أن تنضج برأيك وفعلك حتى لا تأكلك الناس"، ربما تلخص هذه الجملة التي سيقت على لسان الممثل السوري لُجين إسماعيل، مؤدي دور معاوية بن أبي سفيان في الحلقة الثالثة من مسلسل "معاوية"، الهدف من العمل الذي أنتجته المملكة العربية السعودية بميزانية ضخمة تجاوزت الـ 100 مليون دولار.  

ويُعرض المسلسل على منصة "شاهد" وقناة "MBC" السعودية، خلال شهر رمضان الجاري، ويُعد العمل، الذي جرى تصوير معظم مشاهده في تونس، وتمتد حلقاته لـ 21 حلقة، واحدًا من أضخم الأعمال الدرامية لرمضان هذا العام، إذ جمع أبطالاً من سوريا وتونس والأردن ومصر، وبإخراج مصري. بيد أن عرض المسلسل أثار جدلاً دينيًا وسياسيًا واسعًا، وتصدّر قائمة محرك البحث جوجل في الدول العربية، وتريند مواقع التواصل الاجتماعي حتى قبل أيام من عرضه.  

فيما منعته إيران والعراق ذات الأغلبية الشيعية، وقالت هيئة الإعلام والاتصالات العراقية، في بيان، إنّ "بث أعمال ذات طابع تاريخي جدليّ قد يؤدي إلى إثارة السجالات الطائفية، مما يهدد السلم المجتمعيّ ويؤثر على النسيج الاجتماعي". فيما أعلن علماء بمؤسسة الأزهر أنّ مشاهدة المسلسل "حرام شرعًا"، مستندين لموقف الأزهر التقليدي الرافض للأعمال الفنية التي تجسّد الصحابة أو الأنبياء، غير أنّ ذلك لم يمنع بث المسلسل في مصر. 

ويتناول المسلسل، حياة معاوية بن أبي سفيان (608-680 ميلاديًا)، أحد صحابة النبي محمد، ومؤسس الدولة الأموية (661-750 ميلادًا)، وأحد الضالعين الرئيسين فيما عُرف بـ"الفتنة الكبرى"، أكثر الأحداث حساسية في التاريخ الإسلامي. 

Here you can access external content. Click to view.

استدعاء التاريخ

وخاض معاوية، خلال تلك الأحداث، حربًا ضد علي بن أبي طالب، ابن عم النبي وصهره، الذي يحظى بمكانة مقدسة لدى المسلمين الشيعة، بعد خلاف داخلي دبّ على حكم الدولة الإسلامية الناشئة في ذلك الوقت.   

وبدأ الخلاف أثناء حكم الصحابي عثمان بن عفان (ثالث خليفة للمسلمين عقب وفاة النبي محمد) بعد اتهامه بمحاباة أقاربه من أبناء بني أمية (على رأسهم معاوية بن أبي سفيان والي الشام)، وسط غضب بين أهالي ولايات مصر والكوفة والبصرة الذين طالبوا أن يعزل الخليفة أقاربه، بحسب أستاذ التاريخ في جامعة الأزهر الدكتور أيمن فؤاد. 

ورغم أن عثمان بن عفان استجاب لمطالب المحتجين بعزل بعض أقاربه، إلا أنّ الأحداث تطورت سريعًا وقُتل عثمان على يد بعض الثائرين. بعدها، تولي علي ابن أبي طالب الحكم كخليفة رابع للمسلمين خلفًا لعثمان ابن عفان، إلا أنّ معاوية رفض مبايعته قبل الثأر من قتلة عثمان.  

وسرعان ما أدى ذلك، إلى مواجهة عسكرية بين معاوية وعلي (معركة صفين عام 657 ميلاديًا)، فكانت بداية الانقسام بين المسلمين، وظهور طائفة الشيعة، يشرح فؤاد. 

حرب ثقافية باردة بين السعودية وإيران

ويرى مراقبون أن المسلسل موجه إلى إيران وحلفائها فيما يشبه "الحرب الباردة"، إذ يحكم إيران، نظامًا إسلاميًا ينتمي للمذهب الشيعي ما يكسبها نفوذًا في العديد من دول المنطقة الهامة مثل العراق، لبنان، اليمن، وسوريا. 

ولهذا تحديدًا يُرجع الباحث في تاريخ الفرق الإسلامية حسن حافظ، لـ "قنطرة"، سبب "الإفراج عن المسلسل"، قائلاً إنه "كان يُفترض أن يُعرض قبل عامين في موسم رمضان 2023، لكن وقتها السعودية وإيران انخرطتا في مفاوضات سياسية تطورت وصولاً إلى المصالحة (بوساطة صينية في مارس/آذار 2023)، فتأجل عرض المسلسل، حتى لا يؤثر على المفاوضات".

وبات المسلسل الآن مناسبًا للعرض "مع ضعف المحور الإيراني في المنطقة، نكاية في الشيعة الذي استطاع معاوية وخلفائه في دولته التنكيل بهم، أو بمعنى أدق بآل البيت الذين يمجدهم الشيعة ويتمحور مذهبهم حول مظلوميتهم"، بحسب حافظ. 

ويوضحً: "المسلسل يمجد الأمويين، ويبعث رسائل مثل أن بعض الأوقات، خصوصًا في فترة الفتن، لا يناسبها سوى نموذج حكم فردي (شخص الخليفة/الحاكم)، خاصة لو كان الحاكم ذي بصيرة، يرى ما لا نراه". 

ويجسد المسلسل معاوية بطلاً طموحًا صاحب رؤية ثاقبة، فكان أول من دخل الإسلام من أهله. وله سمات قيادية مثل الطموح وسداد الرأي؛ فهو صاحب الاقتراح على عثمان بن عفان بإنشاء أول أسطول للمسلمين. ويشهد له من حوله بحنكته وقدراته السياسية كطاهٍ محترف في مطبخ سياسي كان جديدًا على المسلمين، ومع ذلك فهو إنسان رقيق في أهله، عانى مرات عديدة من فقد أحبته. 

ويرى حافظ، أن المسلسل يريد أن "يُسقط هذه الشخصية على ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان"، ويتفق معه الناقد الفني خالد عاشور قائلاً لـ "قنطرة"، إنّ "المسلسل عمد إلى تقديم صورة من معاوية شديدة الشبه بالأمير السعودي، حتى في مظهره وهيئته".  

ويضيف عاشور أنّ ذلك يبدو كان سببًا في "إلباس الشخصية ملابس وحُلي لا تتناسب مع العصر التاريخي للأحداث". 

ويعتبر عاشور أن الكثير من العناصر الفنية في العمل كانت "مستفزة" على حد وصفه، تعكس "غياب الدقة والبحث التاريخي العميق عن الفترة الزمنية وسماتها؛ فتظهر الفنانات في العمل بتصاميم متقدمة كثيرًا عن العصر الذي جرت فيه الأحداث، ويضعن مكياج كامل، وتظهر كتب في مكتبة معاوية رغم أن الورق لم يظهر سوى بعد موته بـ 300 عام تقريبًا وفي أوروبا". 

a man wears a black Jacket.
يرى الباحث المصري حسن حافظ، أنّ شخصية معاوية تبدو كإسقاط على ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. (Private)

إسقاطات سياسية

ويضيف عاشور، أنّ المسلسل "ركز على توجيه الرسائل السياسية والإسقاطات الآنية على حساب الوقائع والحقبة التاريخية التي جرى فيها".  

بدوره، قدم الباحث في الإسلام السياسي أحمد سلطان لـ"قنطرة"، قراءة أخرى للمسلسل، لا تستند على المكايدة السعودية لإيران، إذ يرى أنّ بين البلدين علاقات جيدة نسبيًا حاليًا. ورأى أنّ المسلسل يقدم إسقاطات على جماعات الإسلام السياسي مثل "الإخوان المسلمين" بمصر، أو تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" في سوريا والعراق، في سياق المقارنة مع فرقة "الخوارج".  

وظهرت فرقة الخوارج عقب معركة صفين (657 ميلاديًا)، التي جرت بين علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان. ولجأ معاوية، خلال المعركة، لحيلة برفع المصاحف على السيوف لوقف القتال بعدما كاد أن يُهزم فيه، وفق ما أظهرته الحلقة الـ 14 من المسلسل. 

ومع حيلة معاوية توقف علي عن القتال، ووافق على العودة لحكم القرآن عبر حكمين، تختار كل فرقة أحدهما، لكن مجموعة الخوارج رفضوا قراره وكفَّروا علي، وقتلوه لاحقًا، وفق ما نقلته أحداث المسلسل. 

ويدلل سلطان على رأيه أيضًا إلى أنّ صاحب السيناريو هو الإعلامي المصري خالد صلاح، المحسوب على النظام المصري الذي أسقط حكم جماعة الإخوان المسلمين في عام 2013. 

يقول سلطان لـ "قنطرة" إنّ المسلسل "واحد من الأعمال التاريخية التي تُستدعى كثيرًا في الأعوام الماضية من أجل مواجهة الإسلام السياسي"، مشيرًا إلى أنّ جدل مسلسل "الحشاشين" المصري الذي عُرض في شهر رمضان الماضي 2024، وتدور أحداثه في القرن الـ 11 هجريًا، عن حسن الصباح، زعيم الفرقة الشيعية التي نفذت العديد من الاغتيالات. 

ويضيف أنّ "مسلسل "معاوية" يُمجد في الدولة المدنية في مواجهة الدولة الدينية، على اعتبار أنّ "معاوية كان يدير دولته بالحنكة السياسية والبراغماتية لا التعاليم الدينية"، لكنه يرى أنّ "غياب الدقة التاريخية أضعف العمل".  

ومع كل هذا الجدل، يشدد أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة الأزهر، على أهمية مثل هذه المسلسلات، قائلاً: "الناس لم تعد تقرأ التاريخ، فتقديمه في الدراما أمر جيد"، فيما يتخوف الناقد الفني عاشور من أن يصل التاريخ "مشوهًا" ويثبت في الوجدان بأثر الدراما. 

© قنطرة