الفرصة الضائعة

يرى حسين الموزاني أن الكتاب الصادر أخيرا بقلم الكاتبين رشيد الضعيف ويواخيم هلفر يشكل مبادرة فاشلة في إطار برامج التقارب بين الثقافات.

لم تكن الاتصالات بين الشرق العربي والغرب مقتصرةً فقط على النزاعات المسلحة والغزوات التاريخية مثل الفتوحات الإسلامية أو الحروب الصليبية أو غزوات الإسكندر المقدوني وهنّيبعل ونابليون أو جورج دبليو بوش، إنما كانت تتعداها أحياناً إلى مستوايات أخرى دبلوماسية وثقافية ودينية مختلفة.

فهناك بلا شكّ لقاءات من طراز آخر ساهم فيها التجّار الفنيقيون المهرة والرحّالة العرب، بالإضافة الى العلاقة المتميزة بين الخليفة العبّاسي هارون الرشيد وكارل الكبير ملك الإفرنج في القرون الوسطى.

والآن، وفي زمن الإرهاب والشكوك المتبادلة وانعدام قنوات التفاهم بين العالمين الغربي والعربي نرى من يحاول، وبالذات في هذا الحقبة الحرجة، أن يتابع تلك التقاليد الإنسانية العريقة. ولعلّ المشاريع والبرامج الثقافية العديدة التي تقدمها دول الاتحاد الأوربي، ومنها ألمانيا، بغية دعم التبادل الثقافي بين المثقفين العرب والألمان أفضل دليل على رغبة الغرب في التعرّف على الطرف الآخر، لأننا نكاد لانرى مبادرةً في هذا السياق تنطلق من الجانب العربي.

مشروع "الديوان"

وبهذا المعنى فإن ما يسمى بـ"الديوان الشرقي-الغربي" المدعوم من قبل معهد غوته و"برلينر فستشبيله"، المهرجانات البرلينية، التي يشرف عليها الشاعر الألماني يواخيم زارتوريوس و"فيزنشافتسكوليغ"، كليّة العلوم البرلينية، ينطوي ضمن هذه المشاريع الثقافية.

ويجمع هذا البرنامج بين أديبين، عربيّ وألمانيّ، يمضي كلّ منهما بضعة أسابيع في وطن زميله ثم يدون معاياشته وانطباعاته في كتاب مشترك. وعادةً ما يغلب طابع الملاحظات والمشاهدات العامة ومحاولات التقرّب من ثقافة الآخر على هذه الكتابات ذات النفحة الأدبية أحياناً.

لكننا يمكن أن نعتبر الكتاب الأخير الذي جمع بين "تقارير" الكاتب اللبناني رشيد الضعيف وتعليقات زميله الألماني يواخيم هلفر على هذه التقارير حالة استثانية. وصدر هذا الكتاب بالألمانية تحت عنوان غير مألوف هو "مثلية"، أو "لوطنة العالم".

وهو لا يحتوي في متنه إلا على الملاحظات والاحكام الشخصية الطابع التي لا تسعى إلى الاقتراب من الآخر أو المقاربة أو حتى المكاشفة، بقدر ما تهدف إلى وضع شخصية الآخر موضع الشكّ والتساؤل.

فرشيد الضعيف على سبيل المثال لا يعالج في كتابه الصادر باللغة العربية تحت عنوان "عودة الألماني إلى رشده" وهو عنوان مقتبس عن الكتاب الأباحي "رجوع الشيخ إلى صباه في القوّة على الباه" للمولى أحمد بن سلمان، هو اسم مستعار، إلا قضية واحدة وهي "المثلية الجنسية" لزميله الألماني هلفر.

فالضعيف لم يحدثنا عن كتابات هلفر ولا عن نظرته للأدب الألماني أو الحياة الثقافية هنا بصورة عامة، إنما اقتصر حديثه على مثلية هذا الكاتب واشمئزازه المضمر والمعلن أحياناً من هذه الظاهرة "الشاذة" وعلى كيفية التخلّص منها.

في حين شرع هلفر، ومنذ البداية، على تفنيد الآراء والملاحظات التي دونها الضعيف فقرة إثر أخرى، بعد أن جزّأ كتاب الضعيف إلى مقاطع، ليضعَ عليها تعليقاته، دون أن يتيح الفرصة بعد ذلك إلى الضعيف ليعلّق بدوره على قراءة هلفر لنصّه.

الاصطدام العربي الألماني

يقول هلفر "إنّ احتقار المثليين في العالم العربي لا ينفصل عن احتقار المرأة، بل أن هذا الأمر يتصاعد ليصل إلى حدّ كره الخائن الذي يصطف إلى جانب المحتَقرين، وذلك على الرغم من أن الله خلقه حقيراً"، ويؤكّد في موضع آخر على أن المثليّ الجنسيّ يستفز الأخلاقيةَ العربيةَ القائمة على "الاندفاع الكيمائيّ الحيويّ الموجه والمستمد من مملكة الحيوان".

لكنه لم يكتف بذلك إنما يوسع من موضوع النقاش مع الضعيف ليجعله يشتمل على قضية في غاية الحساسية بالنسبة للسياسة والرأي العام الألمانيين وهي قضية العداء للسامية والموقف من اليهود.

فبعد زيارة مشتركة إلى "المتحف اليهودي" في برلين والتي لم يتعرض الضعيف إلى تفاصيلها قطّ، نرى يواخيم هلفر يجعل من رشيد الضعيف رجلاً جاهلاً وأميّاً "لا تحتمل أميته"، لمجرد أنه تساءل بعد تلك الزيارة عن عدد اليهود الألمان الذين ذهبوا ضحية الإبادة الجماعية وعدد الناجين منهم، مبدياً دهشته من ضخامة العدد، ستة ملايين ضحية. وبدلاً من أن يعطيه إجابة وافية عن هذا الأمر المهم نجد هلفر يلجأ إلى التعميم من جديد، فيقول ساخراً بأنه كشف لزميله "أكذوبة الدعاية الصهونية".

وجاءت هذه الفقرة في الواقع مفتعلةً تماماً ولم يكن لها ما يبررها في سياق النصّ، لاسيما وأن الضعيف لم ينكر هذا الرقم ولم يظهر أي نوع من العداء للسامية، بل سعى على العكس من ذلك إلى التقرّب من شريك هلفر، أي زوجه المثليّ، اليهودي البرليني "نون" ذي السبعين عاماً.

ثم إنّ الكاتب الألماني لم يبد أي رغبة في معرفة الأوضاع العامة في لبنان، وبالأخص فيما يتعلّق بالوضع الثقافي، أو أسباب الحرب الأهلية، أو الخلافات السائدة بين الأطراف السياسية هناك. وكذلك لم يبد رشيد الضعيف اهتماماً يذكر بالأدب والفكر الألمانيين، ولم يستشف مما كتبه بأنه مطلع على الثقافة الألمانية، لا سميا المعاصرة منها، إنما تحولت ألمانيا بالنسبة له إلى مجرد "خلفية" غائمة اختزلها بمثلية هلفر.

بقلم حسين الموزاني
حقوق الطبع قنطرة 2006

قنطرة

حوار متوتر حول المثلية الجنسية
"لوطنة العالم" عنوان كتاب للكاتب الألماني يواخيم هلفر بالاشتراك مع زميله اللبناني رشيد الضعيف صدرت مؤخرا عن دار نشر زوركامب. فولكر كامنسكي يقدم لنا عرضًا لنتائج هذا الحوار المميز.

التبادل الأدبي الألماني - العربي
يعتبر الأدب دوما أحد الوسائل الرئيسية في حوار الحضارات، وغالبا ما يتمثل هذا في شكل أنشطة صغيرة تعمل في الخفاء، المترجم والناشر مثلا اللذان يعيشان على حافة الكفاف، ويقتاتان من العمل في التعريف بالثقافة الغريبة المحبوبة. ونقدم هنا مبادرات ألمانية وعربية