إسلام علماني لعصر حديث!
فاجأت الهيئة الإسلامية العليا في تركيا في شهر يونيو/حزيران بإلإعلان عن تعريف عصري جديد للإسلام. فما تريده هيئة الشؤون الدينية التركية (ديانت) هو العمل على خلق صورة جديدة فيما يخص "المرأة" على الأقل، حيث تنوي الهيئة غربلة الأحاديث النبوية من الصياغات المعادية للمرأة ومن ثم حذفها، مثلما تريد حذف الفقرات التي تضطهد المرأة وتجعلها في مرتبة أدنى من الرجل.
وبهذا يصبح المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن – على الأقل في تركيا – في جانب المرأة، مما يعتبر خطوة جيدة في وضع الإسلام على طريق الحداثة. ومع ذلك فان هذا المشروع هو الوحيد من نوعه في العالم الإسلامي.
جدل حول الإصلاح الديني
هل تعتبر تركيا نموذجا لتركيبة مؤلفة من الإسلام والديمقراطية، ومن ثم مثالا يحتذي به العالم الإسلامي؟ إن نظرة واحدة على بعض ما هو منشور من الكتب الجديدة يكفي لإثبات أن هذه الفكرة لم تأت من فراغ.
فهناك ثلاثة كتب تلقي الضوء على الجدل الحامي الدائر في تركيا، موضحة أن التعريف الجديد للأحاديث النبوية ما هو إلا جزء صغير من هذا الجدل. وفي الغالب تقوم دور نشر صغيرة بالإشارة مبكرا إلى تلك التغيرات مثلما فعلت – في هذه الحالة - دار النشر "ارغون" بمدينة فورتسبورغ التي تقوم منذ سنوات بنشر العديد من السلاسل حول الإسلام التقليدي والحديث.
فهناك نشر كتاب "القانون كوسيلة لإصلاح الدين والمجتمع" للكاتب بولنت أوجار وكتاب "تنقيح تفسير القرآن في المفهوم المعاصر لعلوم الدين في الجامعة التركية" للكاتب فيلكس كورنر. وعلى الرغم من عدم سهولة عنوان الكتابين إلا أنهما يعتبران من الكتب الغنية بالمعلومات حول الجدل الإسلامي التركي.
إن كتاب السيد كورنر - القس اليسوعي الذي يقيم منذ سنوات في أنقرة وله علاقات جيدة بكلية الشريعة الهامة – يعد شيقا للغاية. ومن خلال علاقاته استطاع مناقشة فقهاء أتراك ذوي مكانة عالية. وكان محدّثوه من "مدرسة أنقرة" التي تضم فقهاء مصلحين صغار السن إلى حد ما يعملون بموافقة هيئة الشؤون الدينية التركية (ديانت) من أجل إسلام عصري.
وبؤرة نشاطهم تتركز على تفسير القرآن الكريم ومصادر التشريع الأخرى من جديد وأيضا بأسلوب غربي ناقد. وكان من بين هؤلاء البروفيسور محمد باجاجي (مواليد 1959) الذي يعتقد أن القرآن يمتاز بالعمومية والشمولية وأنه صالح لكل زمان، ولكن يجب النظر إليه من منطلق أن أسلوبه يرجع إلى القرن السابع الميلادي.
ولأن القرآن ينسب إلى تلك الحقبة فلا بد أن تعاد قراءته اليوم بما يتناسب مع القرن الحادي والعشرين. هذه الفكرة يرفضها "التقليديون" من بين الفقهاء المسلمين رفضا باتا.
القراءة التاريخية للقرآن
يعد البروفيسور باجاجي ممن يتبعون مدرسة المفكر الاصلاحي المولود في باكستان الشيخ فضل الرحمن الذي يرى أن القرآن ما هو إلا مجموعة من الحقائق، وعلى المرء أن يبحث عن "معانيها الواقعية". وبالمعنى البسيط فإن حد قطع يد السارق لا يعني إلا العقوبة على جريمة السرقة.
وكزملائه اعتمد باجاجي - الذي تلقى تعليمه في الغرب – على الأساليب الحديثة، واستخدم على سبيل المثال طريقة تفسير الإنجيل التاريخية الناقدة في شرحة للقرآن الكريم. كما قرأ المراجع اليهودية والمسيحية – التي يعتقد المرء أنها كانت مهمة آنذاك - بلغاتها الأصلية (حتى يأخذ طابعا عن لغة ذلك العصر).
كما قرأ ايضا الفلسفات الغربية مثل الفلسفة التأويلية لـ"غادامر". وإلى جانب البروفيسور باجاجي قدم كورنر كلا من عادل جفتجي وعمر أزوي وإلهام غولر. أما المفكرون القدامى من مدرسة أنقرة أمثال حسين أتاي ومحمد سعيد خطيب اوغلو فقد ذكرهم بين الحين والآخر.
ووصفهم جميعا بثقوب الفكر والجرأة. وقد جعل السيد/كورنر العنوان الفرعي لكتابه "إعادة التأمل في الإسلام"، وهذا العنوان الفرعي قد يصلح حقا أن يكون عنوانا رئيسيا للكتاب.
ونفس الأمر ينطبق أيضا على الكتاب الثاني "القانون كوسيلة لإصلاح الدين والمجتمع" للسيد بولنت أوجار الذي يصف الفترة التي سبقت الأعمال الحرة في أنقرة. فالوضع يتعلق بالحوار التركي الداخلي الساخن حول مدى الرغبة في التفسيرات الجديدة.
ويرتكز الحوار على "المذاهب الفقهية" الأربعة التي يتبعها غالبية المسلمين السنة. وقد قامت تلك المذاهب بتكييف الإسلام بعد وفاة النبي حسب الظروف العصرية. إلا أن هذا التكييف قد انتهى بـ"إغلاق باب الإجتهاد" (والإجتهاد "بذل الجهد" هو مصطلح إسلامي لاكتشاف حل مناسب للعصر).
ناقش كبار الفقهاء في تركيا بشدة إمكانية فتح "باب الإجتهاد" مرة أخرى وإلى أي مدى يمكن فعل ذلك. وقد عرض السيد بولنت أوجار قائمة للمفكرين المسلمين الأتراك غير المعروفين في القرن العشرين، وقدم بعض المصلحين مثل آتاي ومن ذوي الشهرة العالية أمثال ياسار نوري أوزتورك وفتح الله غولن.
وهذا الكتاب ما هو إلا تعريف بالمفكرين الأتراك المسلمين، ودليل على تعدد جوانب الإسلام ومبادئه الثقافية. كما يعد كتابه تكملة لعملية الإصلاح التي ركز عليها كتاب السيد كورنر.
أيدلوجية قومية جديدة
لقد أشار كورنر الى أن الجدل حول إسلام تركي معاصر لا ينبغي أن يقتصر على المحيط الأكاديمي. كما أن كلية الشريعة في أنقرة التي ذكرها ليست إلا نموذجا لأربع وعشرين كلية شريعة في تركيا. ويتخرج منها حوالي مائة رجل دين في الحكومة ومدرسين ومدرسات وأئمة. وما المجهود الذي تقوم به هيئة الشؤون الدينية التركية (ديانت) من تنقية الأحاديث النبوية إلا مثال لتأثير "مدرسة أنقرة".
وهناك كتاب آخر جديد يوضح أن تفكير "المجددين المسلمين" – كما أطلق عليهم من ذي قبل – قد شق طريقه إلى المستوى السياسي. وهذا ما أوضحته أستاذة علوم السياسة في أنقرة أليف جينار في كتابها "الحداثة والإسلام والعلمانية في تركيا".
وفيما يتعلق بالوضع منذ التسعينيات وفي ظل الحكومة الإسلامية الحالية برئاسة اردوغان ترى أليف جينار أن العلمانية والإسلام الأصولي في تركيا يمكن التوفيق بينهما. وطالبت أيضا بتكوين هوية قومية جديدة وأيدلوجية تقوم على هذين الركنين، ولكن بشيء من التمييز العلماني على الإسلام الأصولي.
وتصف السيدة أليف جنار التغير البطيء الذي طرأ على البلد وكيف استطاع الإسلاميون شيئا فشيئا إدخال تقاليد قومية إسلامية إلى جانب التقاليد القومية العلمانية: مثل تعظيم أتاتورك، وتمجيد إعلان الجمهورية في عام 1923، وجعل أنقرة رمزا لمركزية الدولة (بدلا من اسطنبول "القديمة")، ومنع المرأة من لبس الحجاب كرمز للعلمانية.
وإلى جانب ذلك عاد الإسلاميون إلى الحديث عن احتلال اسطنبول عام 1453 وعن مركزيتها (مستغلين في ذلك شهرة وشعبية اردوغان كمحافظ ناجح للعاصمة العثمانية القديمة) وعادوا أيضا إلى التركيز على أهمية حجاب المرأة كرمز. ولما اعتبر العلمانيون ذلك تهديدا ورفضوا كل جدل حول الهوية الجديدة (فالمثقف لا يمكن أن يكون إسلاميا والإسلامي لا يمكن أن يكون مثقفا) تغير الوضع ببطء مع نهاية هذه الألفيّة.
إن استعداد الإسلاميين - الذين ازدادت حداثتهم في فترة حكم اردوغان – لعدم قلب نظام الحكم ورغبتهم في خلق شيء جديد من العلمانية والإسلاموية أطاح بحجج العلمانيين بين الجمهور.
السياسة العلمانية
طرحت أليف جنار فرقا دقيقا للغاية ساعد في النهاية إلى تمهيد الطريق لهذه القضية. فعلى النقيض من سلفه اربكان رئيس حزب "الرفاه" الإسلامي أسس اردوغان حزبه الجديد "العدالة والتنمية". وهو حزب إسلامي علماني في نظام علماني.
وقد فصل أردوغان بين الأيدلوجية والحزب فصلا مطلقا. فبينما أولى كل من حزب "العدالة والتنمية" والحكومة إهتمامهما إلى المصالح القومية مثل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وليبرالية الإقتصاد ومكافحة الفساد وتطبيق الديمقراطية واللامركزية قامت جريدة "الشفق الجديد" اليومية المستقلة ولكنها مقربة من الحزب بمتابعة الحوار الثقافي حول بديل إسلامي علماني لتركيا (وهذا البديل يرضى النظرة الليبرالية الإسلامية التي تتحد فيها الليبرلية الإقتصادية والسياسية مع القيم الإجتماعية المحافظة والهوية القومية الثقافية التي تجعل من الإسلام مقياسا أساسيا).
وبهذا تعتبر أليف جنار تركيا نموذجا لتطور الديمقراطية الإسلامية العصرية التي قد تتطور من النظم العلمانية وتصبح توليفة إسلامية علمانية. وأنهت كتابها بالتصريح بأن الإسلاميين يجدون طرقا مبتكرة للربط بين الفكر والتطبيق الإسلامي للعلمانية والحداثة. وبهذا يمكنهم أن يمهدوا لظهور حداثة الإسلام.
من الهامش إلى المركز
هل تصبح تركيا حقا بهذا التطور حقل تجارب للعالم الإسلامي؟ لا توجد إجابة على هذا السؤال. وفي كل الأحوال فإن التطورات تبرز منهجين في تاريخ الإسلام، وهما أن الإسلام كان قادرا "الهامش" مثل الإمبراطورية العثمانية وإفريقيا وجنوب شرق أسيا على تطوير أنظمة جديدة من خلال تفاعله مع الثقافات التي كانت متواجدة بالفعل.
وفي نفس الوقت ظل مركز الإسلام في الجزيرة العربية صلبا يقاوم الصور والأنماط التي تأتيه من "الهامش". وتعتبر تركيا غير العربية حتى يومنا هذا إحدى "المناطق الإسلامية الهامشية". ولكن قد يختلف الأمر الآن في عالم الإسلام العالمي.
بقلم فولكر س. شتار
ترجمة عبد اللطيف شعيب
حقوق طبع النسخة العربية قنطرة 2006
قنطرة
المصلح فتح الله غولَن
فتح الله غولَن مؤسس حركة تعليم إسلامية منتشرة عبر أرجاء العالم، يرى في الأخلاق والمعرفة محركا لإرساء إسلام حديث يتلاءم والعلمانية. بكيم أغاي يقدم تحليلا للعالم الفكري لهذا المفكر الإصلاحي التركي
الإسلام والإصلاح
ما هو الدور الذي يمكن يلعبه الإسلام في إصلاح ودمقرطة المجتمعات الإسلامية؟ نقدم بعض النماذج التي يطرحها مفكرون مسلمون بارزون