كيف نتعلم ممارسة التعددية الثقافية؟
عينتني دول الشراكة الأوروبية المتوسطية قبل ثلاثة أعوام مدير لمؤسسة جديدة مشتركة كان قد تقرر إنشاؤها. يومها بلغ عدد أعضاء الشراكة 27 شخصا، أما اليوم فقد أصبح هذا العدد 37 عضوا. كانت مهمتي إنشاء مؤسسة أوروبية متوسطية يكون هدفها الرئيسي "تعلّم دروس التعددية الثقافية"، وذلك بناء على توصيات "مجلس الحكماء" الذي كان قد أنشأه الرئيس السابق للمفوضية الأوروبية، رومانو برودي.
منظمة مقرها في الجنوب
اتخذ قرار بجعل الجنوب مقرا لتلك المؤسسة، وكان ذلك بمثابة مؤشر للتحول الذي طرأ على العلاقات بين الشمال والجنوب. كان هناك مؤشر آخر هو تسمية المؤسسة بناء على اقتراح صادر عن مصر تيمنا بوزيرة الخارجية السويدية انا ليند التي لقت مصرعها قتلا في العاشر من سبتمبر/أيلول 2003.
هذا وقد اهتدت المؤسسة بعمل انا ليند الملتزم الدؤوب من أجل تكريس المساواة في الشراكة بين الشمال والجنوب وتحقيق تعاون متعدد الجوانب كوسيلة للتغلب على هيكل العلاقات التقليدية التي كانت سائدة بين المانحين والمستلمين. واجه عمل المؤسسة تحدي ممارسة أنماط جديدة من حوار الثقافات بهدف دفع كافة المشاركين بالحوار إلى تعلم خبرات وتجارب هامة.
كان الدرس الأول الذي علي أن أتعلمه إدراك الفرق الشاسع القائم بين الاتفاق الدولي العام بكون التعددية الثقافية أمرا هاما بل حتى حيويا بالنسبة للبشرية وبين الواقع الميداني سواء إزاء العلاقات القائمة بين الدول مع بعضها أو بين الناس أنفسهم.
لا يتعلق الأمر فحسب بالواقع الاعتيادي الملموس بكون الاتفاقيات المبرمة بين الدول لا تترجم بصورة مباشرة فيما يختص بحياة الأفراد داخل مجتمعاتهم. بل تعود جذور هذه الفروق إلى وجود سوء فهم جوهري من حيث إدراك التعددية كما لو كانت خطا حاجزا يفصل بين الدول والمناطق والقارات.
ويبدو أن أغلب الحكومات كانت قد انتهزت فرصة انعقاد المؤتمر العام لمنظمة اليونسكو في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2001 في باريس ومن ثم إصدار بيان عام بالإجماع حول التعددية الثقافية لكي تعمد في المقام الأول إلى المناشدة بتكريس السلام والتفاهم، وهو ما تلجأ إليه على نحو روتيني كلما تطلب الأمر منها التنديد بسيناريو ما يسمى بصراع الثقافات.
مفهوم التعددية
لكن الاتفاق الذي عقد في باريس بين الدول المشاركة كان يحمل في ثناياه أكثر من ذلك، فالبيان الخاص بالتعددية الثقافية يشكل بيانا بحق الفرد في تقرير هويته الثقافية وبحق الإنسان في تقبل التوجهات والقيم الثقافية والدينية داخل مجتمع ما أو في رفضها أو التكيف معها. فالبيان المذكور يعترف لأول مرة في تاريخ النصوص المقياسية الدولية بـ "الهويات المتعددة والمتنوعة والديناميكية سواء للفرد أو للجماعات الاجتماعية".
وكان قبل أكثر من 10 سنوات قد سبق أن تضمن البيان المنبثق عن عملية برشلونه عام 1995، ذلك البيان الذي شكّل الوثيقة التأسيسية للشراكة الأوروبية المتوسطية التزاما في العلاقات الدولية بشأن "ضمان واحترام التعدد سواء الثقافي أو الديني". لكن هذا البند بات ضحية لسوء الفهم الجوهري السائد حيال مفهوم "التعددية".
ما زال الناس بما يحملونه داخل أنفسهم من هويات متعددة وتركيب مختلط لشخصياتهم بعيدين عن محط اهتمام التعاون الدولي. فالأوروبيون يشددون وكأن الأمور لم تتغير بعد إطلاقا على "القيم الأوروبية". كما أن شركاءهم العرب ينطلقون بدورهم من أرضية "قيم الثقافة والمدنية العربيتين".
ونحن نشهد في إطار الجدل الدائر حول عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي يوما بعد يوم إفراطا في سوء استغلال الحجج الثقافية والدينية لأهداف سياسية، وأعني بذلك هنا أوروبا على وجه التحديد. هذا يجعلنا نعيش في أجواء يخيم عليها روح التشكيك المتبادل ويسودها مجددا نمط التعنت في تمجيد التراث الذاتي. الجدير بالذكر أن التوتر القائم في علاقات الدول ببعضها ينعكس على طرق التفكير والتصرف لدى السكان أنفسهم.
الخطوة الأولى نحو الآخر
يكاد كل مواطن من مواطني العالم العربي يشعر بغض النظر عن انتمائه سواء من الناحية الدينية أو غيرها من النواحي الأخرى بأنه عرضة للتمييز ولافتقاد احترام الطرف الآخر. أما الأوروبيون فإن أغلبيتهم لا تبدي أدنى تفهم لهذه المسائل الدقيقة الحساسة. وهم يلجأون كمخرج من هذه الإشكالية إلى نمط المحادثات الاجتماعية السطحية العابرة أو إلى إعطاء دروس لأقرانهم العرب حول مبادئ دولة القانون والديموقراطية السائدة لديهم.
لكن الأمر يكتسب طابعا صعبا دقيقا للأوروبيين عندما ينفتح شركاؤهم العرب في البحث والتنقيب ويعربون عن خيبة أملهم حيال عالم يرون بأنه مسخر من قبل التآمر الأمريكي الصهيوني ويرسمون صورة داكنة للغرب بحجة أنه قد خان قيمه الأخلاقية من خلال انصياعه لنهج ازدواجية الأخلاق وتقبل مظاهر الجنس الإباحي.
إن أغلب مواطني العالم العربي يدينون بمثل هذه الرؤى كما أن قناعة تامة تحدوهم بأن الإسلام هو الدين الوحيد الواقع بين الأديان الكبرى ضحية للتمييز من قبل كافة الأديان العالمية.
علمني الأب باولو دال أوليو الذي يترأس حلقة لاهوتية معنية بالعلاقة بين المسيحيين والمسلمين في دير مار موسى الواقع في الصحراء الجبلية السورية كيفية الخروج من مأزق المواجهة هذا. فهو يتساءل :
لماذا لا نقوم نحن باتخاذ الخطوة الأولى وبالإعراب للآخر عن احترامنا له بدلا من أن نطالبه بالقيام بنفسه بمثل هذه الخطوة الأولى؟هذا النهج كفيل بكسب القلوب وفتح النفوس المنطوية. المطلوب هنا مزيج مناسب بين تقاليد كرم الضيافة لدى الجنوب وبين التقاليد الأوروبية المختصة بمكافحة العنصرية والخوف المرضي من الغريب.
تواضع المؤمن والحقيقة المطلقة
وجدت مفتاحا آخر لهذه المعضلة في غضون لقاء أجريته مع شخصيات دينية بارزة أسميه تواضع المؤمن. فالفروق الجوهرية القائمة حيال الزعم بحيازة الحقيقة بصورتها الأخيرة الأبدية تنبع من مواقف مبنية على الإيمان لدى كل فرد من الأفراد .
ينبغي تبادل نقل هذه القناعات للآخر على أن تراعى في نفس الوقت محدودية إدراك الإنسان للأمور والتصرف وفقا لها. هناك قاسم مشترك يجمع بين كافة المفتقدين لروح الرحمة والاعتدال وهو ادعاؤهم بملكية الحقيقة المطلقة.
في هذا المنظور شكل الخطاب المفتوح الذي وجهته 38 شخصية بارزة تنتمي إلى عدة طوائف إسلامية إلى البابا بنديكتوس السادس عشر في أكتوبر/تشرين الأول 2006 مساهمة مهمة في الحوار المفتوح بين الجانبين. لقد شدد خطاب كبار العلماء هذا على المبدأ القرآني القائل إنه لا إكراه في الدين.
درس من مدير مكتبة
حصلت على المفتاح أو بالأصح على الدرس الثالث من إسماعيل سراج الدين الذي يعمل مديرا لمكتبة الإسكندرية. لقد طالبني بالعمل بروح دؤوب وفقا للفروق القائمة بين الحقيقة بصيغتيها الدينية والعلمية. لقد استطعت أن أطبق ذلك في مناسبات عديدة مما جعلني ألمس صحة مقولته.
فحتى ذوو الإيمان العميق (الذين درجنا في الغرب على تلقيبهم بـ "الأصوليين") يقبلون الحجة القائلة إن زعمهم بملكية الحقيقة المطلقة سيتعرض للشرخ حين يطلب منهم تفسير ذلك بالطرق العلمية. ذلك لأن مفهوم "الحقيقة الأبدية" لا يتناسب مع الواقع المبني على ظهور معارف علمية جديدة يوميا.
فحتى محمد مهاتير رئيس وزراء ماليزيا السابق المشهور بتنديده اللاذع الحاد بقيم الغرب ووصمه لها بالانحطاط بات يتبنى هذا الرأي، فقد ناشد العالم الإسلامي في نداء له بالانفتاح على العلم والتقنية دون الانصياع للقيود الدينية.
عجرفة الأوروبيين
إن توجيه الأنظار إلى أوروبا من الجنوب يجعل الأمور تكتسب طابعا متغيرا. فالكثير من الرؤى الأوروبية تتسم بالعجرفة. إذ أن العقلية الاستعمارية التي أكسبت بعض المصالح الإقليمية طابع الشرعية من أرضية القيم العالمية ما زالت قائمة بشكل عميق ثابت مما يستهدف النوايا المطروحة مهما تحلت بطابع جيد حميد.
سرعان ما تعمد الشخصيات الأوروبية التي تزور القارة الأفريقية إلى التباحث مع النظراء الأفارقة حول "المشاكل الأفريقية" زاعمة على نحو بديهي بأنها تملك مفتاح حل هذه المشاكل. هذه الشخصيات الأوروبية لا تتطرق أو لنقل نادرا ما تطرقت إلى مواضيع أخرى بمعنى أنها لا تكاد تفكر في تبادل الآراء مع النظراء الأفارقة حول مواضيع أخرى على سبيل المثال نزاع الشرق الأوسط أو المتغيرات المناخية أو حول المسائل الأخلاقية المتعلقة بالتعامل مع العلم والتقنية.
هذا الدرس تعلمته من خافير سولانا المنسق العام لشؤون السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي الذي اكتسب إسما لامعا بحكم مساعيه الرامية لإزالة التوترات بالانطلاق من الالتزام بروح الاحترام المتبادل لأطراف الحوار.
التعلم من الآخر
ليس مثل هذا الاحترام ثمرة من ثمار النداءات ذات الطابع الأخلاقي هذا وإن كان بالإمكان أن يتوفر هذا الإحساس بالاحترام لدى المرء من خلال إجراء حوار يبدأ وفقا لتعريف هانز غيورغ غادمر بالفرضية بكون الآخر هو ربما المحق، أي حوار مدلوله إتاحة الفرصة للتعرف على بعض.
لم يتم إنشاء مؤسسة انا ليند إلا قبل فترة وجيزة للغاية، على الرغم من ذلك فقد قامت بإعداد عدد كبير من أشكال حوار الثقافات بالتشديد على كون الحوار يتيح الفرصة لكي يتعلم كل منا من الآخر. إن ورش العمل الأوروبية المتوسطية التي تنظم للشباب تثير لدى المشتركين بها أحاسيس الفضول.
في نهاية كل من هذه الورش يطلب من كل شابة مشتركة أن تلقي خطابا كما لو كانت وزيرا لخارجية (أي رجلا) دولة أخرى، على أن يرافقها في إعداد الخطاب شاب يلعب دور مفوض وزارة ما لشؤون المساواة بين الجنسين.
يتم أيضا تنظيم حلقات دراسية لتأهيل المعلمات والمعلمين في إطار الشراكة الأوروبية المتوسطية وبمشاركة كل الدول الأعضاء البالغ عددها 37 عضوا لكي يتدارسوا سويا الأشكال المختلفة للتعددية الثقافية. تلك الحلقات تفرض عليهم التعامل بتحد، وذلك من خلال مطالبتهم بتقديم شروح للشباب حول تعددية القيم الدينية وغيرها من القيم دون اللجوء إلى أنماط الانحياز والتحزب.
من خلال العمل المشترك يتضح للفنانين الشباب المنحدرين من بلدان مختلفة مدى جاذبية التعددية هذه. كما يسمح لعلماء شباب أن يحضروا لقاءات يشترك بها خبراء كبار وأن يعبروا عن آرائهم وتقييماتهم في هذا الإطار ويمارسوا ضمن فرق متعددة الجنسيات لباحثين شباب تجربة "العلم بلا حدود". كذلك يمنح الصحافيون الناشئون جوائز لجهودهم الرامية إلى عرض التعايش البشري بين الأشخاص المختلفين من حيث الأصل والقيم للقراء على نحو يجتذب اهتمامهم.
العمل الميداني
تطورت مؤسسة انا ليند لتصبح شبكة تضم 35 دولة وتشارك بها كأعضاء ما يزيد عن 1300 مؤسسة ومنظمة مختلفة تعمل كلها وبأشكال مختلفة على ممارسة الحوار الثقافي على نحو ميداني. يتم في الوقت الحاضر إنشاء شبكتين أخريين في كل من بلغاريا ورومانيا.
وقد أبرمت مؤسسة انا ليند عدة اتفاقيات تعاون مع عدد كبير من الشركاء الإقليميين والدوليين بهدف خلق ثمار وحوافز طيبة وهو أمر لا غنى عنه بالنسبة لمؤسسة حديثة النشأة كمؤسستنا.
في نهاية العام الجاري ستكون مؤسسة انا ليند في حاجة إلى برنامج لتقديم الدعم المالي لها في غضون السنوات الثلاث القادمة. هذا وما زالت مسألة تمويل أعمال التنسيق عالقة في حالة معظم الدول الأعضاء أو لم يتم بعد إيجاد صيغة نهائية ثابتة لها.
لكنني على ثقة من أن المرحلة القادمة لمؤسسة انا ليند التي تستغرق ثلاث سنوات أخرى ستكرس بالنسبة لكل الأطراف المشاركة مفهوم "التعلم" كعنصر أساسي من عناصر الحوار وسوف تسهم بالتالي في تخفيف حدة الهوة القائمة بين الاتفاقيات الدولية المبرمة بشأن التعددية الثقافية وبين الواقع اليومي الميداني لدى السكان.
عندما تنتهي مدة عملي كمدير تأسيسي للمؤسسة في 31 مارس/آذار الحالي سوف أكون قد حملت في جعبتي عددا كبيرا ومهما من الدروس التي تعلمتها.
تراوغوت شوفتالر
ترجمة عارف حجاج
حقوق طبع النسخة العربية قنطرة 2007
تراغوت شوفتالر تقلد حتى 2004 منصب أمين عام هيئة اليونسكو الألمانية وهو حتى مارس/آذار 2007 مدير مؤسسة أنا ليند الأور-متوسطية للحوار بين الثقافات.
قنطرة
لقاء مع الأب پَولو دل أوليو
يكتسب حوار الأديان والحضارات أهمية بالغة في عالمنا اليوم. ولكن ما هي شروطه وأهدافه وأسسه؟ هذه الأسئلة، مع أسئلة أخرى، طُُرِحَتْ على الأب پَولو دل‘أُوليو. أجرى اللقاء الدكتور تراوغوت شوفتالر، مدير مؤسسة أنا ليند الأورو-متوسطية للحوار.
الخطأ والصواب في حوار الثقافات
أضاع العالم الكثير من الوقت في العقدين الماضيين في ما يتعلق بحوار الثقافات. فقد بذلت جهود كثيرة ولكنها ظلت في إطار فكري ضيق للحوار وظلت تدور في أجواء منطق سيناريوهات الصراع الثقافي العاجزة عن تقديم الأجوبة الصحيحة. مقال كتبه تراوغوت شوفتالر
www