تراجع في حلّ المسألة القبرصية
نيقوسيا هي العاصمة الأوروبية الأَخيرة التي لا تزال مقسّمة. حيث يسدّ الطريق باتجاه شطرها الشمالي التركي جدار عالٍ لا يمكن اجتيازه، وإلى الجنوب من هذا الجدار يمتد شارع ليدرا الذي يعكس تاريخ هذه الجزيرة المتوسطية. مقال بقلم أماليا فون غينت
يعكس شارع ليدرا صورة مطابقة عن تاريخ هذه الجزيرة المتوسطية. لقد كان محاربو منظمة إيوكا القبارصة اليونان يخوضون قبل خمسين عامًا حرب الاستقلال ضدّ الاستعمار البريطاني ويقتلون الجنود البريطانيين، الذين كانوا يشعرون بالأَمن والسلم في كنف بيوت الوجهاء المبنية بحجارة رملية في هذا الشارع الرئيسي من مدينة نيقوسيا. أَمّا في لندن فقد كان شارع ليدرا يوصف في تلك الفترة بشارع الاغتيالات.
عندما بدأت أَغلبية الشعب القبرصي اليوناني تطالب في عام 1958 بالوحدة مع اليونان، التي رفضتها أَقلية القبارصة الأَتراك، تمّ وضع اسلاك شائكة في شارع ليدرا، قسمته إلى شطرين، واحد جنوبي يوناني وآخر شمالي تركي.
المدينة المشطورة
بعد الحرب الأَهلية في عام 1963 تم استبدال الأَسلاك الشائكة بمتاريس. وأخيرًا تم توطيد الانقسام نتيجة للحرب التي وقعت في عام 1974 بعد الانقلاب العسكري الذي قام به في تلك الحقبة كبار الضبّاط في أثينا، والذي ردّ عليه الجيش التركي بغزو عسكري. يمتد عبر مدينة نيقوسيا القديمة وكل جزيرة قبرص حاجز من أَكياس الرمل والأَسلاك الشائكة، يطلق عليه اسم الخطّ الأَخضر.
قرر في الشتاء الماضي بعض الناشطين الشبان من كلا شطري قبرص أَنْ يُجبروا المسؤولين على فتح شارع ليدرا. وشعار هؤلاء الشبان هو »لا للحواجز في قبرص«. كان هدفهم هو التصدّي لتعنُّت السياسيين، الذي يحول دون إيجاد حل للمسألة القبرصية، على حد قول الناشطة القبرصية اليونانية فالنتينا سوفوكليوس.
لقد جذب حماس الناشطين الشبان أَيضًا رئيسي بلدية وكذلك تجّار العاصمة المقسمة. إذ بدأ الجانب التركي بإبعاد الأَسلاك الشائكة وأَكياس الرمل، مما عزّز الأَمل في إمكانية إزالة المتاريس والأَسلاك الشائكة من المدينة المقسمة.
هناك خلاف حول السبب الذي دفع قادة القبارصة الأَتراك إلى الإيعاز ببناء جسر صغير وغريب من الخرسانة والحديد والزجاج مباشرة في هذه المنطقة الحدودية الواقعة بين جبهتين. إذ أَنَّ الجيش التركي، الذي يسيطر على الحدود لا يريد رؤية سيّاح هنا في هذه المنطقة، على حدّ قول معارضين سياسيين أَتراك. كما يقول المعارضون الأَتراك، إنَّ بناء هذا الجسر كان عبارة عن حل وسط بالنسبة للحكومة، التي أَرادت فتح شارع ليدرا.
أَمّا حكومة القبارصة اليونانيين فقد اتَّخذت من هذا الجسر ذريعة من أَجل الحديث عن تقدّم غير شرعي للجيش التركي واجتيازه خطّ الحدود. طالب الرئيس القبرصي تاسوس بابادوبولوس بضرورة هدم الجسر. وفي المقابل تم رفض هذا الطلب بغضب من قبل محمد علي طلعت، رئيس »جمهورية شمال قبرص التركية« غير المعترف بها على مستوى هيئة الأمم المتّحدة.
وهكذا تم إيقاف إجراءات فتح شارع ليدرا. يشاهد الناظر من مركز الحدود القبرصي اليوناني باتجاه الشمال شريطًا حدوديًا غير مأهول يبلغ عرضه أَلف متر تقريبًا فيه خرائب مهجورة كما يشاهد جسرًا جديدًا جدًا، لكنَّه لا يؤدي إلى أَي مكان.
إبقاء الأَوضاع على ما هي عليه
يرمز الجسر الأَزرق في شارع ليدرا إلى النزاع القبرصي، الذي أَصبح حلّه بعيد المنال وذلك بعد أَن تم رفض خطّة كوفي عنان من قبل القبارصة اليونانيين. نصّت خطّة كوفي عنان تحت شعار »الأَرض مقابل الخبرة السياسية«، على أَنْ يُعيد الجانب التركي جزءً من الأَراضي الخاضعة منذ عام 1974 لاحتلال الجيش التركي إلى قبرص اليونانية.
ومن جانبها كان يجب على الحكومة القبرصية التي يسيطر عليها اليونانيون أَنْ تلغي جمهورية قبرص المعترف بها على مستوى الأمم المتّحدة وأَنْ تتقاسم السلطة مع القبارصة الأَتراك في دولة يجب تأسيسها من جديد وتكون عضوا في الاتحاد الأوروبي.
في استفتاء أُجري في نيسان/أَبريل 2004 صوَّتت الأَغلبية العظمى من القبارصة الأَتراك لصالح هذه الخطّة. إذ أَنَّهم كانوا يعقدون آمالهم على العضوية في الاتحاد الأوروبي لإيجاد نهاية للعزلة التي يعيش فيها منذ عام 1974 الشطر الشمالي غير المعترف به على مستوى الأمم المتَّحدة.
بيد أَنَّ القبارصة اليونانيين وجدوا أَنَّ ثمن موافقتهم على خطّة عنان باهظ جدًا، وذلك بما أَنَّه كان يجب عليهم أَنْ يُلغوا جمهوريَّتهم طبقًا لهذه الخطّة، ويتحمَّلوا القسم الأَكبر من تكاليف الغزو التركي وأَنْ يقبلوا أَيضًا وقبل كلّ شيء بتركيا كسلطة حاكمة في دولة مستقبلية. وهكذا رفضوا الخطّة.
ومنذ ذلك الحين تتحدَّث نيقوسيا عن »سياسة الخطوة القصيرة«. وهذا يعني في الدرجة الأولى إبقاء الأَوضاع على ما هي عليه. إذ أَنَّ الرئيس القبرصي اليوناني المتشدّد، بابادوبولوس، لا يعتبر حلّ المسألة القبرصية من أولويّات سياسته. بالإضافة إلى ذلك فهو يعتقد أَنَّ قبرص ستكون بفضل عضويتها ضمن الاتحاد الأوروبي قوية بما فيه الكفاية، لكي تتمكَّن من مواجهة تركيا.
وفي أثناء ذلك لم تعد تركيا تعتبر إيجاد حلّ للمسألة القبرصية من ضمن أولويّاتها. فأنقرة تحرص بشكل رئيسي على أَنْ لا تصبح قبرص عقبة في طريق دخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. لكن في نهاية شهر كانون الأَوَّل/يناير كانت قبرص تهدّد بالحيلولة دون دخول تركيا الاتحاد.
فقد صرَّحت الحكومية التركية في تلك الأَيّام، بأَنَّها لن تفتح موانئها البحرية والجوية للسفن والطائرات القبرصية. وقبرص هي دولة عضو في الاتحاد الأوروبي، وعليه فإنَّ فتح الموانئ التركية للسفن والطائرات القبرصية هو واجب من واجبات تركيا المرشَّحة لعضوية الاتحاد الأوروبي. قال وزير الخارجية التركي، عبد الله غول، إنَّ أَنقرة لن تؤدي هذا الواجب إلى حين بدء الاتحاد الأوروبي عقد علاقات تجارة مباشرة مع الشطر الشمالي التركي من جزيرة قبرص.
ديبلوماسية بيزنطية
بيد أَنَّ نيقوسيا تريد الحيلولة دون بدء العلاقات التجارية المباشرة مع شمال قبرص؛ فهي تخشى من أَنَّ بدء مثل هذه العلاقات يمكن أَن يشكِّل الخطوة الأولى في طريق اعتراف هيئة الأمم المتحِّدة بالدولة القبرصية التركية. حيث تحدَّثت حكومة بابادوبولوس عن الخوف من »تحويل شمال قبرص إلى ما يشبه تايوان« وقد هدَّد، بأَنَّه سوف يستخدم حق النقض لإيقاف المفاوضات المزمع عقدها في هذا الربيع مع تركيا من أَجل ضمّها إلى الاتحاد الأوروبي.
أَقرّ الاتحاد الأوروبي في نهاية شهر شباط/فبراير تقديم مساعدة مالية تبلغ 139 مليون يورو للشطر الشمالي التركي الفقير. وبصمت تم تنحية موضوع بدء العلاقات التجارية جانبًا. ردّت تركيا على هذا القرار بشكل هادئ يثير العجب. كذلك تراجعت قبرص بصمت عن التهديد باستخدامها حق النقض.
وفي هذه الأَيام يدور الحديث في غرف صحيفة »بوليتيس« Politis اليومية القبرصية اليونانية ذات الطابع اليساري الليبرالي عن تجارة أَبقار من الأَناضول وعن »رائعة الديبلوماسية البيزنطية«. تعتبر صحيفة بوليتيس بمثابة لسان حال القبارصة اليونانيين، الذين صوَّتوا قبل عامين لصالح خطّة كوفي عنان وعليه فهم يؤيِّدون إعادة توحيد وطنهم (تبلغ نسبتهم 25 بالمائة).
خطط من أَجل إلغاء التواجد العسكري
لقد أَوجد الأَمل لدى سكان قبرص الشماليين في دخول الاتحاد الأوروبي بالاشتراك مع جنوب قبرص في تشرين الثاني/نوفمبر 2004 نوعًا من الدينامية، بحيث تم وبشكل مفاجئ إسقاط تمثال الزعيم القديم للقبارصة الأَتراك رؤوف دينكتاش.
يعتبر مصطفى أكينجي أَحد من يؤيدون عن قناعة إعادة توحيد قبرص، وهو يترأس حركة صغيرة للديموقراطية والسلام، لكنَّها ذات نفوذ واسع في أَوساط المثقّفين. قال في حديث بينما كانت معنويّاته ضعيفة، إنَّه لا يرى سببًا من أَجل التفاؤل.
لقد شغل أكينجي طيلة أَربعة عشر عامًا في السنوات الصعبة بعد الغزو التركي منصب رئيس بلدية الشطر الشمالي التركي من مدينة نيقوسيا. بدافع تحقيق حلم إعادة توحيد البلاد أَعدًّ مع نظيره رئيس بلدية نيقوسيا القبرصي اليوناني السابق، ليلوس ديمترياديس خطَّة، شملت أَيضًا إعادة فتح شارع ليدرا. حيث تم في تلك الفترة تحويل الشارع على كلا طرفي الشريط الحدودي إلى شارع للمشاة. »لقد أَردنا تحويل قلب مدينة نيقوسيا القديمة إلى مركز خالٍ من السيارات وحيوي مطابق للمستوى الأوروبي«.
منذ أَنْ أَصبح الجسر الأَزرق عقبة تقف في طريق تحقيق هذا الحلم، قدّم أكينجي اقتراحًا لإلغاء التواجد العسكري في المدينة القديمة. وعلى الفور بدأ ناشطون شبان بالتمهيد للقيام بحملة من أَجل إلغاء التواجد العسكري في نيقوسيا. لكن لا يمكن التكهُّن، فيما إذا كانوا سيتمكَّنون هذه المرَّة أيضا من جذب الشعب إلى صفوفهم مثلما حصل في العام 2004.
بقلم أماليا فون غينت
ترجمة رائد الباش
حقوق طبع الترجمة العربية قنطرة 2006
صدر المقال بالأَلمانية في صحيفة نويه تسوريشر تسايتونغ
هل سيتحقق الحلم؟
لن يكون مسار المفاوضات سهلا كما أنه لا يوجد ضمان بكون المفاوضات ستؤدي في النهاية إلى انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. لكن ملف المفاوضات مع الاتحاد قد خلق داخل تركيا ديناميكية ساهمت مساهمة كبيرة في تعزيز ديموقراطية المجتمع. تقرير عمر أرزيرين