حوار في اليمن

للمرة الثالثة احتضنت إحدى أفقر دول العالم لقاء بين مثقفين ألمان وعرب من بينهم حامل جائزة نوبل غونتر غراس. سمير جريس مراسل الدويتشه فيلله رافق الوفد الألماني

ما مصير هذه العمارة التقليدية الرائعة؟ سؤال طرحه غراس على مرافقيه بعد أن غلبه الحزن لتداعي بعض هذه البنايات القديمة. وعندما علم أن البناء بالطين مهدد بالإنقراض وأن الخرسانة غزت صحراء حضرموت، اقترح غراس إنشاء مدرسة يتعلم فيها البناؤون الشبان أسرار هذه الحرفة من معلمي البناء المخضرمين حتى لا تندثر هذه العمارة الجميلة الموائمة للبيئة والتي توفر أجواء مثالية للعيش فيها صيفا وشتاء.

ولم يقف عن الاقتراح، بل تبرع بعشرة آلاف يورو لدعم هذا المشروع. وعلى الفور لاقت الفكرة قبولا وحماسا شعبيا ورسميا من اليمنيين الذين يسعون ما استطاعوا إلى الحفاظ على هويتهم وخصوصيتهم الثقافية.

ومر عام، وقدم الأديب الألماني إلى اليمن للمرة الثانية حيث افتتح في قلب وادي حضرموت "مركز غراس للعمارة الطينية". في مدينة شبام المشهورة بروعة أبنيتها الطينية أصغى غراس بانتباه شديد إلى حديث رئيس البنائين حول ترميم بيوت المدينة، ثم تسلم منه القفل الخشبي لبوابة المدينة القديمة تذكارا لزيارته. وفي تريم، مقر المركز، ألقى الدكتور عبد الكريم الإرياني، المستشار السياسي للرئيس اليمني، كلمة ترحيب بضيف اليمن الكبير معتبرا مبادرته مساهمة حقيقية على طريق حوار الثقافات.

غراس عبّر عن فرحته الطاغية بتأسيس مدرسة لتعليم البناءين الشبان أسرار البناء بالطين. وقال مازحا: ليس في ألمانيا مدرسة تحمل اسمي، لذا فأنا سعيد جدا بهذه المدرسة. ثم أضاف: أنا شخص تعود على التدخل في أمور السياسة وفي أمور الغير، لذا انتهز هذه الفرصة لأقترح إنشاء قسم في كلية الهندسة بوادي حضرموت يُعنى بالعمارة الطينية.

ملتقى الرواية

وتزامن مع افتتاح مركز غراس للعمارة الطينية حدثان ثقافيان: إطلاق فعاليات "صنعاء عاصمة الثقافة العربية لعام 2004"، وإقامة ملتقى الرواية العربية الألمانية تحت شعار "ويستمر الحوار". شارك في الملتقى نخبة من الروائيين العرب والألمان، منهم فؤاد التكرلي ومهدي عيسى الصقر وطه حامد الشبيب (من العراق) وجمال الغيطاني وميرال الطحاوي (من مصر) وهدى بركات وحسن داوود (من لبنان) ومبارك ربيع (من المغرب) وليلى العثمان (من الكويت)، وعدد كبير من الكتاب اليمنيين منهم الروائية والشاعرة نبيلة الزبير.

ومن الجانب المتحدث بالألمانية شارك ثلاثة من الشباب: إنغو شولتسه (من ألمانيا الشرقية سابقا) الذي اشتهر بروايته "قصص بسيطة"، والكاتبة النجمة يوديت هيرمان (من برلين) والنمساوية كاترين روغلا.

في حفل افتتاح ملتقى الرواية ألقيت عدة كلمات من يمنيين وألمان، تباينت في الأسلوب والتطلعات. أمنيات الشاعر اليمني عبد العزيز المقالح جاءت كبيرة تؤكد على أهمية اللقاءات الثقافية بين سائر المبدعين "لأنها بارقة الأمل الوحيدة الباقية للإخاء البشري وتقدم الحياة على هذا الكوكب في زمن تعثرت فيه كل الرؤى والإيديولوجيات".

أما وزير الثقافة والسياحة اليمني خالد الرويشان فقد ألقى كلمة تقطر شعرا، قال فيها لل مشاركين في الملتقى: "ها أنتم تخطون بأصابع أرواحكم رواية أحلامنا، وتنقشون بماء حنين قلوبكم فاتحة أعيادنا الثقافية ... إنكم ترسمون برق أيامنا في أفق يومئ لنا وينثال ضياء شاهقا آخاذا ... أنتم البهاء، أنتم الحب، لقد استحالت جمرة الحنين في داخلكم ضوءا ودفئا ينساب من عيونكم و أصابعكم، تحنون إلى هذه البلاد وأنتم في قلبها، وتحن لكم وأنتم في أحداقها". هذه اللغة الشاعرية أثارت دهشة الألمان، وعنها قالت يوديت هيرمان فيما بعد إنها لا يمكن أن تتخيل أن تسمع أحدا يتحدث هكذا في ألمانيا.

ربما لهذا جاءت كلمة الكاتب الألماني الشاب إنغو شولتسه مباشرة تخلو من البلاغة اللفظية. اعترف شولتسه بجهله للأدب العربي، لذا تردد في قبول الدعوة إلى اليمن. إلا أنه قرر المجئ للسبب ذاته، آملا في التعرف إلى المشاركين العرب والاقتراب من أدبهم. وأشار شولتسه إلى أن معرفة الكتاب العرب بالأدب الألماني أفضل بكثير من معرفة الألمان بالأدب العربي، وذكّره هذا الوضع بألمانيا قبل الوحدة، حيث كان الأدباء في ألمانيا الشرقية على إطلاع جيد بما يصدر في الغرب، بينما كان زملاؤهم في الجانب الآخر من السور على جهل بإصدارت الشرق.

أما حائز نوبل الأديب الكبير غونتر غراس فقد ألقى كلمة قصيرة تمنى فيها أن يتغلغل المرح إلى جلسات الحوار بين العرب والألمان. ثم أضاف ساخرا: "وهل هناك مفارقة أكبر من أن يتم افتتاح هذا الملتقى الأدبي في صالة أكاديمية الشرطة؟"

الرواية والسينما

أولى جلسات الملتقى العربي الألماني التأمت تحت عنوان "الرواية والسينما"، وفيها ألقى حسن داوود كلمة قال فيها "إن أمورا كثيرة يمكن أن تُقال عن ضرورة تراجع الرواية أمام السينما، لكننا مازلنا نفاجأ بوجود ما للرواية يتعدى ما يفرضه الزمن الحديث من تراجعها الاضطراري". جمال الغيطاني أشار إلى الاختلاف بين الكتابة الروائية والعمل السينمائي، مشيرا في هذا الصدد إلى تجربة عميد الرواية العربية نجيب محفوظ. لقد كتب محفوظ 77 قصة للسينما، لكنها نصوص لا تُدرج ضمن أدبه، ولم يسع هو إلى تحويلها إلى روايات.

وأشار الغيطاني إلى شروط الرقابة القاسية التي يخضع لها الفيلم أو المسلسل التلفزيوني، على عكس الأديب الذي يتمتع بحرية أكبر نظرا لمحدودية قرائه. هذا الرأي أكده غونتر غراس الذي قال إن الكاتب يجلس وحده متحررا من كل الضغوط الفنية والتقنية الملقاة على عاتق السينمائي.

الرواية في رأي غراس أكثر الأنواع الأدبية نهماً وانفتاحاً على الأجناس الأخرى. أما الفيلم فينشد البساطة والوصول إلى الملايين، لهذا فهو عاجز في معظم الأحيان عن طرح صيغ معقدة من التعبير الفني، مثل صيغة "كأن" أو "ماذا يحدث لو". إلا أن الفيلم يتمتع من ناحية أخرى بميزات بصرية لا تستطيع الرواية أن تجاريها.

وأشار غراس إلى تجربته مع السينما، حيث تلقى عروضا كثيرة لتحويل روايته "الطبل الصفيح" إلى فيلم، لكنه كان يرفض دائما. إلى أن أعلن المخرج المتميز شلوندروف عن رغبته في إخراج الرواية. الروائي المغربي مبارك ربيع قال إن إخراج الرواية سينمائيا لا يعطيها حقيقتها الروائية، لذا لا يرضى معظم الروائيين عن أعمالهم عندما تتحول إلى أفلام، فهناك دائما قصور.

الرواية والمكان

في محور "الرواية والمكان" تحدثت الكويتية ليلى العثمان عن البحر وقرى الصيادين التي نشأت فيها، وكيف أثر المكان في كتابتها. تقول العثمان: "صار المكان جزءا هاما من فعل الكتابة لدي، ومن هنا لا يمكن أن أتصور عملا خارج حدود المكان الواقع أو المتخيل أو المفترض".

أما مؤلفة "الخباء" ميرال الطحاوي فقالت إنها مغرمة بخلق مكان لا ينتمي إليه غيرها تجدل منه مساحة وجودها وتتشرنق فيه على وحدتها لتنسج مزيدا من المرويات التي لا تخص سوى ذاكرتها. واعتبرت الطحاوي أن الأماكن هي التي تسكن الإنسان وليس العكس. الروائي التونسي حسن بن عثمان أشار في مداخلته إلى أن المكان استحوذ على الرواية، لذا تحيلنا أعمال كثيرة إلى أماكن بعينها، فنقول طنجة شكري، وسودان الطيب صالح، وقاهرة محفوظ.

من الجانب الألماني قدمت الكاتبة يوديت هيرمان شهادتها عن مفهوم الكتابة لديها. قالت إن نجاح الكاتب يفسح له مجالا في الحياة العامة. لكنها لاتكتب عن السياسة وتبتعد عمدا عنها. لقد وصفوها بأنها صوت الجيل الجديد وروائية برلين، وهي لا ترضى بكلا الوصفين. إن كتابتها تدور حول الذات، لذا قد تشعر بالخجل من أن قصصها تتمحور حول حياتها المترفة.

هذا الموقف المنعزل عن الحياة العامة الذي يرى أن السياسة للسياسيين ولا مكان للأدب فيها، يعارضه غونتر غراس، أكثر أدباء ألمانيا تدخلا في الحياة السياسية. ترف الإنسحاب إلى الذات لم يكن متوافرا أمام غراس بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. أسيرا لدى القوات الأمريكية كان عليه أن يتساءل لماذا حدث ما حدث، وكيف يمكن تكرار ما حدث. ولعل الكاتب العربي يجد نفسه في موقف مشابه. إن عليه أن يقوم بدور الصحافة الحرة وأن ينهض بما تقوم به الأحزاب في الدول الديمقراطية، لذا تكمن أهيمة عديد من الأعمال الأدبية في طرحها السياسي قبل قيمتها الفنية.

الشعر والرواية

وفي اليوم الأخير من الملتقى دار نقاش طويل حاول أن يجيب عن السؤال التالي: هل نعيش زمن الشعر أم زمن الرواية؟ أكد عدد من الكتاب العرب أننا نعيش زمن الرواية، وهو ما عارضه بالطبع شعراء حضروا الجلسة، مثل المصري أحمد الشهاوي والعراقي على الشلاه الذي حث على قبول الفنون متجاورة وإنهاء فكرة الإلغاء.

أما حامل نوبل غونتر غراس فقد لاحظ أن المشاركين العرب يفهمون الشعر باعتباره لغة جميلة مفعمة بالصور. وقال غراس إن الشعر من الممكن أن يكون جافا قاسيا ومصدما، مشيرا إلى روايته "سمكة موسى" التي تدور حول الطعام، وكنوع من التناقض ضمن روايته أشعارا تتخذ البراز والمخلفات البشرية موضوعا لها.

بيان صنعاء

ختام الملتقى العربي الألماني انتزع الرواية من أحضان الشعر ورما بها إلى آتون الحرب. في محور "الأدب والحرب" اشتعلت القاعة بالنقاش حول العراق وصدام حسين والولايات المتحدة، وحول موقف الغرب من الحرب ومن قضية فلسطين. واختتم غراس هذه المناقشات بقوله إن الأدب لم يمنع أبدا نشوب حرب، فليس هذا هو هدف الأدب. ولكن معالجة آثار الحرب على البشر، هذه هي مهمة الأديب. على الأديب أن يتساءل لماذا وصل الوضع إلى ما هو عليه؟ وفي هذا الصدد توجه إلى الدول العربية بتساؤلات محددة: لماذا ينقسم العالم العربي؟ لماذا لم تساعد دول النفط الغنية شعب العراق؟ ولماذا تمثل تلك الدول أقوى حليف لواشنطن؟

وكعادة المؤتمرات العربية حرص ملتقى صنعاء على إصدار بيان ختامي تلاه الروائي جمال الغيطاني، وأكد فيه على ضرورة استمرار الحوار الثقافي بين الشرق والغرب لأنه الوسيلة الوحيدة من أجل مستقبل أفضل للبشرية وأجيالها القادمة.

وقد وعد غراس بالمجئ مرة أخرى إلى اليمن بعد أن يبدأ التدريس في مدرسة العمارة الطينية. لقد وقع قارع "الطبل الصفيح" في غرام اليمن. هذا ما أكده حامل نوبل في غير مناسبة. ومَن يرافقه في ربوع اليمن السعيد يرى افتتانه البالغ بالعمارة اليمنية، وشعوره بالامتنان لود اليمنيين وكرمهم الغامر، وحرصه الشديد على أن يحتفظ هذا البلد الجميل بخصوصيته الثقافية. فهذا هو الشرط الضروري كي "يستمر الحوار".

سمير جريس، دويتشه فيلله 2004