المتطرف الذي لم يشأ أن يكون ذلك
ولد محسن حميد عام 1971 في لاهور، وأنهى دراسته في جامعة برنستون، ليقيم سنوات طويلة في لندن بعد ذلك. كان حميد شديد الانتقال بين العوالم لدرجة لا تسمح له بأنْ يستعيد ويطرح أنماط صدام الحضارات المبسطة. وقد أظهرت ذلك روايته الأولى "فراشات الليل" التي كُرِّمت بعدة جوائز، والتي مثلت نظرةً داخليةً جريئةً سبرت أغوار المجتمع الباكستاني.
حالة اغتراب
لكن الكاتب يولي اهتمامه الآن لأمريكا. بالرغم من أنّ مجريات الأحداث تدور مجددًا على أرض باكستانية، وتحديدًا في قلب لاهور القديمة في بازار اناركالي المفعم بالحيوية والمعفر بالتراب، حيث يتلاقى أميريكي بلا اسم مع باكستاني ثرثار. ينظر الضيف القادم من الغرب إلى الشخص الملتحي قبالته بعين الريبة، فأمريكا في نهاية المطاف –ونحن الآن في الحاضر– في حالة حربٍ مع القوى الإسلاموية في كافة أنحاء العالم.
بيد أنْ هذا الفاصل القصير يمتد لساعات، وفي النهاية تبقى معرفتنا طفيفة بذلك الأمريكي الغامض، ولكننا نعرف كل شيء تقريبًا عن قصة حياة جانكيز الذي لم يبلغ بعد الثلاثين من العمر. هذه القصة يمكن قراءتها باختصار، وكأنها محضر يسجل حالة اغتراب: اغتراب شابٍ باكستاني عن الغرب الواعد، لأنه سيصطدم على غير رغبته بما سيجعل منه عدوًا: بهويته الإسلامية.
يعيش جانكيز الحلم الأمريكي على مدى أربع سنوات ونصف. فبعد إنهاء دراسته في جامعة برنستون يحظى بالعمل المنشود في إحدى الشركات الرائدة في نيويورك. شركةٌ تقدم خدمات المشورة للشركات. ثنائي الربح والخسارة، العماد الاقتصادي للعالم الجديد، يحدد تفكيره وسلوكه منذ ذلك الحين. لكنّ هذا يبدأ بالتبدل.
تتنازع جانكيز رغبته في الانتماء إلى هذا العالم ورهبته من التنازل عن ذاته الثقافية في بلد يُمكِّنه من الوصول إلى كل شيء ويأخذ منه كل شيء في الوقت عينه، لا سيما اعتزازه بأصله. لذلك يمتزج الحياء مع الغضب في فرحة جانكيز بأسلوب الحياة الأمريكية american way of life على نحوٍ متنامٍ، حتى يتحول في نهاية الأمر إلى المتطرف الذي لم يشأ أنْ يكونه، كما يفسر محسن حميد العنوان المزدوج لكتابه في أحد الأحاديث.
متطرف رغما عنه
"إنه متطرفٌ لم يشأ أنْ يكون متطرفا، لأنّ محيطه يرى فيه المتطرف المتدين، بالرغم من أنه ليس كذلك. أما هو فيرفض بدوره التطرف الاقتصادي لعالم الأعمال التجارية الذي ينتمي إليه. عالمٌ لا ينصب اهتمامه إلا على الربح والخسارة. وبالضبط هذا ما يمثل التطرف بالنسبة لي. النظر إلى العالم من وجهة نظر واحدة، مع تغييب كل وجهات النظر الأخرى.
ليس التطرف ظاهرة دينية بالضرورة! ألا يشعر كل إنسان بنزاعٍ داخلي بشكل أو بآخر؟ لكن هناك من يعالج ذلك النزاع من خلال قبوله بهذا التمزق، وهناك من لا يريد أن يرى إلا جانبًا واحدًا ويقول: وحده هذا الجانب هو كل شيء ووحده يمثلني. الرواية تحاكي هذا تحديدًا، حيث تعرض أنْ التطرف ليس دائمًا هو فقط ما نفهمه نحن تحت هذا المصطلح".
العجرفة الأميركية
لذلك سيخيب ظن من يتوقع أنْ الرواية تدور حول توجه مسلم إلى التطرف من جراء خيبة أمله من الغرب، وهذا جيد. بالنسبة لحميد الذي عمل فعلاً مستشارًا للشركات في نيويورك لعدة سنوات، والذي يتعرض منذ الحادي عشر من أيلول/سبتمبر إلى الاستجوابات بوصفه باكستانيا يُشك بامره في كل مرة يدخل فيها الولايات المتحدة- يتعلق الأمر بنظرته إلى العجرفة الامبريالية الأمريكية انطلاقًا من ذاته الباكستانية الأولى، وذلك بوضعه مرآةٍ نقديةٍ أمام تبجح أمريكا الاستعراضي بالقيام بدور شرطي العالم.
عندما اجتاحت أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول حياة جانكيز أيضًا، وقامت أمريكا باجتياح أفغانستان بعد وقت قصير، أدار جانكيز ظهره بشكل نهائي للحلم الأمريكي – بوعي لم يكن يعرفه من قبل، وعيٌ تبلور فجأةً بأنه كمسلم قد أدى خدماته للسيد الخطأ.
تاريخ المنتصر
"عزة النفس والتوق إلي الماضي"، كما يقول محسن حميد: "هي بالنسبة لي العوامل الإنسانية الأهم في القرن الحادي والعشرين. تسود في العالم الإسلامي فكرة الماضي المجيد. وهذا توقٌ إلى الماضي – توقٌ ينشأ حيث نشعر بالخطر وعدم الأمان.
ونحن نحيا في عالم كهذا لأنّ كل شيءٍ آخذ في التغيُّر في الوقت الحاضر. والاعتزاز بالنفس بدوره شيء مهم للغاية، إذ تتقاطع رؤى تاريخية مختلفة مع بعضها البعض في زمن العولمة. وبعض هذه الرؤى التاريخية تطرح نفسها بوصفها تاريخ المنتصر.
إلا أنّ الشعوب وهي على الجانب المهزوم لا ترى نفسها مهزومةً بالفعل. فهي تؤمن بأوطانها وأممها. نلخص المشكلة كالتالي: لم يكن هناك مجالٌ لالتقاء هذين الجانبين في السابق. أما اليوم فباستطاعتهما أنْ يشاهدا بعضهما في التلفاز. وفجأةً يصطدم الجانبان. هذه هي النقطة التي تهمني بالضبط: مراعاة الاعتزاز الذي يمتلكه الآخرون بالنفس. وهذه الحساسية للاعتزاز بالنفس تسود اليوم في العالم الإسلامي".
إخفاق الإندماج
يتمتع محسن حميد بالرزانة الكافية بحيث لا يستغل أبطال روايته ولا يَعرِضهم على أنهم لسان حال مجمل العالم الإسلامي. فجانكيز عبارة عن مثال فردي لإخفاق الاندماج بالرغم من النية الحسنة. لكن يغدو واضحًا بالدرجة الأولى كيف تعيث الريبة والرهبة فسادًا على كلا الجانبين من العالم – وكيف أنّ مسألة العدو والصديق تتعلق بوجهة نظر المتأمل.
لذلك يدع حميد مسألة من هو الشرير ومن هو الصالح معلقةً حتى الصفحات الأخيرة من روايته المكتوبة كمناظرة مسرحية. إذ يرى حميد أنّ: "المسألة الفاصلة هي: هل سيتوصل الجنس البشري في النهاية إلى التعاطف الضروري لتحقيق العيش المشترك؟ فليس أمامنا خيار آخر سوى تخفيف حدة الريبة من الآخر. ويبقى الأمل بأنْ يحدث ذلك في القريب العاجل، عسى أنْ لا تكون السنوات الماضية سوى لحظةً أخيرةً من الخوف قبل الانبعاث بمزيد من الشجاعة".
كلاوديا كراماتشيك
ترجمة يوسف حجازي
حقوق الطبع قنطرة 2006