الشاعر الذي جُنّ من الإفلاس والمحبة
في مجلة منزوعة الغلاف وقعتُ على قصيدة لشاعر طالما سمعت باسمه دون أن اقرأ له، مجلة وجدتها ببسطة كتب على رصيف في شارع من شوارع بغداد في السبعينيات، القصيدة هي: "آلام بودلير وصلت".. حيث الشاعر الذي جنّ من الإفلاس والمحبة، الجمرة في اليد والقدم الحافية تسعى. بقيت الصورة راسخة والأملُ يحفرُ في موضعه، والألمُ أيضاً.
ترى صورة الشاعر وتجده، اليومَ هنا، البارحة هناك، سنوات مرّت وأحداث أقلها مُرعب، كرّت، والشاعرُ الذي أحرقَ عقبُ سيجارةٍ أصابعه وهو يلاحق الصورةَ في القصيدة لسنوات دون كلل أو ملل. القصيدة التي تجد نفسها وقد ولدت في أسطر مرتعشة الكلمات، والشاعرُ يجلوها من جديد بعد كل إعادة كتابة دون أن يصله الرضا ويترك القصيدة لكي تأخذ طريقها.
تجدها في دفاتر متفرقة، على أوراق روزنامات لبلدان عديدة وسنوات متباعدة والشاعر ينظر إليها بعيني صقر، يعرف ما ينقصها، لكنه ينتظر اللحظة المناسبة التي يطول انتظارها لسنوات عديدة حتى يضع الشاعر اللمسة الأخيرة.
شاعر أساسي؟ أهم شاعر عربي معاصر بعد بدر شاكر السيّاب؟ تقرأ له بلغات عديدة وهو يبرق في القصيدة، لغتهُ واضحة وأفكارهُ نُسجت بعناية لا تجد لها مثيلاً في الشائع من الشعر العربي السائد اليوم!
الشاعر الذي "تعرف حين تقرأ له" أن ما يكتبه هو "الشعر". كما يقول عباس بيضون، تقولها لنفسك سرّا وللآخرين علناً. شاعر في وسط "ثقافي" يستكلب فيه كل من ارتكب كتابة "القصيدة" وكأنه قد أُنزل عليه
لم تعنه الشهرة، أحيانا مغمض العينين، ومستريحاً في سريره ينصت لسيرة الحياة في كل مكان قاده قدره إليه. ترى فيه المراقب الدؤوب لكل ما يدور حوله، حتى لكأنك تجد المكان أمامك وتشمّ الرائحة ولو كان الوقت خريفاً لعرفت فوراً أنه الخريف.
كان يكتفي بهذا القليل، فالعين تبصرُ آخر الطريق، وتقيس المسافة المتبقية تنتظر من ليست لديه المؤونة. تقرأ القصيدة وتعرف المسافة الفاصلة، تقرأ ترجمته لتعرف كيف عرف أن يغوص على المعاني. وما عليك ان أردت معرفة الفرق سوى قراءة ترجمته لبضعة قصائد من شيموس هيني وأي ترجمة عربية أخرى لذات القصائد.
قبل اسبوعين كنت عنده في المستشفى، حالته تحسنت، سوية جلسنا مع مؤيد الراوي، صوّرنا أنفسنا، بل طلبنا من جاره المريض أن يصورنا، واستعدنا روح النكتة كالعادة، ألقى نظرة أخيرة على ديوانه "عظمة أخرى لكلب القبيلة" وفي اليوم التالي زرته لكي يشرح لي على الورق اللمسات الأخيرة على الديوان. فيما بقي الغلاف معلقاً، ذلك أننا اتفقنا على رسمة انجزها ضياء العزاوي عن قصيدة له.
كان عليه أن يسافر يوم 27 اكتوبر الى سان فرانسيسكو حيث يقيم. وأتيته لكي أودعه ولكي نلقي نظرة على رسمة الغلاف التي أرسلها ضياء العزاوي وعلى مقترحات الغلاف الأخير. وحالما وصلت برلين، وجدت الألم، جنون الألم قد غيّر الميزان ولم يعد سركون يستطيع الجلوس ولا القيام. وبين هذه وتلك، كنا، مؤيد الراوي وأنا، عاجزين هنا، سركون قال لنا بأن الأمر يبدو خطيراً في هذه المرّة، وألقى نظرة على مقترح الغلاف بصفحتيه. خرجت من عنده وهو يعتذر عن آلامه التي قال أو بالأحرى أمل، وأملنا، بأنها غداً ستختفي.
وأتيت غداً، لم يفتح البابَ لي أحدٌ، ولا ردّ علي إتصالي التلفوني. وأنا بين أمل ويأس، أملٌ في أن يكون مؤيد قد أقنعه بالذهاب إلى المستشفى الذي لم يعد سركون يطيقه، ويأسٍ لم أرد حتى أن أعرف خفاياه، وهكذا عدنا إلى الشاعر الذي افترسه الألم ولم تعد المحبة قادرة على فعل شيء.
في أحد مستشفيات برلين وفي تمام الساعة الحادية عشر إلا ربعاً يوم الثاني والعشرين من شهر اكتوبر عام 2007 رحل الشاعر المعلم والصديق سركون بولص هادئاً عن هذه الفانية.
بقلم خالد المعالي
حقوق الطبع خالد المعالي