بين التكفير و"المؤامرات الخارجية"
هل تتجه العلاقات السنية-الشيعية نحو صراع مذهبي يعصف بحالة التعايش النسبي الذي طبع فترات طويلة من تاريخ المنطقة؟ أصبح يطرح هذا السؤال منذ الصعود العسكري "لحزب الله" في لبنان وتدهور الأوضاع الأمنية والسياسية في العراق. مقال بقلم صلاح الدين الجورشي
خلافا لما توقعته جهات متعددة، من بينها أطراف أمريكية وإسرائيلية، لم يتخذ الرأي العام السني موقفا معاديا أو محايدا تجاه "حزب الله" انطلاقا من اعتبارات مذهبية. لقد تصورت هذه الجهات أن مجرد انتماء أعضاء هذا الحزب للمذهب الشيعي، وعلاقته القوية بإيران، سيكون كفيلا ليثير شكوك ومخاوف الأغلبية السنية في العالم العربي على الأقل، ويدفعها إلى تقديم البعد الطائفي على البعد الإسلامي والقومي والوطني.
لكن باستقراء الواقع ونتائج الحرب على لبنان الذي لا يزال في حالة اضطراب، يمكن القول بأن حزب الله وقيادته ممثلة في الشيخ حسن نصر الله، قد حققا اختراقا تاريخيا للوجدان السني، شبيها بما حققه الخميني في مرحلته الأولى عندما كان يقود الثورة ليطيح بأقوى نظام سياسي وعسكري حليف للولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط.
الثورة الإيرانية أعادت الشيعة إلى التاريخ كان الصراع الصفوي العثماني هو آخر تنافس سياسي ومذهبي شهده التاريخ الإسلامي بين الشيعة والسنة. لكن عندما اندلعت الثورة الإيرانية، محققة مثالا فريدا في تاريخ الثورات القديمة والحديثة، اكتشفت الأغلبية الواسعة من المسلمين السنة أن هناك من يشاطرهم الانتماء إلى نفس الدين، لكن يختلفون معهم في المرجعية المذهبية والفقهية.
أما الشيعة فقد نفضت عنهم الثورة الإيرانية غبار النسيان، ولم تكتف بأن أعادتهم إلى دائرة الضوء، بل وأحيت لدى البعض منهم الرغبة التاريخية في قيادة العالم الإسلامي. أما المولعون منهم بترويج المذهب، فقد بدا لهم أن قيام دولة إسلامية في إيران تقودها مرجعية شيعية سيشكل فرصة تاريخيا لنشر التشيع على نطاق واسع، تمهيدا لدورة تاريخية جديدة بقيادة الشيعة.
"الأخوان المسلمون" والشيعة
لم تكن حركات الإسلام السياسي السنية، وفي مقدمتها حركة " الإخوان المسلمون"، تتوقع أن يشهد الربع الأخير من القرن العشرين نهضة قوية للشيعة. لهذا كادت أدبيات هذه الحركات أن تخلو من الإشارة إلى الشيعة وعقائدهم، ما عدا بعض العلاقات المحدودة. من ذلك أن الشيخ حسن البنا كانت تربطه صلات مع ببعض علماء الشيعة في إيران والعراق ولبنان.
لكن في المقابل حدث انفتاح لبعض المجموعات الشيعية على بعض الكتابات الأيديولوجية للحركات السنية، حيث قام على سبيل المثال تنظيم " فدائي إسلام " الإيراني منذ أواخر الخمسينات وأوائل الستينات بترجمة نصوص للبنا وسيد قطب والمودودي وغيرهم من رموز هده الحركات إلى اللغة الفارسية.
كما أن كتب العلامة العراقي محمد باقر الصدر، وبالأخص مؤلفاه الشهيران "فلسفتنا" و"اقتصادنا"، قد راجت بشكل قوي ولافت بين صفوف أبناء الحركات الإسلامية السنية، الذين كانوا في أشد الحاجة لأدبيات جدية تساعدهم على إدارة الصراع الأيديولوجي والسياسي مع التيارات الشيوعية.
الحركات الإسلامية فوجئت بالثورة
رغم تلك الإرهاصات، فقد فوجئت الحركات الإسلامية السنية بالثورة الإيرانية، وتردد "الإخوان المسلون" في تأييدها، ولم يكتفوا بذلك، بل شككوا في قيادتها، ووجهوا لها تهما خطيرة، قبل أن يتراجعوا عن ذلك، ويشكلون وفدا هاما توجه إلى طهران لتقديم التهاني للإمام الخميني بنجاح الثورة.
لكن مع ذلك بقوا حذرين، وانتقدوا فيما بعد الدستور الإيراني الذي اتخذ من ولاية الفقيه ومن الإمامية الإثنا عشرية مرجعية للدولة الجديدة. وبقي وضع السنة في إيران من بين الملفات التي يتم تداولها في أوساط هذه الحركات كلما تم التعرض للمسالة الشيعية.
كما أخذت هذه الحركات تحذر شبابها وأنصارها، خاصة في مناطق الاحتكاك بالشيعة من "مخاطر التشيع المذهبي أو السياسي". غير أن ذلك لم يمنع التأثير الواسع للثورة الإيرانية على شباب الحركات الإسلامية السنية في العالم العربي وتركيا ومناطق إسلامية عديدة.
لم ينجح صدام حسين في جر الحركات السنية لمساندته في حربه ضد إيران، نظرا لأسلوبه الدموي الذي كان يتعامل به مع خصومه من الإسلاميين العراقيين. إضافة إلى اعتقاد هذه الحركات بأن تلك الحرب كانت بتشجيع من أمريكا والغرب للقضاء على مشروع إقامة " الدولة الإسلامية ".
لكن مع ذلك، فقد أخذت العلاقة بين طهران والإسلاميين السنة العرب وغيرهم تفتر تدريجيا نتيجة سلسلة الأخطاء التي ارتكبتها الثورة، سواء عند تركيز قواعد الدولة أو بعدها، إضافة إلى رغبة إيران في تعزيز علاقاتها مع الأنظمة العربية على حساب مساندتها السابقة لحركات المعارضة السنية. لكن موقف إيران الثابت الداعم للحركات الإسلامية الفلسطينية، وصعود شخصية معتدلة مثل الرئيس خاتمي، قد حال دون حدوث قطيعة كاملة مع العالم العربي.
الجسم السني لا يزال محصنا
لعل الذي دفع بفرضية احتمال انفجار صراع سني-شيعي على نطاق واسع، هو ما يحدث في العراق من تعدد الاشتباكات والتصفيات المتبادلة بين أتباع المذهبين. بل ذهبت بعض الشخصيات الدينية السنية في العراق إلى الاعتقاد بأن السنة يتعرضون لتصفية منهجية ومخطط لها من قبل بعض الدوائر الشيعية.
كما أن تصريحات الرئيس المصري حسني مبارك عن " الهلال الشيعي" وولاء الشيعة العرب لإيران زادت في في خلق مناخ مسكون بالشك والحذر، وأثارت خوف الشيعة وغضبهم.
لكن الأحداث بينت أن الرأي العام السني في العالم العربي، لم يتأثر مذهبيا بما يجري في الساحة العراقية أو ما سجل من ردود فعل سياسية، وهو ما يفسر التأييد الواسع للمقاومة اللبنانية. بمعنى آخر، لا يزال الجسم السني الشعبي في العالم العربي محصنا ضد داء الطائفية المذهبية الذي بدأ ينخر المجتمع العراقي، دون أن يعني ذلك انتفاء المشكلة كليا.
عوامل حالت دون التفكك المذهبي
أسهمت عوامل عديدة في منع حصول احتقان مذهبي على نطاق واسع، ومن بينها:
نجاح الشيخ حسن نصر الله في نحت صورة الزعيم الأكبر من طائفته، حيث كان حذرا في كل ما يتعلق بنقاط التماس مع الأطراف السنية. كان ولا يزال يعبأ أنصاره بخطاب أيدولوجي قائم على استثمار أقصى لكل الأدب الرمزي الشيعي المتمركز حول التضحية والشهادة والطاعة والصبر.
لكن لغته السياسية وتحليله للمسائل الظرفية والاستراتيجية ونسج التحالفات بقي غير طائفي إلى درجة أذهلت خصومه وجعلت البعض يعتبره قد نجح في حجب كارزمائية جمال عبد الناصر. هذا الأمر جعل الشارع السني العربي وحتى الإسلامي لا يرى في حسن نصر الله رجل دين يحمل عمامة سوداء وإنما قائد وزعيم سياسي يدافع حسب اعتقاد الكثيرين نيابة عن "أمة سحبت ثقتها من كل قادتها ".
العامل الثاني يتعلق بتعدد النماذج الشيعية في المنطقة. فكما لا يوجد نمط واحد للتدين السني، لا يوجد نموذج وحيد للتدين الشيعي. حتى في العراق الدائرة الشيعية منقسمة إلى دوائر وخطوط واتجاهات، وهو ما جعل الكثيرين من المتابعين للشأن العراقي يميلون إلى الاعتقاد بأن الصراع الدموي الدائر تغذيه دوافع سياسية أكثر منها مذهبية. كما أن هناك أطراف شيعية عديدة غير عراقية تحمل تيارات وجماعات في الداخل مسؤولية ما يجري من إخفاقات وجرائم رغم أنها تقاسمها الانتماء إلى نفس المذهب.
الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة، إلى جانب السياسات الإسرائيلية، جعلت الكثيرين من أهل السنة والشيعة يفسرون ما يحدث هنا وهناك من اشتباكات طائفية بأنه من صنع " المؤامرات الخارجية". وهنا مرة أخرى يوفر العامل الخارجي ذريعة هامة للتحصن ضد التفكك الداخلي.
رغم هذه العوامل التي لا تزال تقوم بوظيفة " صمام الأمان "، إلا أن عديد القيادات السنية تشعر في أعماقها بأنها مهددة في مكانتها وفي قاعدتها الدينية، وتخشى أن تفقد دورها في المرحلة القادمة لصالح قوى شيعية صاعدة.
فالفكر السني عموما يمر منذ فترة بأزمة هيكلية لم يتمكن من تجاوزها. لهذا يحاول "السلفيون الجدد " تجاوز الأزمة بتحويل معركتهم ضد " الشيعة" ومذاهبهم إلى هدف ذي أولوية قصوى تصل إلى حد التكفير وتبرير "الجهاد" ضدهم .
فجزء هام من التيارات الإسلامية لا تزال ترفض بشدة مبدأ التعدد داخل دائرة "الإسلام الواحد". كما أن حملة الحرق المتبادل لمساجد الشيعة والسنة في العراق قد أشرت على أن انهيار الدولة المركزية يمكن أن يكشف عن أزمة تدين عميقة لدى بعض الشرائح التي تعاني من فقر ثقافي مدقع وضعف مدني مرشح لكي يهدد ما ترسخ من عمران وتعايش.
بقلم صلاح الدين الجورشي
حقوق الطبع قنطرة 2006
صلاح الدين الجورشي كاتب وصحفي من تونس.
قنطرة
عن الحرب الطائفية في العراق
يرى الكاتب العراقي حسين الموزاني أن الأزمة التي يشهدها العراق حاليا تعود إلى الدين الذي كان دوما عامل تجزئة في البلاد وأن الهوية الجامعة للشرائح العراقية المختلفة هي هوية ثقافية محضة
حرب أهلية مصغرة
يقدم فالح عبد الجبار، مدير معهد العراق لمعلومات الديمقراطية، في الحوار التالي تحليلا للوضع الحالي الذي يعيشه العراق ويطرح سيناريوهات مختلفة للخروج من دوامة العنف، بما في ذلك سيناريو الفيدرالية
الإسلام السياسي
ما هي التطورات التي تشهدها الحركات الإسلامية؟ ما هو الموقف الذي تتبناه من استخدام العنف؟ كيف تتعامل أوربا والمانيا بالذات مع هذا التيار؟ صحفيون وباحثون يتناولون في مقالاتهم وتقاريرهم ظاهرة الإسلام السياسي من جوانب مختلفة.