الشعر والدين مترابطان
بيسولتاتنوف الذي يعمل كمحرر صحفي وأستاذ محاضر ظل خلال حرب الشيشان الأولى محتفظا بموقعه كشاعر. لكن عندما اندلعت حرب الشيشان الثانية في سنة 1999 لم يعد يرغب في أن يكون ضحية مرة أخرى، ولذلك التحق بصفوف المقاتلين إلى أن غادر بلاده بعد ثلاثة سنوات من ذلك التاريخ.
منذ أيام الصبا كان آبتي بيسولتانوف يعيش مقيما داخل الشعر، كما يقول هو عن نفسه، وكالمعتاد تتهلل أسارير وجهه دوما عندما يتكلم عن الشعر. الظروف المحيطة وحدها هي التي دفعت به إلى ميدان السياسة "إذا ما صح أن نقول ذلك"، وهو يتمنى لو يتسنى له في يوم ما العودة إلى تكريس حياته للفن من جديد، وللفن وحده.
يقول بيسولتانوف: "لم تعد هناك للجمال الشعري من علاقة بالحياة الواقعية للناس"، ويكمل "قالوا، بعد فاجعة أوشفيتز النازيّة لم يعد هناك من مكان للشعر. وهذا ينطبق أيضا على واقع الشيشان."
فإلى حد الآن قد وقع من مجمل مليون نسمة من شعب الشيشان 200 ألف نفسا بشرية كضحايا حرب. ومع ذلك يظل هناك في بلاد الشيشان المدمّرة رصيد من الشعر أكبر مما يوجد في الغرب، "إذ لا أسرار وغوامض ولا قداسات هنا (في الغرب). كل شيء مخطط ومنمذج."
بيسلان كمرآة
لا يغذي آبتي بيسولتانوف أية أوهام تجاه الغرب؛ إنه يعي جيدا أنه بحكم تجاربه الخاصة ومواقفه لن يكون بإمكانه التأقلم مع الوسط الثقافي الغربي. إن مجموعته الشعرية التي تحمل عنوان "ظلال الصاعقة" تنحدر من عالم يمثل الدين فيه الرابط الذي تلتئم به كل خيوط نسيج الكيان الإنساني.
"الدين والشعر يمثلان كيانا موحدا؛ إنه أمر لا جدال فيه بالنسبة لي. فالله قد خلق العالم على صورة قصيدة شعرية." بالنسبة للإنسان المؤمن لا وجود لشيء يحدث بمحض الصدفة، وهكذا يقر بيسولتانوف بأن حرب الشيشان لا بد أن يكون لها مدلول عميق.
"في بلاد الشيشان يطرح العالم خفاياه في نور النهار"، يوضح بيسولتانوف؛ "ههنا يخبر المرء حقيقة علاقة الروس بالشيشان، وعلاقة الروس ببعضهم البعض، والشيشان في ما بينهم، ومن خلال السكوت عن هذه الحرب يكشف العالم المحيط أيضا عن وجهه الحقيقي".
فقط عندما يتم قتل أطفال يبدي العالم اهتماما بهذا النزاع – لقد اتضح هذا الأمر من خلال عملية بيسلان. لكن عندما يتعلق الأمر بالشيشان فلا أحد يبدي أي اهتمام بضحاياهم، حتى عندما يكون هناك أطفال يُقتلون. وتفيد تقديرات المنظمات العالمية لحقوق الإنسان بأن هناك ما لا يقل عن 40 ألف طفلا قد لقوا حتفهم في الحرب خلال الخمس سنوات المنصرمة.
"لكن، حتى لو كانوا 30 ألفا، أو ألفا واحدة، أو طفلا واحدا فقط؛ فهناك دوما أطفال يموتون"، يقول بيسولتانوف الذي هو أب بدوره. "إن بيسلان قد مثلت أشرس وأفظع انعكاس لواقع الحرب الشيشانية إلى حد الآن. بيسلان هي الشيشان."
الأمل محدود
اللامبالاة التي يبديها الغرب تجاه هذه الحرب لها علاقة بالعقيدة الدينية للشيشان: لو أن الشيشان كانوا غير مسلمين لكانت ردة فعل الغرب مغايرة. أما أن تكون العقيدة الدينية هي السبب الذي يكمن وراء الحرب فذلك ما يدحضه بيسولتانوف بصرامة. إن الأمر يتعلق بمقاومة لسلطة احتلال، أما ماعدا ذلك فمحض دعاية.
وعن العناصر الأجنبية المشتركة في القتال إلى جانب الشيشان فإن بيسولتانوف يقدر عددهم بعشرة إلى عشرين شخصا على أقصى تقدير، أما في ما يخص توجه الشباب نحو الحركات الإسلامية فإنه يعتبر ذلك من نتائج الحرب؛ فالغرب لم يمنح هؤلاء إلى حد الآن أية إمكانية للأمل.
تاريخ معاناة الشعب الشيشاني يجد له تعبيرا في قصص المصائر الفردية للعائلات الشيشانية كل على حدة. فوالد الشاعر بيسولتانوف مثلا كان من المقاتلين في صفوف الجيش الأحمر السوفييتي، ومع ذلك يتم نقله من ضمن مجمل الشعب الشيشاني إلى المنفى الإجباري في شهر فبراير 1944 كـ"عدو للشعب"، وذلك بالرغم من إصابته في الحرب.
تدمير القرية
وكان من نتائج ذلك أن كان على خمسة من أبنائه العشرة أن يتذوقوا معاناة الجوع، ولم يكن سوى لأصغرهم وهو آبتي أن يولد في أرض وطنه على إثر عودة العائلة إلى هناك في سنة 1959. كان آبتي في السادسة من عمره عندما شهد موت والده متأثرا بجراحه القديمة التي أصيب بها في الحرب، أما والدته فقد توفيت في السنة الماضية عن 89 سنة من العمر بعد أن شهدت تدمير قريتها غويتشو تدميرا كليا.
وقد سبق للقرية أن عاشت في سنة 2000 الحصار الذي أقامه عليها العساكر الروس. أثناء ذلك الحصار تم إجلاء الشيوخ والنساء والأطفال ليحشروا في حقل مغمور بالثلوج حيث كان عليهم أن يقضوا عشرة أيام متتالية قابعين في العراء بلا سقف ولا أكل وشراب.
قصيدة "شايباخ" يعود تاريخ نشأتها إلى ما قبل عشرين سنة وهي من ذلك الصنف من قصائد بيسولتانوف التي لا يستطيع أن يدركها القارئ غير الملم بوقائع التاريخ الشيشاني إلا في هيأة ظلال غائمة. عندما حل السوفيت بقرية شايباخ سنة 1944 لم يكن بمستطاعهم ترحيل السكان بسبب التراكم الكبير للثلوج، وهكذا حبسوا 700 شخصا داخل حظيرة للدواب وأحرقوهم أحياء هناك.
يلقي آبتي بيسولتانوف بعض المقاطع من تلك المطولة الشعرية ذات الأشكال المتنوعة بلغته الأم ذات الأصوات الحلقية وترابط الحركات التي لها وقع غريب كليا على الأذن الأوروبية؛ لكن المستمع يستطيع أن يستشف إلى أي مدى تتمايز الأنماط التقليدية التي يمارس عليها تجريبيته وتتباين وزناً وإيقاعاً.
ارتياد مواقع نادرة
وإلى جانب هذه القصائد الوطنية هناك أشعار أخرى لبيسولتانوف من ذلك النوع الذي يتيسر على القارئ غير الشيشاني أيضا فهمها مباشرة. إن القوة التي تنضح بها الصور الشعرية في قصائده توحي بأن بيسولتانوف "يرتاد مواقع لم يبلغها أحد من قبله" حسب الصياغة التي يقدمها جوزيف برودسكي عن مهمة الشاعر. فالقارئ يجد مثلا أفكارا "مثل خرفان بيضاء" ترعى ليلا "فوق المروج الزرقاء لأحلامي".
القلب ثيمة مركزية في أشعار بيسولتانوف: نادرا ما بدا القلب مثلما يبدو لديه مرفأ للأحاسيس الفردية. القلب هو مستقر الشجاعة والكبرياء التي لا تنثني، والتي تحدد موقف آبتي بيسولتانوف، لكن دون غنائية مفخمة النبرة. أما النوادر التي يرويها عن الحرب فهي تشهد على إرادة الحرية التي تسكن قلوب الشيشان الذين لم يعرفوا في تاريخهم هياكل تراتب إقطاعية أبدا.
رجل ضد رجل
"أقولها بكل صراحة: يعجبني أن يكون الرجال رجالا لا يترددون ثانية في المضي إلى الموت من أجل قناعاتهم " يصرح بيسولتانوف. لكن ليس كل من يموت في سبيل قناعته يقدم بذلك دليلا على الشجاعة. بيسولتانوف يرفض العمليات الإرهابية واحتجاز الرهائن رفضا قطعيا، بقطع النظر عن كون توجيه طائرة للارتطام بناطحة سحاب لا ينطوي على شيء مما يمكن أن يعد شجاعة.
إن الشجاعة تفصح عن نفسها في الصراع وجها لوجه؛ رجلا ضد رجل. والحرب بالنسبة لآبتي بيسولتانوف ليست ثيمة محاطة بالتحريم، بل هي تجربة حياتية. عندما انخرط في الحرب كف مثلا عن التدخين وعن ارتكاب الخطايا أيضا، ذلك أنه كان يريد أن يمثل بسريرة طاهرة أمام خالقه.
جمالية قادمة من عالم آخر
"في الحرب تكون الأشياء كما يسمّيها المرء؛ العدو عدو، والصديق صديق. الألم ألم، والفرحة فرح بحق." لا يتبقى هناك إذن مجال للاستعارات الشعرية. وفي ذلك الزمن كان بيسولتانوف يعتقد أنه سوف لن يكتب شعرا بعدها البتة.
قبل سنتين فقط وبمناسبة حلوله ببرلين قادما من الأدغال الشيشانية للمشاركة في المهرجان الأدبي للمدينة، عندها فقط تراءت له الأشياء على صورة أخرى. من بين الجمهور الذي حضر قراءته كان هناك بعض عشرات من اللاجئين الشيشان وإلى جنبهم عدد قليل من الألمان.
وقد كان لهؤلاء الأخيرين أن يستمعوا في تلك الأمسية إلى ما لم يسبق لهم أن استمعوا إلى مثله من قبل. بعينين مغمضتين كان الشاعر المقاوم، مترعا بعوز حياة الأدغال، يلقي قصيدة "شايباخ". وقد كان ذلك لقاء مع جمالية قادمة من عالم آخر. "إنني بكل تأكيد نوع عتيق بالنسبة للألمان"، يقول بيسولتانوف بسخرية تستمد نكهتها اللاذعة من البعد الذي يتخذه تجاه الغرب. "عندما اختُرع الكمبيوتر لم تكف السحب عن التنقل عبر السماء؛ لِم ينبغي علي أن أضمحل إذاً ؟"
سيغلندة غايزل
ترجمة علي مصباح
عن صحيفة نويه زويرشه تسايتونغ 18.09.2004