الشاعر المتمرد ...الحكاية التي في عينَي يحيى حسن
ولد الشاعر الدنماركي الفلسطيني الأصل يحيى حسن في بيئةٍ مهاجرة في الدنمارك تعاني أزمة في الهوية، ولأنها على هامش المجتمع المضيف ابتكرت أخلاقياتها المتناقضة، ناهيك عما فيها من العنف المنزلي والتصعب وازدراء القانون؛ الأمر الذي جعل النجاة من آثار ذلك كله غير ممكنة دون معجزات، لتضيف التيارات العنصرية التي سيصاب بسهامها فيما بعد جراحًا أخرى سيعاني بسببها حتى لحظته الأخيرة.
عنف البيت وصرامة غيتو المهاجرين أوصلاه إلى التورّط في عدد من الجنايات التي جعلته ينشأ، خلال مرحلة التأسيس، في إصلاحيات الأحداث، وهناك سيظهر وجهه المتمرد الحقيقي في الكتابة، عندما حوّل العنف الذي عرفه وعاشه إلى قصائد ستشكّل صدمة شعرية لبلد لم يعرف صدمات شعرية من قبل، بلدٍ رغم عدد سكّانه القليل باع فيه الكتاب ما لم يبعه كتاب شعري في تاريخ لغته، ولهذا راحت التيارات العنصرية، بمختلف ألوانها، تسنّ أسنانها للترويج لهذه القصائد كدليل على قبح ثقافة وحياة مجتمع المهاجرين، على مبدأ "وشهد شاهد من أهله".
..............
طالع أيضا:
يحيى حسن: أعجوبة شعرية عربية ألهبت حماسة هيستيرية في الدنمارك
............
وبالطبع، لم ينطلِ على نباهة هذا المتمرد الموهوب، رغم حداثة سنّه (نتحدّث عن شاب في الثامنة عشرة من عمره وقتها) مقدار القذارة في ذلك التبني اليميني المزعوم، ولهذا فتح نيران سخطه عليهم، كما سبق وفتح نيرانًا مشابهةً على بيئته الأولى، وانتقل معهم من الصراع المعنوي إلى الصراع المادي، ولهذا عاش تحت حراسة من السلطات في الدنمارك، إلى أن أتى اليوم الذي وقع فيه المتوّقع وأطلق النار من مسدس يخفيه على شاب في ظروف غامضة، فانتهى إلى السجن وانقطعت أخباره.
في عام 2017، دخلتُ إلى ندوة في هلسنكي، عاصمة فنلندا، بمحض الصدفة، دعا فيها "نادي القلم الدولي" ممثليه في كل البلدان الأوروبية، ومن بينهم فرع الدنمارك، وحين فُتح باب النقاش سألتهم عما فعلوه لأجل هذا الشاعر المُلقى في السجن رغم أن قضيته قضية دفاع عن النَّفْس كما هو معروف، فأجابتني ممثلة النادي أنهم بذلوا كل جهودهم لأجل مساعدته، لكنه رافض لمجرد التحدث معهم، وعلى الرغم من أنني حاولت الظهور بمظهر المستاء من تقصيرهم، نبض في داخلي إعجاب مضاعف بكبرياء شاعر من زمن الفرسان.
يأتي الآن خبر موته وحيدًا في غرفته في مدينة آرهوس، ثاني أكبر المدن الدنماركية، ولا تزال الرواية غامضة بخصوص أسباب الوفاة، إلا أنها تُعيد إلى ذهني الحوارات المُصوّرة التي سبق وشاهدتها له على الإنترنت، فأتذكر إعجابي القديم به، لا سيما بالأشعة التي تبرق في عينه أثناء تحدّثه. وقتها اعتبرتها قادمةً من طاقة الذكاء المتفجر فيه، لكنني في هذه اللحظة، لحظة تلقي خبر الرحيل، أحيلها على معنى آخر، على الموت الكامن فيه، الموت الذي وصل إلى مرحلة الإشعاع من عينيه، ليروي بالضوء شكل الحكاية النهائي، ويعيد إلى الأذهان صور الشعراء العظام الذين مرّوا على هذا العالم مرورًا عابرًا، غير أن الأشعة التي بثوها في اللغات والنفوس، وكثيرًا ما ظلّت عصيّة على النقد والبحث، ها هي تأخذ شكلها المفقود، إنها تلك البروق التي تتقادح في دواخلهم لتصلنا على شكل ضوء ترمي به العيون كلما نظرت.
لم أقرأ شعر يحيى حسن سوى في ترجمات متفرقة. في قصائده القليلة المتاحة حكايات عن قهر مبكر، وروح صاخبة برفضها ورغبتها في الفضح والتعرية. روح ولدت لتكون في موقع المناوئ، لكنّ صورته شابًا ستظلّ كما هي، حتى بعد أن يشيب من قرأوه، ومن رأوه، لتقول لمن يبحثون عن السرّ في قصائده إنّ أشعة كثيرةً وصلت إلى اللغة، لكنّ ما لم نعرفه مضى مع الجسد الراحل قبل أوانه، فكثيرٌ من الشعر أسرار.
رائد وحش
حقوق النشر: الترا صوت 2020
كاتب وصحفي من فلسطين - سوريا، من مواليد دمشق 1981. عمل محرراً في عدد من الصحف والمواقع الإلكترونية السورية والعربية. صدر له في الشعر"لا أحد يحلم كأحد" سنة 2008، و"عندما لم تقع الحرب" سنة 2012، و"مشاة نلتقي.. مشاة نفترق" سنة 2016، وفي النثر "قطعة ناقصة من سماء دمشق" 2015.
..............................................................
قصيدة في فناء الشعر Poetry Yard
للشاعر الدنماركي من أصول فلسطينيّة يحيى حسن
والذي رحل قبل عدة أسابيع عن هذا العالم.. لروحه السلام والمحبة
★★
ترجمت القصائد الكاتبة دُنى غالي
★★
1
طفولة
خمسة أطفال مصطفون وأبٌ بهراوةٍ
شتى أنواع النواح وبركةٌ من شخيخ
نمدّ بتناوبٍ أكفّنا للأمام
محتسبين مقدما
ذلك الصوت عندما الضربات تصيب
الأخت التي سرعان ما تطفر
من القدم الأولى إلى الثانية
والبول شلالٌ ينزل على طول ساقها
اليد الأولى إلى الأمام أولا ثم الثانية
إن تأخر الوقت تصيب الضربات عشوائيا
ضربةٌ صرخةٌ رقمٌ 30 أو 40 أحيانا 50
وضربةٌ أخيرة عند الخروج على المؤخرة
يُمسِكُ الأخ من كتفيه يعدّله
يواصل الضرب ويعدّ
أنظرُ أسفل وأنتظر ليحين دوري
الأم تكسّر الصحونَ في المدخل
بينما تلفزيون الجزيرة يبثّ
بلدوزر مفرط النشاط وأجزاءُ جسدٍ مستاءةٍ
قطاع غزة تحت الشمس
علمٌ يُحرَقُ
إن لم يعترف صهيوني بوجودنا
هذا إن كان لنا في الأساس وجود
عندما نشهق الخوف والألم
عندما نلتقط أنفاسنا أو المعنى
في المدرسة يجب ألا نتحدث العربية
في بيتنا يجب ألا نتحدث الدنماركية
ضربة صرخة رقم
يوتوبيا
طرق الله تنتهي هنا
لن يأتيني يومٌ أبداً بسيارة صفراء ودلال
هذا ما هو لي
صلاة جمعةٍ وجعة
نقص أوكسجين في الغيتو
مشدودا مثل حزام هملايا
★
2
الإقامة السادسة
بلا جنسية بلا قرار على أريكة رجل غريب
بحقيبة ناعمة في الحضن
ورؤى لا يستطيع الناس رؤيتها من على مبعدة
لم تحصل أبداً من قبل على هدية عيد الميلاد
ولكن في يوم ما ( يأخذونك من عائلتك)
إلى مكان ثم آخر
ترقص حول الشجرة مثل دنماركي
يقدم إليك لحم الخنزير في الوجبات
ولكنك متشكك بعض الشيء
تستلم الجنسية في عيد الميلاد اللاحق
موقعة من قبل «بيرته رون هورنبيك»
ما الذي ستفعله إذأ بعضو مختون
وتحريمٍ للخنزير
أنت لا تدري
وبالرغم من انك لم تهدأ بعد
هو ليس استثناءً هذا العام
هذا العام يعد بهدايا أكثر
وحضور تربوي
على هيئة استخدام القوة في بلدة يوهاناس في. ينسن
البلدية لها ما تريد مقابل المال
أنت تبدأ بأكل الخنزير المقدد
وتقصد الجامع فقط
عندما تعطيك أمك مبلغا لقاء ذلك
أبوك يبكي
وعمك يتصل فقط
بعد السرقة التي تتم بمشاركة ابنه
تلتقي أولاد عمك عند مروّج المخدرات
أو عبر السياج في جورسلاند
عندما تجلسون كل في قسمه
محاطين من قبل المربين الذين هم في الحقيقة حراسٌ
★
3
مقطع من نص طويل تحت عنوان كسوف
أغادر بحثا عن بطن أمي
جعلتموني رهينة
جعلتموني قادرا على جرح أمي
عندما قطعتم حبل سرتي
ما كان يجب أن تفعلوا ذلك
كان علي أن أكون كلب أمي
مربوطا بسلسلة
الرماد أليس هو ذاك الذي لم يعد له وجود
الظلمة أليست هي ما لا يصير أبداً
ولكن انظروا ما خلّفه الشيطان وراءه
شعلة أبدية من جحيمه.