صورة المشرق العربي: زوايا منسية وسياسات ما بعد طائفية
يعيش اليوم المشرق العربي (من مصر إلى العراق) أسوا حالاته منذ عقود، إن لم يكن أكثر من ذلك. فهذا العالم الذي تحوّل بعد الخمسينيات إلى مساحة ومركز للمشاريع الأيديولوجية (القومية منها أو الإسلامية) سيمر بمحن عديدة، بدءا من انهيار المشاريع الأيديولوجية في نهاية الستينيات، إلى مجموعة من الأزمات الأخرى العنيفة. أزمات بدأت مع الحرب الأهلية في لبنان، ولاحقا غزو العراق للكويت، ومن ثم غزو الأمريكيين له في عام 2003، الذي فتح صندوق الباندورا على مصراعيه. ثم جاءت الأحداث في المنطقة، ولاسيما سوريا بعد عام 2011، لتعلن وتكشف عن تفتت هذا العالم، أو بداية تفتته وعدم القدرة على لملمة أوضاعه لعقود طويلة ربما. والغريب في هذا الحال السيئ أنّ هذا المشرق لن يتعرض فقط لخضّات من مشاهد العنف التي لم يتوقعها أشد المتشائمين، بل ستترافق أيضا مع قدوم موجات وكوارث كبيرة، ألقت ظلالها على المشهد أيضا. فعلى صعيد كورونا، أطاح هذا الفيروس بآلاف البشر في هذه الجغرافية، وساهم في تعميق الأزمة الاقتصادية، وكذلك الحال مع العامل الكارثي الجديد؛ الزلازل التي لم تعد تهدأ. واللافت هنا أنّ هذه الأحداث والكوارث باتت تفرض على الدارسين لهذه المنطقة معوقات جديدة. فالمنطقة، وفي ظل الانتشار الأمني والميليشيات، غدت مكانا صعبا للدرس والبحث الميداني، ما دفع كثيرا من الباحثين الجادين في السنوات الأخيرة إلى العزوف عن متابعتها والانتقال لدراسة مجتمعات أخرى. لكن الجديد هذه المرة، أنّ هذه الكوارث باتت تطرح أسئلة حول ضرورة وجود أجندات بحثية تتعلق بتأثير هذه الكوارث في مجتمعات المشرق والمنطقة عموما. ولعلنا لا نرى هذا الأمر بوضوح في المؤتمرات والندوات البحثية المقامة حول هذا العالم، لكن يبدو أنه لن يستوي في الفترة المقبلة عقد لقاءات دون وجود متخصصين في علم الزلازل والأمراض، ما يعني أنّ حقل دراسات المشرق العربي، سواء على صعيد العلوم السياسية أو الإنسانية، مضطر إلى توسيع أدواته البحثية ليشمل هذا الجانب الجديد المتعلق بالكوارث.
في حال تجاوزنا هذا النقطة الآن، يبقى السؤال الذي يشغل بال الكثيرين اليوم، ما هي صورة هذا المشرق الذي نعيش فيه الآن؟ وما القوى التي تسيطر عليه وتديره؟ وإلى أين يسير هذا العالم في السنوات المقبلة. ولعل بعض إجابات هذه الأسئلة وغيرها حملها مشروع كتاب «تجاذب السلطة وتهتك الدولة في العالم العربي» دار الساقي، تحرير عزيز العظمة ونادية البغدادي وباحثين آخرين. ففي الكتاب محاولة لتلمّس المشهد بعد سنوات من التغيرات التي عرفها المشرق، والمهم في هذا الكتاب، أنه لم يقتصر في دراسته على لحظة 2011، بل عاد إلى عام 2003 ليفهم مشهد تغير المجتمع العراقي مثلا بعد الغزو الأمريكي وما عرفه أيضا من «صعود لقوى الشيعة» وفق تعبير ولي نصر. ويمثّل هذا الكتاب خلاصة أبحاث ودراسات في سياق مشروع «توثب الأطراف» الذي يقصد به تمكّن الأطراف من منافسة المركز على إدارة الشأن العام وحتى العنف، فالدولة المشرقية التي استطاعت في العقود الأخيرة فرض قهرها على العامة، تتراجع أو لنقل تتيح المجال لجماعات أخرى لتشارك وتستفيد من هذا العالم الموحش، لكن المشاركة لن تقتصر على العنف وحسب، بل نرى ظهوراً رمزيا للعناصر الثقافية المهمشة أو الطرفية: وهذا ما نراه مثلا من خلال تسلفن السلوك الاجتماعي في عدد من المدن المشرقية، وأيضا عودة الطقوس الشيعية وموسيقاها في عدد من المدن العراقية أيضا.
وربما من الملاحظات التي تسجّل على الكتاب والمشرفين عليه، عدم إعطائهم لما يمكن دعوته بـ»سوسيولوجيا الكوارث» مكانة تذكر، رغم أنّه صدر بالإنكليزية في عام 2020، أي بعد قدوم كورونا. وهذه فجوة ما تزال يعاني منها كثير من الكتب التي تتناول تاريخ هذا المشرق في السنوات الأخيرة، مع أنّ الكوارث لم تعد تضرب البشر والاقتصاد فقط، وإنما تسرّبت إلى تفاصيل عديدة وصغيرة من حياتنا. كما أنّ ما يسجّل على الكتاب اليوم، مقارنة بفترة إعداده، إعطاؤه للبعد الديني والجماعات الجهادية مساحة كبيرة مقارنة بباقي المواضيع، اقتصاد، صورة المدينة غائب تماما؛ علاقات إقليمية ودولية، وهذا مفهوم في ظل هيمنة الجهاديين على الساحة وحقل الدراسات عن المنطقة، في حين غابت تفاصيل عديدة حول اليومي والمدينة. فمثلا ليس هناك أي قراءة حول واقع مدن المشرق بعد الانهيار، وشكل هذه المدن اليوم، خاصة أنها عاشت ظروفا شبيهة بما عرفته مدينة بيروت في الثمانينيات. إذ لاحظ المعماري جاد تابت آنذاك، أنّ الحدود التي كانت تفصل المدينة عن اللامدينة، اضمحلّت على امتداد الحرب الطويلة، وصارت لبيروت أبواب جديدة حسب تنقّلات الجبهات المتعددة. وهذا ما نراه اليوم على صعيد مدن سورية عديدة، سواء على صعيد غياب الحدود، أو على صعيد ولادة مدن طرفية جديدة في فترة قصيرة، وضمّها لمئات النازحين.
هل العنف طائفي بالضرورة؟
لكن كيف نفهم المشرق العربي اليوم من خلال الأوراق الموجودة في الكتاب؟
على صعيد العنف الذي لا يتوقف في هذه البقعة، يجيبنا الباحث المعروف ستاثيس كاليفاس (أكسفورد) عن هذا السؤال بالقول، إنّ البحث عن نموذج لتفسير العنف في المنطقة غير كاف. فهو يرى مثلا أنّ السبب الجذري لكثير من الحروب الأهلية ليس بالضرورة أن يكون لأسباب إثنية أو دينية، وبدلا عن ذلك يعتقد أنّ الفرص الاقتصادية مثلاً قد تتفوق أحيانا على المظالم وتكون سببا في الحروب أو التمرد. ومن بين الزوايا التي يدرسها الكتاب أيضا، الجماعات الدينية التقليدية، التي يعتقد البعض أنها قد ضعفت أو انهارت، بينما يرى حارث حسن في سياق قراءته للأرثوذكسية الشيعية (المؤسسة الدينية) وهاروت أكديديان (المؤسسات الدينية التقليدية في سوريا) أنّ انهيار المشرق العربي لم يؤد بالضرورة إلى أفول هذه الجماعات، وإنما ساهم في صعود دورها في ظل عجز الدولة وعدم قدرتها على تلبية الخدمات الاجتماعية.
بورجوازية مشرقية أم خليجية؟
وعلى صعيد نخب المشرق ومستقبلها، يرى آدم هنية (جامعة لندن) أنّ إقحام رأس المال الخليجي في صناعة العلاقات الاجتماعية العربية (المشرقية بالأخص) بات يطرح أسئلة عدة عن كيفية تفكيرنا في مقولتي الطبقة والدولة في المنطقة. فعلى صعيد مفهوم البورجوازية الوطنية أو رأس المال الوطني، الذي اعتبرته تاريخيا حركات سياسية في المشرق قوة اجتماعية مهمة في نضالات التحرر والتقدم، نرى أنه لم يعد لهذه المقولة معنى في الوقت الحالي، بالنظر إلى التشابك البارز للتراكم عبر النطاقين الوطني والإقليمي. وبالتالي فإنّ هيمنة رأسمال مجلس التعاون الخليجي على قطاعات اقتصادية مثل تلك التي أشرنا إليها تعني أنّ العلاقات الاجتماعية التي باتت تقوم عليها التكوينات الطبقية الوطنية أخذت تصاغ بصورة متزايدة على مستوى إقليمي جامع.
ثوار مجهولون:
على الرغم من الصورة السلبية التي نشعر بها في أبواب الكتاب حول مستقبل المشرق العربي، نراه في خلاصته يصل إلى فكرة تقول، إنّ موجات جديدة من الاحتجاجات في المنطقة، ولاسيما في العراق ولبنان، هي فريدة من ناحيتين. أولا خلافا للمظاهرات الماضية، التي هيمنت عليها تيارات معينة، لم يكن للاحتجاجات الجديدة قيادة، كما أنها باتت تتكون من شباب عاطلين عن العمل؛ ثانيا أنّ إطارهم الرمزي بدا ما بعد طائفي، فهم يستخدمون رموز الوحدة السياسية ويطالبون بدولة مدنية تسيرها المواطنة بدلا من توزيع السلطة والثروة على أساس طائفي أو فصائلي.