التحول إلى لا شيء
لم يستفز ماكدونالد مزارعينا ولا مثقفينا فقد سبقته ماركات كثيرة ففي مدى عقود تغيرت تماما مآكلنا كلها، وكذلك ملابسنا وأثاثنا ومعمارنا وطرق عيشنا وكيفية تمضية وقتنا وفراغنا. كان البنطلون بالتأكيد غازيا أكبر من الماكدونالد وزال الطربوش ببطء أكثر من زوال القنباز - الثوب القديم الواسع. كانت المقاومة غير فعالة كثيرا على مستوى المعيش مما جعلها أكبر على مستوى الفكر. تغيير الحياة لم يتم بصعوبة كبيرة لكن ترافق بكراهية أكبر للغازي الغربي وربما للذات التي تقبلت جرثومته وتركتها تتوسع في داخلها. المهم أن الماكدونالد يمكن أن يستفز الأوروبيين أما العرب فلن تشكل بالنسبة اليهم فارقا فقد باتوا منذ زمن بعيد في تصرف كل الماركات الأوروبية أولا ولن تزيد الماركات الأميركية شيئا.
انهارت حياة بكاملها أو ثقافة بكاملها في غضون عقود فقد تغير أيضا الأدب والفنون والموسيقى والفكر. مع ذلك كله لم نصبح غربيين ولا جزءا من الغرب. بدا هذا التغير وكأنه حدث في غيبوبة، كأنه ليس تاريخنا الخاص ولا نجد فيه أنفسنا. توضح صورة الاغتصاب الشائعة في بعض أدبنا هذا التصور أي تقبلنا بلا إرادة البذرة الغربية التي انتهت بأن غربتنا
عن أنفسنا أو بعبارة أخرى تحولنا إلى ما لا يشبه أحدا، لا أنفسنا ولا الغرب. يمكننا هنا أن نتحدث عن ثقافة وربما حياة غير تقليدية وغير حديثة عاجزة عن أن تكون هنا أو هناك. لا يعني انقسام المجتمع إلى قطاع حديث وتقليدي تبعا لمعيار اقتصادي أو ثقافي. نسي سكان حزام الفقر أصولهم الزراعية ولكنهم لا يصبحون بسهولة مدنيين وسيدفنون بالتأكيد في قراهم وجنب قطع الأرض التي هجروها لأنها لم تعد تكفيهم. يعرف الوعاظ والشيوخ والإسلامويون، ربما أكثر من غيرهم، فعالية الميديا ويستعملون بوفرة الكاسيتات والكومبيوتر وشاشات التلفزيون. فيما يبدو المهندس والطبيب وربما الشاعر الحديث مسكونين بكل الخراقات الدينية، ويلجأ السياسيون الحديثون إلى البصارات.
هذا يدل على أن الانقسام "قديم وحديث" ليس انقساما بقدر ما هو ازدواج بل هو تركيب متناقض داخل الشخص نفسه: لا يجري هذا على الأفراد فحسب، بل على التجمعات أيضا، إذ يمكن الحديث عن نقابات طائفية ودول عشائرية اشتراكية وأنظمة دينية برلمانية وديموقراطيات دينية وجمهوريات أوتوقراطية. هكذا نصل إلى أطر اجتماعية وسياسية لا يمكن وصفها بالتقليدي أو الحديث. إذا تبعنا مثلا العلاقات العشائرية والعائلية والطوائفية وجدناها تحول وتتحول في السلطة والجيش والنقابات بحيث تلبس هذه مدلولات سياسية واجتماعية وإيديولوجية تموهها تماما. ولا حاجة للقول إنها لا تعود هي نفسها كما لا تعود السلطة والجيش والحزب والنقابة هي نفسها أيضا. إننا أمام أشكال لا تتعرف تماما على نفسها وأمام لعبة مرايا يتموه فيها التقليدي بالحديث والاجتماعي بالسياسي والإيديولوجي بحيث لا يعود ممكنا التصنيف أو التعريف. لكن هذه الأشكال إن اتصفت بشيء فهي تتصف بأنها انتقالية مستمرة. وهي على ذلك تتحول أكثر مما تتطور. ولا تملك في الغالب أفق تغيير أو استراتيجية. لذا يمكن القول إنها بلا تقاليد، أي بلا قدرة على التراكم والتكيف وامتلاك وجهة. وبعبارة أخرى يمكن القول إنها بلا ذاكرة حديثة، إذ يبدو أنها لا تملك فكرة فعلية عن تاريخها الراهن. بل يمكن القول إن ميزاتها الأولى هي نسيان الحاضر أو اعتباره نوعا من بروقا مستقبلية. نسيان الحاضر يتجلى في الصغير والكبير من الأمور. إننا لا نجد مكتبة حقيقية لثقافة الحاضر ولا ذاكرة فعلية لروادها ولا استمرارية حقيقية لسجالاتها. إنها تبدو الآن محاولات فردية وانقطاعات مثابرة. كما أننا من ناحية أخرى لا نتوقف عن السؤال من أين نبدأ وكأن شيئا لم يتحقق. وفي الغالب لا نتعلم من التجارب ونهرع على النفير ذاته. إن تجربة الإسلامويين مثلا نموذج لهذا التكرار العقيم والبداية المستمرة. لكن تاريخ الأنظمة السياسية العربية كلها قد لا يخرج عن هذا الشكل.
لنتحدث إذن، بدلا من الكلام بتبسيط عن التقليد والتحديث، عن نسيان الحاضر. هذا قد يكون صدمة التحديث لكنه بالطبع ليس جوابا تقليديا. يمكننا أيضا أن نتحدث عن نوع من خصام بين المعيش والمفكر به.
إن المعيش هو دائما في حالة من النسيان فيما الفكر ينطلق من تطلبات وتمنيات لا مقابل واقعيا أو تاريخيا لها. تنهار التقاليد لكن التقليد يبقى كفكرة ومبدأ. ولا يهم الماضي السعيد المنقطع بل فكرة الماضي. التحديث نفسه لا يهم كإمكانية بل كمبدأ. في هذا الوضع يمكن للإيديولوجيا أن تسود حرة مستقلة وبعيدة عن أي امتحان للواقع وعن أي تجربة أو معيش. يمكن لها أن تستولي على الفكر كله وأن تتحول إلى ألفاظ تتكرر بلا نقاش وبتقديس وببغاوية من قبل الجمهور. إن العقل الذي ينتج عن هذا عقل إيديولوجي صرف. عقل لا يرى سوى هواه الخاص وإلحاحاته الداخلية.
لن تجد هنا أفكارا صرفة. إننا نجد الشغف أكثر مما نجد الفكرة. نجد الرضة والشعور بالدونية والضغينة كما الرغبة في إثبات النفس وربما استيهامات العظمة. الإلحاح الداخلي هو الأساس أكثر من الحساب الواقعي. العلاقة بالغرب تقع هنا، إنه محل استقطاب لكل هذه الشغفات المتناقضة، إنه المغتصب الذي لا شفاء من رضة اغتصابه وهو المثال الذي لا سبيل إلى بلوغه وربما قتله رمزيا أو فعليا مما يقدم حلا لهذا السباق المستحيل. ثم أنه مركز الشرعية والاعتراف ونحن نتوسل إليه ليعترف بنا ولا بأس أثناء ذلك من أن نطلق العنان لاستيهامات عظمتنا أمامه. ثم أن توسله وقتله أو التعاظم أمامه أمور شبه داخلية ولا تحتاج إلى حساب واقعي، فيخيل لصدام حسين مثلا ولبن لادن أن في وسعهما محاربة العالم كله. يحمل التاريخ الاستعماري بالطبع أسبابا لكل هذه المشاعرPASSION. إنه تاريخ النهب والاحتقار والاستئصال والطرد أحيانا في لبوس التمدين والمثال الحضاري. لكن المشكلة مع الغرب تبدو أعمق بقدر ما هي مشكلة المرء مع ذاته التي يحسها دائما مغتصبة أو مبتورة أو مستولى عليها من قوة عدوه أو عاجزة عن أن تجد اسما أو هوية. المشكلة مع الغرب هي مشكلة رمزية أيضا وتتطلب جوابا على المستوى ذاته. لا يمكن لاقتراحات التمدين والمساعدات الثقافية والإنسانية أن تحل شيئا بهذاالصدد. إنها تتلقى بريبة، فهي تؤكد من طرف آخر دونيتنا المستديمة تجاه الغرب. ما يفعله الغربيون في هذا المجال مهما للمثقفين والطبقات السياسية لكنه لا ينفذ إلى الخطاب المغلق الرمزي الذي يشكل البنيان الإيديولوجي السياسي للشعوب. هذه الشعوب أهينت بعمق من قبل الغرب وفاقم تهاونها مع هذه الإهانة. وتقبلها السهل لها من رضتها وعذابها مع نفسها وهي تريد تعويضا على هذا المستوى وبالنسبة للشعوب الإسلامية فإن محاولة تمدينها أو اقتراح خطة تمدين عليها تزيد في الغالب بل تفاقم من ارتيابها فهذا بالنسبة لها هو المنطق الاستعماري بلغة أخرى.
العولمة لا تعني لها بالطبع استفزازا حضاريا أميركيا كما قد تعني لأوروبا. لقد خسرت هذه المعركة من زمن وما تعنيه العولمة بوجه خاص للمثقفين هنا هو مزيد من الشعور بالتأخر والعجز عن اللحاق والمزيد من الشعور بالثانوية. ففي عالم يتهدد مستعمريهم الأوروبيين بأن يغدوا ثانويين لا أمل لهم إطلاقا. في عالم يتهدد فيه الغرب الذي عرفوه بالغيب يمكن أن يضيعوا هم نهائيا في مجاهل الزمن. أي أن العولمة تضيف إلى هذا النسيج من الرضة والدونية وهذيان العظمة تعقيدا أكثر وانكفاء أكثر. وربما كان السلوك الانتحاري من بوادر الشعور بالضياع الكامل. إذا كان الغرب بالنسبة لكثيرين هو المعيار لمقدار ما هو العدو فإن ثانوية الغرب تجاه أميركا تجعله يتوقف أن يكون معيارا للقوة أو الضعف. وليس بعد فقدان المعيار سوى الضياع المطلق.
الأمر يحتاج في الحقيقة إلى معالجة على المستوى الرمزي ذاته. يتطلب عمل ذاكرة وجوابا تعويضيا حقيقيا. والمدخل بالطبع إيديولوجي سياسي. لا تعني شيئا المساعدات الثقافية الاقتصادية للشعوب الإسلامية ما دام المدخل السياسي الإيديولوجي غير مطروق. ولنقل بصرامة، لا معنى للمساعدات ما دام التفضيل العالمي لإسرائيل لا يعني شيئا سوى مزيد من الاحتقار للشعوب الإسلامية وسوى تكرار مثابر لصورة الاغتصاب الاستعماري. لنقل بصرامة إن إسرائيل ليست بالنسبة لشعوب الشرق بلدا شرقيا إنها ذراع غربي. وتفضيلها يعني باستمرار تكرار التفوق واللااعتراف الغربيين ذاتهما، بل تكرار الغزو الغربي الذي جر عجزا وشللا عربيين وإسلاميين. ولأقل إن إسرائيل بالنسبة للمسلمين والعرب هي المعيار. إن تفضيلها يستدعي مجددا التعقيد النفسي الإيديولوجي ضد الغرب وتفوقها الواضح هو نوع من عرض يومي ومباشر لانتصار الغرب وصدمته. ما دام الأمر هكذا فإن المشكلة تتفاقم ويزداد شعور المسلمين والعرب بأنهم لا يحصلون على جواب سوى الازدراء. إن الكلام عن المساواة الثفافية والحضارية لا يعني شيئا لمن يرون أن تفضيل إسرائيل هو إعلان عملي يومي وملموس عن اللامساواة، وأن هذا التفضيل هو على نحو ما تفضيل للذات وإعلان عن تفوقها. لا أريد أن أذهب بعيدا في هذا الموضوع، لكن من الواضح أن ذكر القدس وفلسطين في أي محاكمة للغرب ليس عبثا. وإذا كنا مهتمين حقا بمصالحة من الإسلام فإن علينا أن نبدأ من هنا. من دون معالجة الإرث الرمزي لا يسعنا أن نبدأ في معالجة تفاصيل الواقع.
© Zeitschrift für KulturAustausch 2/2002
عباس بيضون (1945) شاعر وصحفي من لبنان.