المساواة أمام الله فقط
عندما يجري النقاش اليوم حول العلاقة بين الاسلام وحقوق الانسان والديموقراطية تتم الاشارة كثيرا إلى تقييم هذه المواضيع من قبل القرآن وسنة النبي محمد. لكن التقاليد القياسية النابعة عن هذه النصوص لا تتضمن سوى إشارات عامة حول التصرف "المستقيم" والنظام "العادل". أي أنها لا تعطينا صيغة متكاملة للعلاقة بين الفرد والدولة والمجتمع. فالقرآن لا يشكّل، على عكس القناعة القائمة لدى بعض المسلمين، دستور الدولة الاسلامية. لهذا لا يمكننا أكثر من توجيه السؤال عما يراه المسلمون والمسلمات اليوم بناء على هذه النصوص القياسية حول حقوق الانسان والديموقراطية.
في هذا الإطار يستحق "الإسلاميون" سواء من أصحاب النظريات أو الناشطون منهم، اهتماما من نوع خاص، وأعني بذلك الذين يشيرون منهم على نحو صريح واضح إلى ضرورة إنشاء "نظام إسلامي" يحل محل النماذج الغربية "غير الأصلية" ويكرّس الأصالة الحضارية والعدالة الاجتماعية والقوة الجماعية. نظرا لظاهرة العولمة تعطى الأصالة الحضارية أهمية أكبر من أي عهد مضى. لهذا ليس من المدهش أن يتضح بأن الإسلاميين يولون شرعية النظام الديموقراطي في إطار الأعراف الدينية والقانونية للإسلام اهتماما أكبر من السؤال عما إذا كان هذا النظام ذا فاعلية حقيقية أم لا.
الإسلاميون السنّة من الإخوان المسلمين في مصر إلى أنصار حركة "باس PAS " في ماليزيا يحشدون طاقاتهم في المقام الأول من أجل فرض الشريعة الإسلامية أي نظام القواعد القانونية والقيم المستندة على إرادة الله، علما بأن هذا المفهوم يفسر على نحو ناقص بعبارة "القانون الإسلامي". وينجم عن تبرير الحقوق والواجبات بمفهومي المواطنة والسياسة نتائج بعيدة المدى نظرا لأن فكرة سيادة الشعب التي تستخلص منها هذه الحقوق والواجبات لا تجد مكانا لها في التصورات المتعلقة بالنظام المشتق من علم الدين وقوانين الله. فالمقاييس والقيم التي وضعتها الشريعة تشكل أساس ومقياس التصرف الفردي والنظام المجتمعي.
أما الأشكال التي تتبناها الأنظمة المبنية على الشريعة فتكون ثانوية الأهمية. إعادة إنشاء الخلافة الاسلامية التي ألغيت عام 1924 في الجمهورية التركية مسألة لا تهتم بها سوى قلة قليلة. ومقولة "الإسلام دين ودولة" المتداولة كثيرا، لا تعني بأن الإسلام يملي أشكالا معينة من أنظمة الحكم، بل أنه يعالج مناهج التعامل السياسي ويحدد المقاييس اللازمة لها أيضا.
الخلافة والشريعة
إن إعطاء الأولوية للشريعة الإسلامية يتيح الفرصة لتغيير الظروف الاجتماعية والسياسية أكثر من التركيز على مفهوم الخلافة ، كما أنه يسمح من خلال ذلك بتوفير درجة أكبر من التكيّف مع الشروط المختلفة بل يسمح حتى بتبني أشكال تنظيمية نابعة من محيط غير إسلامي طالما تواجدت في إطار الشريعة التي هي بناء على قناعة المسلمين من عمل الله فيما يقتصر دور الإنسان هنا على التفسير و"التطبيق".
بالفعل يعمد معظم المؤلفين إلى التعرض إلى المؤسسات والطرق الخاصة بالنظام السياسي على نحو مقتضب وعمومي. ولكن الجدير بالذكر هنا تمسكهم رغم ذلك بالمشاركة والمراقبة على الصعيد السياسي، الأمر الذي يعكس بصورة أكيدة توجها عصريا في حين لا يوفر القرآن والسنة في هذا المضمار سوى إرشادات محدودة.
تحتل الشورى في هذا الصدد موقعا مركزيا. وقد وصى القرآن المسلمين بها في كافة الأمور المتعلقة بالحياة. لكن الشورى تعني هنا طريقا أو مسلكا لا نظاما مؤسسيا. على الرغم من ذلك يساوي الكثيرون من المسلمين اليوم بين الشورى والأجهزة البرلمانية. فالديموقراطية البرلمانية تشكل في نظرهم صيغة عصرية للشورى طالما قامت على قاعدة الاسلام.
لكن الخلاف يظل قائما حول تفاصيل تنظيمها. فمبدأ الأغلبية مثلا ليس له جذور في الاسلام، وإن تبناه اليوم كثير من المسلمين شريطة ألا تصدر عن تلك الأغلبية قرارات "تتنافى" مع الاسلام. أما توزيع السلطات (على الأقل من خلال نقل بعض الصلاحيات التابعة لسلطة الحاكم وإن كانت سلطة الحاكم غير قابلة للتجزئة من الناحية المبدئية) فهو ممكن حتى بناء على المرجعية الأصلية، كما أن الكثيرين من أبناء هذا العصر يحبذون ذلك.
هذا ولم يسمح الإسلام في الحقيقة بوجود سلطة تشريعية باعتبار أن الله هو الذي وضع مقاييس الحياة وقيمها وقوانينها، وما كان على البشر إلا أن يقوموا "بالتطبيق".
الحق والمسؤولية
لكن ذلك يمكن أن يتم بناء على الرؤى العصرية في إطار النظام البرلماني، وذلك من خلال – وهذا أمر يستحق الاهتمام- نواب منتخبين وليس فقط علماء الدين علما أن مفهوم "القيادة الحكيمة" يحتل مرتبة عالية على وجه عام. لكن تعريف ميكانيكية ممارسة السلطة والمراقبة البرلمانية والمشاركة الديموقراطية يبقى في أغلب الحالات غير واضح، كما تبقى رؤية عمل وحدود المعارضة ناقصة منهجيا.
أما مناقشة التبرير القياسي لنظام الحكم سواء "الإسلامي" أو الديموقراطي التعددي منه فإنه أكثر عمقا. فلا يمكن أن تقتصر الديموقراطية على طرق ومؤسسات معينة (باختصار : التعددية، المنافسة، المشاركة) بل من الضروري الرجوع إلى عدة تصورات متعلقة بالقيم والقانون، دون أن يعني ذلك الاستناد على أرضية الغرب المسيحي وحدها.
هنا يلاحظ وجود مؤشرات جديدة هامة حتى في أوساط الإسلاميين. كثيرا ما يشدد هؤلاء على أن النظام الإسلامي المبني على الشريعة يضمن مبدأ سيادة القانون في الدولة، لكن ذلك لا يحتوي بالضرورة على مبدأي المساواة والحرية بالمفهوم الليبرالي. ويشتق الكثيرون من المسلمين والمسلمات فكرة حقوق الإنسان من القرآن حيث أنه يتطرق إلى كرامة الإنسان الذي منحه الله حقوقا وفرض عليه واجبات معينة.
أما حرية الفرد واستقلاليته فقد وضعت الإرادة الإلهية حدودا لها، وهذا يسري بصورة خاصة على مجالات الجنس والفن والعلوم. كما أن هناك مساسا قويا بحرية الأديان (بالنسبة للمسلمين أنفسهم!) حيث تفرض على من يرتد عن الاسلام بناء على القانون الإسلامي عقوبات مدنية كفقدان حق الإرث والوصية بل حتى عقوبة القتل.بشكل عام هناك تشديد على مسؤولية الفرد أكثر من التأكيد على حريته الشخصية. فالإسلاميون خاصة يحثون بشدة على تحمل الأفراد لمسؤولياتهم الدينية والاجتماعية باعتبارهم مكلفين بتبوء دور "خليفة" أو "وصية" الله على الأرض. فعلى الفرد أن يتحسس هذه المسؤولية ويصبح عضوا متجانسا في المجتمع. إذن فالنزعة الفردية لا هي مطلوبة ولا محبذة من هذه الرؤية، والمصلحة العامة تتصدر النزعة الشخصية. ويرى في هذا الصدد حتى من لم ينتموا إلى الاسلاميين بأن النزعة الفردية تغذي بسهولة كبيرة تيارات الأنانية والتجزئة الوخيمة العواقب.
حدود الحرية
هذا لا يعني رفض تعددية الآراء والمصالح والمجموعات الاجتماعية. وقد دلّ التاريخ على أن التجربة الإسلامية في هذا الصدد كانت أفضل منها في أوروبا. فنادرا ما شهد العالم الإسلامي،على عكس أوروبا من العصور الوسطى حتى العصر الحديث، اضطهاد أتباع الأديان الأخرى أو الأقليات الدينية. وقد نسب إلى النبي محمد قوله إن الخلاف في الرأي بمثابة "رحمة" للمجموعة. لكن للحرية حدودها كما سبقت الاشارة. فبناء على الكتّاب المعاصرين يسمح بحرية الرأي والاجتماع والتنظيم "في الحدود التي وضعها الإسلام".
بطبيعة الحال يخضع تعريف هذا المفهوم لتركيبة السلطة من الناحيتين الاجتماعية والسياسية. فلا تدخل بالاعتبار بصورة عامة القوى "المعادية للإسلام". وخلاف المدارس القانونية التي تمسكت في فترة مبكرة بمبدأ التعددية لم تكد الرؤى والتفسيرات الخاصة بالقيم والمعايير الإسلامية في الماضي تعطى طابعا مؤسسيا.
ويرفض الكثيرون من الإسلاميين حتى في عصرنا هذا فكرة الأحزاب السياسية. لهذا تتجنب المجموعات الإسلامية استخدام مصطلح "الحزب" وتستخدم بدلا من ذلك عبارات "الجماعة" أو "الاتحاد" أو في الأكثر "الجبهة". ويبقى مثال وحدة الجماعة الإسلامية طاغٍ، ولعل مرجع ذلك وجود التنوع على أرض الواقع والذي يحفل بالتوترات في كثير من الحالات.
مساواة صعبة
هناك مشاكل جسيمة تعترض مبدأ المساواة. فبناء على تعاليم الدين الإسلامي توجد مساواة بين البشر (أو على الأقل بين المؤمنين منهم) أمام الله لا أمام القانون، إذ لا تتساوى النساء المسلمات وغير المسلمين لا سيما في قانوني الزواج والإرث مع الرجال المسلمين. وبناء على الرأي السائد هناك توزيع تكاملي في الأدوار الاجتماعية بين الرجل والمرأة، بحيث تتبوأ المرأة في المقام الأول دور سيدة البيت والأم على أن تتولى واجبات أخرى بعد إتمامها لهذين الواجبين وبناء على موافقة الوصي الشرعي عليها (الزوج عادة). أما غير المسلمين فيكون لهم – وهذا ما يتنافى مع الرؤية المألوفة حول وضع أهل الذمة في الأمة الاسلامية- في الكثير من الحالات "نفس الحقوق والواجبات"، على أن يحرموا من ممارسة وظائف معينة.
التصورات التقليدية
يسري هذا بصورة رئيسية على منصب الحاكم لأنه يمثّل مجموعة أغلبيتها مسلمة، وعلى القاضي لأن مهمته تطبيق الشريعة التي لا يخضع غير المسلمين إلى كل بنودها. هذا يتعدى نطاق التصورات التقليدية حول التسامح، لكنه لا يصل إلى مرتبة تكريس المساواة.
لو راعينا كل ذلك لتبين لنا وجود صورة غير موحّدة. ففي المجال "التقني" للتنظيم السياسي تجاوز حتى الإسلاميين أنفسهم النماذج الكلاسيكية. كما أن الخلافة لم تعد على الاطلاق ذلك المقياس الإلزامي.
أما ما يخص "القيم" – علما بأن الكثيرين من المسلمين يسعون إلى التمييز بين القيم والتقنية- فالمطلوب هنا الحفاظ على حدود معينة أي عدم تخطي هذه القيم نظرا لاعتبارها نابعة من الإرادة الإلهية ولا ينبغي بالتالي المساس بها. هذا يحد من الحقوق المتعلقة بالحرية والمساواة سواء للمسلمين أو لغيرهم.
بطبيعة الحال فإن الإنسان هو الذي يفسر المقاييس "الإلهية" ويقوم بتطبيقها، وبطبيعة الحال أيضا فإن الإنسان يتأثر بالظروف الاجتماعية التي يعيش في ظلها. وهذا الأمر يسري بديهيا على الإسلاميين أنفسهم. فهم يتحدثون باسم الإسلام، لكنهم لا يملكون احتكارا فيما يختص بتفسيره. ومعنى ذلك أن الخلاف الجدلي سيظل قائما حول العلاقة بين الإسلام وحقوق الإنسان والديموقراطية.
ترجمة مصطفى السليمان