استحقاقات الديمقراطية في ظل الشعبوية اليمينية
تأكَّد في هولندا حدوث التغيّر اليميني - في هذه المملكة التي كانت تعتبر حتى ذلك ليبرالية للغاية وترحِّب بالوحدة الأوروبية. والآن صار السياسي الهولندي اليميني الشعبوي، غيرت فيلدرز يتزعَّم في هولندا ثاني أقوى حزب؛ إذ إنَّ غيرت فيلدرز الذي يؤكد أن هدفه هو محاربة الإسلام في أوروبا وتقليص حجم نفوذ الاتِّحاد الأوروبي إلى أدنى حدّ ممكن حصل على نحو خمسة عشر في المائة من أصوات الناخبين، وبالتالي على أربعة مقاعد من الخمسة والعشرين مقعدًا المخصصة لهولندا في برلمان الاتِّحاد الأوروبي.
ويبدو أنَّ هذه الدعاية المغرضة وعمليات التحريض ضدّ فئة معينة قد حقَّقت نجاحًا، وذلك أيضًا لأنَّ مؤسَّساتنا الديمقراطية لم تكشف اللعبة أو لأنَّها لا تريد أن تكشفها. وحتى الآن كانت قطاعات واسعة من الجماهير تحتفل دائمًا بفيلدرز باعتباره الشخص الذين يقول ما لا يجرؤ الآخرون على قوله - على حدّ ما يُزعم. أي أنَّ المسلمين هم وحوش كذَّابون غير شرفاء ويتربَّصون للـ"كفَّار" في كلِّ مكان في الشوارع.
العنصرية تتخفَّى بقناع حرية التعبير
ويقول المنطق الذي يكمن خلف ذلك إنَّ مَنْ لا يتعرَّف على ذلك، مَنْ لا ينظر في عين العدو ويواجهه هو شخص ساذج. وغيرت فيلدرز وجماعته ليسوا ساذجين، بل هم المقاتلون الحقيقيون الذين يواجهون المسيح الدجَّال الذي ينقضّ مزودًا بالتقية وفن إتقان الكلام الجميل والقدرة على ذر الرماد في عيون "الأشخاص الطيِّبين". ونحن نقرأ ونسمع في طول البلاد وعرضها هذه الخطابة والبلاغية التي لا تتم معارضتها في أغلب الحالات إلاَّ بتردّد وبخجل. والآن نحن نجني ثمن عدم تصدِّينا لذلك بشكل أقوى.
كما أنَّنا نغلِّف كلَّ ذلك بغلاف لغة نقدية. وهذه اللغة التي تسمى لغة نقدية ("يجوز للمرء أن يقول الحقيقة لو لمرة واحدة") مليئة بالكراهية والعنصرية. وخير مثال على ذلك فيلم فيلدرز "فتنة" الذي أخرج إخراجًا سيئًا وبشكل خال من الذوق. ويا ترى هل يدلّ الرأي الذي يقول إنَّ تشويه صورة طائفة دينية لها ثقافة تسامح كبيرة ومعترف بها ويزيد عمرها عن ألف عام ونعتها حتى بصفة الـ"فاشية" يعدّ أمرًا حسنًا وتنويريًا على شيء آخر غير كبر حجم العدمية وإنكار القيم الأخلاقية والجهل التام؟
الإيمان بالإنسانية
وهل يعني ذلك أنَّه لا بدّ للمرء من التعبير عن وجهات نظر تحتقر البشر، لكيلا يتم اعتباره ساذجًا؟ وهل يعني مفهوم "السذاجة" محبة السلام والرغبة في التمكّن من المحافظة على الإيمان بالبشرية؟. وإن كانت الحال على هذا النحو فأنا والله أفضِّل أن أعتبر من أتباع الفئة الثانية. والرئيس الأمريكي باراك أوباما حذَّر في خطابه التاريخي الذي ألقاه في القاهرة تحديدًا من فقدان المقدرة على الإيمان بالإنسانية. وهذا الإيمان يرمز إلى الأمل والمستقبل، ونقيض ذلك يجلب الحرب والانقسام.
والآن يتفاجأ المرء ويتساءل بدهشة واستغراب وأحيانًا وبتكلّف كيف كان من الممكن أن يحظى هذا اليميني الشعبوي المعادي للإسلام بمثل هذا الإقبال من قبل الناخبين الهولنديين؟ وبطبيعة الحال لا أحد يريد القول الآن إنَّه كان يعرف ذلك وكان يتوقَّعه.
شجاعة وبصيرة
ومن المحتمل جدًا أن تكون الطوائف الدينية والنقابات المهنية ومجموعات المجتمع المدني التي تعمل بجهد ونشاط من أجل السلام والتصالح قد توقَّعوا ذلك وحذَّروا باستمرار وبوضوح مما ينتظرنا هنا. ويدلّ خروج مواطني مدينة كولونيا قبل فترة وجيزة في مظاهرة ضدّ ائتلاف "من أجل كولونيا" Pro Köln اليميني الشعبوي ومعارضتهم الاتِّجاه العام على وجود مثل هذه الشجاعة والبصيرة.
وكذلك كان ردّ رئيس الحكومة الهولندية السابقة على فيلم "فتنة" مريحًا وشافيًا؛ إذ أوضح رئيس الوزراء الهولندي يان بيتر بالكنينده Jan Peter Balkenende أنَّ فيلم غيرت فيلدرز لا يتَّفق مع تصوّرات جميع الهولنديين، وهكذا نأى بنفسه بوضوح عن هذا العمل الشعبوي المسيء. ولكن مع ذلك فقد صوَّت في الانتخابات الأوروبية الأخيرة عدد كبير من الناخبين الهولنديين لصالح هذا الشعبوي اليميني؛ وحتى إن كان ينبغي أن نضع في اعتبارنا أنَّ الكثيرين قد فعلوا ذلك أيضًا بسبب الاحتجاج وأنَّ نسبة المشاركة في الانتخابات وصلت فقط إلى ثلاثين في المائة.
وعلى الرغم من ذلك فإنَّ نتيجة الانتخابات تعتبر درسًا بالنسبة للأحزاب الديمقراطية المعترف بها؛ لاسيما وأنَّ الكثيرين في هذه الأحزاب كانوا يغازلون قبل الانتخابات بفترة قصيرة حتى أصحاب المواقف المتشدِّدة جدًا تجاه المهاجرين والمسلمين - على سبيل المثال في موضوعات بناء المساجد والحجاب وانضمام تركيا إلى الاتِّحاد الأوروبي. غير أنَّ الناخبين اختاروا في أجواء الريبة والشكّ اليمين المتطرِّف "الأصلي" ولم يختاروا حزبًا ديمقراطيًا شعبيا تبنى شعارات مثل هذه الأحزاب، حيث كان يظهر قبل الانتخابات فقط بمظهر يميني شعبوي، من أجل تعبئة مناصريه. ونظرًا إلى ثقافتنا الديمقراطية فإنَّ هذا التطوّر أمر مؤسف.
أيمن مزيك
ترجمة: رائد الباش
حقوق الطبع: قنطرة 2009
أيمن مزيك الأمين العام للمجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا. وُلد لأب سوري وأم ألمانية ودرس في مدينة آخن الفلسفة والاقتصاد والعلوم السياسية وفي القاهرة دراسات الأدب والحضارة العربية. كما أسَّس بالاشتراك مع روبرت نويدك جمعية "الخوذات الخضر" الخيرية. وهو يعمل كذلك بشكل مكثَّف في مجال الحوار المسيحي الإسلامي ويعدّ عضوًا في جمعية الحوار المسيحي الإسلامي. كما أنَّه بالإضافة إلى ذلك سياسي محلي في الحزب الديمقراطي الحر FDP.
قنطرة
قضايا الاندماج في هولندا:
أخطار الشعبوية ... أوهام التعددية الثقافية
عزيعزيز عينان، ابن لأسرة مغربية مهاجرة وكاتب صحفي ينتقد الازدواجية الأخلاقية داخل المجتمع الهولندي والتعامل من دون تسامح مع المهاجرين المسلمين باعتباره نتيجة لتنامي اليمين السياسي في هولندا. أريان فاريبورز تحدَّث إلى عزيز عينان.
حوار مع لوتس روغلَر حول فيلم "الفتنة":
"الفيلم يعمل بأساليب أقرب إلى البدائية"
نقد للإسلام السياسي أم تحريض على الإسلام؟ يثير الجدل الدائر حول فيلم "الفتنة" للنائب اليميني الهولندي، غيرت فيلدرز منذ بضعة أسابيع موجة واسعة من ردود الفعل. بيد أنَّ الرأي العام يولي هذا الفيلم أكثر مما يستحق من الاهتمام، حسب رأي الباحث في العلوم الإسلامية لوتس روغلَر. خولة صالح تحدَّثت معه حول هذا الفيلم.
رسوم الكاريكاتور:
أين أصحاب الفكر المتزن؟
حينما نشرت إحدى الجرائد الدانمركية قبل شهور رسوما كاريكاتيرية للنبي محمد لم يكن أحد يتوقع لها أن تثير مثل هذه الضجة العارمة التي تجتاح الآن العالم الإسلامي كله. فقد اعتبرها المسلمون المتشددون إهانة مقصودة فيما تشبث الغربيون بفكرة حرية الصحافة. أيمن مزيك أيمن مزيك يلقي الضوء على الحقائق الكامنة وراء هذا التصعيد.