معركة أمومة وموت في سودان الستينيات والسبعينيات السياسي

صورة من: private - الكاتبة السودانية إستيلا قايتانو. Sudanese author Stella Gaitano
الكثافة الحسية التي تميز الكاتبة السودانية إستيلا قايتانو تبقى ذاتها في الترجمة. صورة من: private

رواية "أرواح إدَّوْ" هي الأولى للكاتبة السودانية إستيلا قايتانو وتدور أحداثها بين السودان وجنوب السودان وتشهد معركة ملحمية بين قوتين هما: الأمومة والموت. استقراء مارسيا لينكس كويلي لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: مارسيا لينكس كويلي

صدرت بالترجمة الإنكليزية الممتازة من قبل سواد حسين -وبعد مجموعَتَيْ قصص قصيرة مذهلتين- رواية "أرواح إدَّوْ" للكاتبة إستيلا قايتانو، وهي رواية مليئة بالكثافة الحسية ذاتها لأعمالها القصيرة، من القوة المُدوِّخة الناجمة عن غثيان الحمل إلى رائحة "أمعاء الدجاج" الناجمة عن حليب ثدي إحدى الشخصيات.

وهذه الرواية متعدِّدة الأجيال مليئة بالأطفال لدرجة أنَّ أشجار الكِتاب تعبقُ برائحة حليب الثدي، والهواء مليء بالتمتمة، كما ينبغي على الشخصيات البالغة أن تكون حذرة كي لا تدوس على أطراف صغيرة. وأول من نلتقي بهم الرضَّع قصيري العمر، وهم أطفال شخصيتنا المميزة إدَّوْ، التي تعيش في قرية نائية في جنوب السودان.

حين تبدأ الرواية في ستينيات القرن العشرين تُطارَدُ إدَّوْ من قِبَل جميع الجثث الصغيرة التي دفنتها بالقرب من منزلها. بعد خسارتها للمعركة مع الموت مراراً وتكراراً تفقد إدَّوْ الأمل في إبقاء أي رضيع على قيد الحياة.

وبحلول الوقت الذي تصل فيه ابنتها الوحيدة القوية التي تتمتع بصحة جيدة، تكون إدَّوْ حذرة للغاية من أن تشعر بالأمل. تسمي طفلتها إيغينو، أي "التي تتبرَّز كثيراً" لتحمي الطفلة من أنظار الموت. ومع ذلك، تترك إدَّوْ -المجنونة بسبب الحزن- طفلتها لتربيها القرية، غير مستعدة للمخاطرة بقلبها. وتربي القريةُ بأكملها الطفلةَ إيغينو بما في القرية من عشرات الأمهات ومئات الأشقاء.

تتمتع الطفلة بطفولة سعيدة، حتى أنَّ والدتها -التي تعيش بمفردها وتتجسس عليها عبر الشقوق الموجودة في منزلها- تسترجعها حين تسقط (إيغينو) وتنكسر عدة عظام. وتروي لنا القصة أنه "في لمح البصر استجمعت إدَّوْ ذكاءها وأصبحت فجأة تدرك كل أمر صغير، فكما أنَّ سوء الحظ يمكن أن يجعل العقول تذهب، يمكنه إعادتها كذلك".

تتولى إدَّوْ -المتجدِّدة حيويتها- مسؤولية رعاية ابنتها، وتغطي إيغينو بالطين حتى تتماسك عظامها معاً من جديد. وبينما يحدث هذا تتطوِّرُ لدى الاثنتين علاقة ألفة ومودة.

وبعد فترة وجيزة وصل المبشِّرون المسيحيون وأصبح لإيغينو اسماً جديداً هو: لوسي. كما اتّخذت إدَّوْ أيضاً اسماً ثانياً تُلحِقه بالاسم الأول: "مثل الإبرة والخيط". لاحقاً تشرح ماري إدَّوْ أنها لم تصبح مسيحية عن قناعة، أو ليس عن قناعة تامة. أصبحت مسيحية حتى تتمكن بعد موتها من الصعود إلى السماء لتطلب من الله إجابة "عن أطفالي الذين هو أطعمهم حتى الموت".

صورة من: Dedalus Books الغلاف الإنكليزي لرواية "أرواح إدَّوْ" للكاتبة السودانية إستيلا قايتانو. ‏Cover of Stella Gaitano's "Edo's Souls", translated into English by Sawad Hussain and published by Dedalus Ltd
رواية "أرواح إدَّوْ" ملحمة مشوِّقة ومتعدّدة الأجيال، ترى الشخصيات الرئيسية الثلاث محاصرة في أمة تجتاحها أهوال الحرب الأهلية، مما يجبر كل واحد منهم على مواجهة ذاته الماضية، وحلّ الأمر الأكثر أهمية بالنسبة له: الحب أو العائلة أو البلد. صورة من: Dedalus Books

استعادة أطفال إدَّوْ

حين تصل لوسي إلى سن البلوغ، تردِّد والدتها المهووسة بالخصوبة دعاء على بطنها، تقول لابنتها: "سأسامحه إن جعلك تحملين كل إخوتك الذين ماتوا". وتتابع ماري إدَّوْ: "لا يموت أي طفل من أطفالك أبداً، وأتمنى ألا تشعري بألم الأمومة على الإطلاق؛ أتمنى أن تنجبي ما يكفي من الأطفال لملء الأرض بأكملها، ليكن هناك الكثير منهم حتى تبعدينهم مثل الذباب".

ومن ثم تعلن ماري إدَّوْ أنها ستموت، ودخلت عملياً إلى نعشها، مغلقة الغطاء خلفها. تأخذ لوسي المراهقة هذا الأمر على محمل الجد وتحمل بطفلها الأول في ليلة جنازة والدتها.

ولكن -كما تخبرنا الرواية- لا تتعلق الأمومة بالخصوبة فحسب. حين تسافر لوسي وزوجها الجديد ماركو شمالاً إلى الخرطوم بحثاً عن عمل، تتعطَّل الشاحنة التي يستقلانها. لحسن الحظ كان العروسان الجديدان خلف بعض الشجيرات حين يصل رجال مسلَّحون ويقتلون كل من كان على متن الشاحنة باستثناء طفل واحد. وعلى الرغم من أنّ ماركو لا يريد أخذ هذا الرضيع الصارخ معهم تصرُّ لوسي على ذلك.

لا ينجو الطفل. لكن فكرة الأمومة عنيدة، ولوسي مثل الحشائش التي لا يمكن هزمها. وحين يصلون إلى الخرطوم للعيش مع صديق ماركو بيتر وزوجته تيريزا، يصبح كل شيء جديداً وغريباً، بيد أنَّ لوسي تعرف كيف تهتم بالآخرين. تتدفَّق الأمومة من جسدها، ولا تعطي الحياة لأطفالها فحسب، لكن للجميع ولكل شيء من حولها. ويوجد لديها الكثير من حليب الثدي لدرجة أنها تستخدمه لتسقي شجرة في الفناء، إلى أن يأمرها بيتر بالتوقف. وعلى الرغم من أوامره تشير لوسي إلى أنَّ الشجرة ازدهرت، وتتمكن لوسي من فعل ما تريده هنا، كما هو الحال في معظم الأمور الأخرى.
 

صعود الموت

لفترة من الزمن تسود الأمومة. ولكن بحلول أواخر سبعينيات القرن العشرين في الخرطوم كان الموت يقترب من شخصياتنا، مع سلسلة من محاولات الانقلابات وترسيخ حكم جعفر النميري السلطوي. لا نفهم الكثير عن السياسة الوطنية، بما أنَّ الشخصيات ذاتها غالباً لا تكون متأكدة مما يحدث. نشهد أحداثاً بما فيها التمييز ضد جنوب السودان والعسكرة المتزايدة للبلاد، عبر سلسلة من العدسات الشخصية.

وهذه ليست رواية لوسي وإدَّوْ فحسب: فما أن تستقر لوسي في الخرطوم يتمدَّد السرد ويتَّسع. وتتناول الفصول المتعاقبة وجهة نظر ماركو وهو يبحث عن عمل؛ وبيتر وهو يتصارع مع عائلته المسلمة بالتبني؛ وأخت بيتر (ابنة عائلته بالتبني) -جلاء- محامية ناشطة تفكيرها متأرجح بشأن الأمومة. بعض من هذه المقاطع تمرّ بسرعة كبيرة، تتسابق بشكل مفهوم مع الفظائع التي تحدث في الخرطوم وحولها. وهذا يشمل اعتقال ماركو وتعذيبه؛ اعتقال حبيب جلاء وتعذيبه؛ فرار بيتر وتيريزا من البلاد؛ والحرب في الشوارع.

وتتباطأ الرواية من جديد في أحد المشاهد الأخيرة، حين يأتي مقاتل للاختباء في شجرة في فناء العائلة. تكتشفه لوسي حين تتسلَّل إلى المراحيض، حيث تسقط عليها قطرة ثقيلة من دم الرجل. يتواجهان بصمت حتى تتراجع لوسي، ولا تخبر أحداً عن وجوده.

تنتهي الرواية في منتصف الثمانينيات من القرن العشرين حين تبلغ واحدة من بنات لوسي وماركو سن البلوغ. وعلى الرغم من انزعاج الفتاة من رد فعل والدتها المفرط، تشعر لوسي بالنصر، وفرحتها القوية هي إصرار على استمرار الحياة. ولكننا نعرف أيضاً أنَّ حرباً طويلة قد بدأت بين السودان وجنوب السودان. وبالتالي: بين الأمومة والموت، لا نصر ولا خسارة لأي منهما؛ هناك مواجهة في يوم آخر.

 

مارسيا لينكس كويلي
ترجمة: يسرى مرعي
حقوق النشر: موقع قنطرة 2024
Qantara.de/ar