عن المثقفين في زمن الاستبداد
ما يطفو من مشاغل على السطح في مشهد الثقافة العراقية الحالي ويبدو ظاهراً للعيان، لا يقارب كثيراً، كما أرى، تلك الاسئلة التي أثيرت في هذا المشهد، وضمن نطاق حراكه الاعلامي والاجتماعي عقب سقوط نظام صدام مباشرة. تلك الاسئلة التي طرحت بقوة، بحكم المتوقع، كنوع من رد الفعل الطبيعي على الفعل الثقافي الرسمي زمن سلطة البعث.
خفتت تلك الحماسة التي انطلقت في الفضاء الثقافي العراقي قبل ثلاث سنوات، ليس لأن الشواغل الجدية لطرح اسئلة تحاكم ثقافة الزمن السابق قد انتهت أو اشبعت بحثاً وتمحيصاً، بقدر ما يبدو الفتور في هذه الوتيرة نوعاً من الاستجابة السلبية للضغط العنيف الذي يدفعه الشارع الملتهب وحالة الاستقطاب السياسي/الطائفي الحاد في الواقع العراقي، وعلى المستويات كافة.
إنكفأ المثقف، بسبب دراما العنف اليومي، لا في ممارسته الفردية للفعل الثقافي (المستمرة بصيغة أو بأخرى)، وانما بتراجع الدافعية للحضور والممارسة الاجتماعية/ الثقافية.
وتبعاً لهذا الضغط (من خارج الثقافة) تغيرت اولويات التساؤل والسجال الثقافي، وغدت موضوعات مثل الوحدة الوطنية، الطائفية، أسباب العنف، وظيفة الثقافة والمثقف أكثر حضوراً وتداولاً في فضاءات الاعلام الثقافي، من تلك الموضوعات التي تتقصى الثقافة وفعلها في زمن النظام السابق، وتسعى لمحاكمته.
ومن المفارقات ان مساهمة الكتاب العراقيين في المنفى أكثر حضوراً في هذا المجال من كتاب الداخل، إذا سايرنا هذا التقسيم ما بين داخل وخارج في التعامل مع فضاء الثقافة العراقية. وهذه المساهمة الاكثر نسبياً، كما أرى، تتبع حساب الاولويات الثقافية المتغير، بسبب إختلاف المهيمن الاجتماعي في كلا الفضائين، الخارجي والداخلي.
أسود وأبيض
لا شك أن ثلاثة عقود أو اكثر من حكم نظام استبدادي، هيمن بظله على كل مناحي الحياة العراقية، خلفت إنعكاساً غائراً في المشهد الثقافي العراقي، أسس ببطء وقوة لاستجابات مختلفة داخل هذا المشهد، خصوصاً مع كتاب نشأوا، وشبوا عن الطوق فوجدوا هذه السلطة الاستبدادية متحكمة بخياراتهم الابداعية والثقافية.
ولا نستطيع، بالنظر الى طيف هذه الاستجابات الواسع، ان نحصر الفعل الثقافي العراقي في قطبين حادين، فنضع في خانةٍ المعارضين للنظام والمقاومين ثقافياً لثقافة النظام، وفي الخانة الاخرى ازلامه (الثقافيين) وابواق سلطته الاعلامية. سيكون هذا التقسيم الحاد ظالماً، وغير واقعي، إن لم يتمتع بمرونة عالية لتفهم الظروف والحيثيات، والإقتراب من الظاهرة بعمق.
المثقفون العراقيون، والممارسون في الحقل الثقافي بشتى فروعه، يعرفون جيداً، اكثر من غيرهم، ما قام به زملاؤهم من خيانة أخلاقية لفعل الثقافة، ويعرفون في الوقت نفسه، الضغوطات المتعددة التي دفعت البعض للاستجابة لإبتزاز السلطة. ومن دون رحابة إنسانية، ووعي مسؤول في الوقت نفسه، لن نتوفر على محاكمة عادلة لثقافة زمن مضى، قد تكون أحد الامثلة النادرة في التاريخ المعاصر، على ما تفعله الثقافة من فعل تخريبي في جسد المجتمع.
الآمال الأولى
عقب سقوط النظام البعثي بأشهر قليلة، كانت الحياة في بغداد ضاجة بحزمة آمال كبيرة، وهذا ما كان يتبدى في وجوه المثقفين بشكل خاص. إنها بداية جديدة، كانت مجرد حلم فنطازي لدى الكثيرين، وكانت شيئاً مستحيلاً لدى آخرين، رغم تعلقهم الشديد بهذا المستحيل. انتهى زمن الاستبداد بشكل بالغ الدرامية، وانفجرت الاسئلة من مخابئها دفعة واحدة، بحيث بدا الجدال والسجال الشفاهي الفعالية الاساسية التي يمارسها المثقفون في كل مكان؛ المقهى، موقف السيارات، فضاء الجامعة، وغرف التحرير في الصحف والمجلات حديثة الصدور.
في تلك الاوقات، كانت بعض النشاطات الثقافية/الاجتماعية قد عاودت نشاطها السابق، وافتتحت صالات لمنتديات ومؤسسات ثقافية جديدة حركت الجو التواصلي لمجتمع المثقفين. واذكر في هذا الصدد، ان ملتقى الجماهير الابداعي، الذي علق جلساته الاسبوعية في زمن النظام السابق، بسبب تقرير مغرض اتهم المثقفين الجالسين في هذا المقهى البائس في منطقة الكرنتينة ببغداد، بأنهم يتآمرون لقلب النظام.
أقول؛ إنني اذكر أن من أولى محاور النقاش الاسبوعي الذي افتتحه هذا الملتقى هو الحديث حول كتاب سلام عبود "ثقافة العنف في العراق". ولم يكن الجدل الصاخب الذي دار في تلك الجلسة سوى بلورة لسجال عام كان يدور في فضاء الثقافة العراقية. كان الكتاب، الذي لم يطلع عليه الكثيرون حتى سقوط نظام صدام، صادماً وذا نفس راديكالي، وقد تبنى الكثير من المثقفين المضطهدين، واولئك الذين يكبتون طوال سنوات غضبهم تجاه السلطة وثقافتها، تبنى هؤلاء طروحات سلام عبود بحماسة.
في مقابل مثقفين آخرين تعاملوا ببرود مع الكتاب، أو شجبوه بسبب اندراجهم بصيغة أو بأخرى ضمن قائمة المبوقين للنظام الساقط. وهناك من اتخذ موقفاً تصالحياً، يدعو الى نسيان الماضي وتغطيته إجمالاً.
اختفاء "رموز" البعث
ومن السخرية ان النَفَس الثأري والمتشفي والمطالب بالمحاكمة الاخلاقية لم يجد في غالب الاحوال "رمزاً" واحداً من رموز ثقافة البعث أمامه. لأن أغلب الرموز "الساطعة" لهذه الثقافة كانوا قد احتجبوا عن الفضاء الاجتماعي للمثقفين، والبعض ممن لديه تداخلات أمنية وإساءات مباشرة فروا سريعاً خارج العراق حتى قبل سقوط النظام خوفاًَ من الحساب العسير.
قتل داوود القيسي أحد ابرز رموز الاناشيد الحربية والاغنيات المدحية لصدام، وفرَّ لؤي حقي الذي كان من أعتى الخدم (الثقافيين) للسلطة البائدة، وفر رعد بندر، الذي كسا مع زملائه شاشات الاعلام العراقي في زمن صدام بقصائده المدحية التي قاربت في بعضها حدود التأليه الصريح والمباشر.
هرب عبد الرزاق عبد الواحد ايضاً الى إبنته في باريس، وهرب حميد سعيد (المثقف البعثي العقائدي) ولحقه الى القاهرة بعدها بمدة زميله ورفيق دربه سامي مهدي. وهرب في واقع الحال كل المندرجين بشكل صريح لا مواربة فيه في الثقافة التطبيلية للنظام البائد.
وفي حادثة أثارت نوعاً من الجدال وعدم الاتفاق طرد العاملون في دار الشؤون الثقافية العامة ماجد السامرائي، الذي كان يحتل منصباً رفيعاً فيها لإتهامه بخدمته للنظام السابق، وجرت حوادث مشابهة مع آخرين في أماكن ومؤسسات أخرى.
إعادة ظهور أصوات قديمة
غير ان طرداً واسعاً لكل من كان يمثل بشكل أو بآخر ثقافة الزمن البائد لم يجرِ، وجرى، بالتجاور مع حالة الرفض المنفعل، غض طرف كبير تجاه الذين لم يخلفوا وثائق مكتوبة كثيرة تمجد سلطة النظام السابق.
وكل المثقفين يعرفون، كما قلت سابقاً، ذلك الشاعر أو الكاتب الذي دبج قصيدة أو مقالة من أجل المكافأة المالية ليس إلا، في ظل ظروف التسعينيات القاسية مادياً. ولا يندرج الكثير ممن سلكوا هذا الطريق في إطار التبني لرؤيا السلطة ومنهجها.
ومن المفارقات ان الرفض الخفي للكثير من المشتغلين في خدمة ثقافة النظام السابق وإعلامه، لم يحجبهم ويحيد فعلهم بشكل كامل، حيث أتاح فضاء الحرية الإعلامية للكثير من هؤلاء إخراج صحف وإدارة مؤسسات ثقافية، حتى غدا وصف "جريدة بعثية" على سبيل المثال، شائعاً ومتداولاً في تحديد اتجاهات بعض الصحف، أو ميول الأكثرية من كتابها.
الموقف الوسطي المستقل لم يتبلور بشكل كافٍ لكي يكون المركز من الوعي الاخلاقي داخل الثقافة العراقية، وسببت التجاذبات السياسية والضغط الامني في حجب قوة هذا المركز وساعدت في تشرذمه.
ومثلما غدا وصف "بعثي" تهمة تساعد من يصدرها على تبيان موقفه تجاه الموصوف، فأن هذا الموصوف اعتمد وصفاً مضاداً "عميل" للدفاع عن نفسه تجاه منتقديه. وما بين ضفتي التطرف في الاتهام بالولاء للنظام السابق، وتهمة العمالة للمحتل، ضاع ذلك الصوت العقلاني الذي يسعى لاجراء جردة واسعة ومحاكمة نزيهة لمجمل النشاط الثقافي في زمن الاستبداد. أو فلنقل أنه تأخر وتلكأ، ولم يتح له ان يعطي بداية تاريخية واضحة وجديدة للضمير الثقافي العراقي.
حاجة إلى تغيير جذري
أعرف عن الكثير من المثقفين أنهم يعيشون حالة من الاستياء الشديد تجاه غياب المحددات، وتداخل المياه في الحوض الجديد للثقافة العراقية، فهناك من ينظر بعين غير راضية الى النتائج الفعلية للتغيير الذي حدث بإسقاط النظام البعثي، فهذا التغيير، في واقع الأمر، لم يغير كثيراً في الواجهات الثقافية، ولم يسقط معه العديد ممن كانوا يمثلون رموزاً معتادة للنشاط الثقافي السلطوي في الزمن السابق.
وجرى في بعض الأحيان نوع من تبديل الجلد ليس إلا. ولكن هناك من يرى في هذا الوصف نوعاً من التشاؤم المبالغ فيه، ونفساً استبدادياً مضاداً، يعاني من جوع للهيمنة. ونوعاً من الفشل الإبداعي والثقافي وحسداً لآخرين، رغم شوائبهم، لديهم ما يقولونه ويفيدون به.
قوبل كتاب عباس خضر "الخاكية"، والذي يستعرض فيه المؤلف نماذج من الادب الممجد للحرب ولسلطة البعث، باهتمام داخل الصحافة الثقافية في بغداد، وجرى معه ما جرى مع كتاب سلام عبود "ثقافة العنف في العراق".
ويبدو ان الدافع لإصدار كتب مماثلة في الزمن القادم سيظل حاضراً، ويملك المشروعية، مادام في الاجواء إحساس مهيمن بأن المراجعة لم تتم على وفق وتيرة مقنعة، مراجعة الثقافة التي غطت بأدغالها ارض الثقافة العراقية، وساهمت في تشويهها، وفي تشويه اجيال تربت على هذه الثقافة ذات التوجيه الرسمي المكثف.
مراجعة بهدف الفحص وليس أطلاق الاحكام السريعة، فحص تلك الجدلية المعقدة بالضرورة، والتي تنتج ميلاً لدى المثقف تجاه السلطة الاستبدادية، ومحاولة لفك طلاسم هذه الشهوة، وهذا التموضع الشاذ للثقافي أزاء السلطوي والسياسي.
مع وعي ان أي مراجعة قد لا تستهدف بالضرورة محاكمة الفرد المثقف، بقدر ما تستهدف محاكمة الوعي الثقافي. فأي فعالية نقدية داخل الثقافة لا تملك في النهاية هدفية قانونية بالمعنى المدني، ويظل سجالها في مدار الضمير، وهي لا تستهدف الإنسان لدى مثقف السلطة البائدة، بقدر إستهدافها فحص موقف هذا الإنسان المثقف.
الكابوس اليومي
ومن المحزن إن هذه الفرضيات في قراءة قضية ثقافة السلطة البائدة لا تسير في الظروف الحالية في العراق بالوتيرة المتوقعة، بسبب حالة مهيمنة من الإحباط العام تجاه نتائج التغيير السياسي الكبير، فالفرحة والأمل المتولد من إسقاط نظام صدام تلاشى أمام حرارة الكوارث اليومية التي تلسع بلهيبها المثقف وغير المثقف.
وأصبحت المشاغل الإنسانية العامة تأخذ حيزاً واسعاً من تفكير المثقف، وجداله وما يخطط له للأيام القادمة. غدا المثقف العراقي (النزيه والمستقل وذو التاريخ غير الملوث) مسحوباً داخل عجلات العربة المسرعة التي تحمل نذر نهاية العالم، فالأصدقاء (المثقفين وغير المثقفين) يقتلون، أو يفرون خارج البلاد.
والطرق اليومية المعتادة والتي سار عليها آلاف المرات غدت غير مأمونة. والمجهول يسيطر بثبات على كل سهم منطلق من اللحظة الحاضرة باتجاه المستقبل.
لا أحد يريد الاعتراف والتطهير، والكل يستهلك، ضمن فضاء الاستجابة المتوقع، التموضعات السياسية الجديدة لتدعيم موقفه الأصلي؛ الذين ساهموا في إدامة ثقافة الاستبداد، والذين عاشوا تحت ظل هذه الثقافة كضحايا.
ولكن هذا في حدوده السجالية الضيقة غير مهم، أمام مسؤولية تدعيم ضمير ثقافي يقرأ التاريخ العراقي المعاصر بعين فاحصة، ويحاكم إلتباس الثقافي مع السياسي والاستبدادي، وهذا ما يبدو، للأسباب التي طرحت سابقا، ان وتيرته مازالت بطيئة وغير ظاهرة للعيان حتى الآن.
بقلم أحمد السعداوي
حقوق الطبع قنطرة 2007
أحمد السعداوي كاتب وصحفي عراقي مقيم في بغداد.
قنطرة
الإعلام العراقي وحرية التعبير
تحول كبير جرى في كل مفاصل العمل الاعلامي في العراق عقب سقوط النظام البعثي. وهو تحول غير مسبوق، كان اشبه بالنهوض من سبات طويل لواقع اعلامي متأخر على المستويات كافة. بقلم أحمد السعداوي