قصة شابين يقومان بعملية انتحارية
الشابان الفلسطينيان خالد وسعيد، تربطهما صداقة حميمة منذ الطفولة، وقد قرر لهما القيام بعملية انتحارية في تل أبيب. وبوسعهما قضاء الليلة التي من المقرر أن تكون آخر ليلة لهما في أوساط عائلتيهما في مدينة نابلس. وبالطبع لا يبوحان بما ينويان القيام به لعائلاتهما ولا يقومان ا بتوديع أقاربهم. في صباح اليوم التالي يتم نقلهما إلى الحدود الإسرائيلية بعد تثبيت القنابل على أجسامهما. ولكن العملية لا تجرى كما كان مخطط لها: الصديقان يفقدان بعضهما البعض ويتوجب على "القنبلتين البشريتين" الآن مواجهة قدرهما وتحمل مسئولية قناعتهما. إيغال إيفان تحدث مع المخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد.
ما هي العوامل التي دفعتك إلى تصوير فيلم حول عمليات انتحارية وذلك في أوائل علم 2000، وهي فترة كما نعلم لم تجر بها أية عمليات انتحارية؟
هاني أبو أسعد: أنا أبحث كغيري من صانعي الأفلام عن قصة ما. وقد نظرت إلى ظاهرة العمليات الانتحارية في ذلك الحين على أنها قصة من الماضي. أما القصد من وراء هذا التباين الزمني فهو الحيلولة دون تأثري بآنية هذه العمليات ولا سيما المخاوف والعوامل النفسية المنوطة بها وأن أقوم بتصوير فيلم يمكن التنبؤ به.
ومن ثم اندلعت الانتفاضة الثانية في أكتوبر / تشرين الأول من العام 2000 وعادت معها الهجمات الانتحارية الفلسطينية. ماذا كان رد فعلك على هذا التطور؟
أبو أسعد: لقد كان هذا التطور سيئا جدا بالنسبة للناس في المقام الأول. غير أنني قد اعتبرت هذا الواقع دراما تنمو بها شخصيات الفيلم. وقد قمت بسرد هذه الدراما بلغة الفيلم. وكان هذا التباين ضروريا من أجل إدراك ظاهرة القتل وظاهرة الموت في ذات اللحظة.
لماذا صممت على تصوير أحداث الفيلم في مدينة نابلس بالذات رغم أعمال العنف اليومية هناك ورغم محاصرة المدينة؟
أبو أسعد: لأنني أردت تصوير الفيلم كشيء مبتكر ولكنني أردت في الوقت ذاته أن أبقى قريبا جدا من الواقع. هذا يعني تصوير الفيلم في مكان الحدث وأثناء وقوع الحدث. لقد فكرنا بداية أن نقوم بتصوير وقائع الفيلم في مدينة غزة ولكن ذلك لم يكن ممكنا نظرا لكون المدينة بمثابة سجن كبير، فلم يكن من السهل الدخول إليها أو الخروج منها. وكانت إسرائيل في تلك الفترة تطلق الصواريخ يوميا على غزة ولكنها لم تطلق منذ ستة أشهر أية منها على الضفة الغربية.
وبما أن القوات الإسرائيلية كانت تدخل يوميا إلى مدينة نابلس، فقد قلنا لأنفسنا إننا لن نتعرض إلى قصف صواريخ خطيرة للغاية. ناهيك عن أنه ليس بمقدور الإنسان أن يرى قدوم أي صاروخ ولكن بإمكانه أن يرى الدبابات الإسرائيلية، وهكذا فقد كان لدينا متسع من الوقت من أجل الاختباء في مكان آمن.
ولكن توقعاتكم لم تكن مصيبة.
أبو أسعد: هذا صحيح، وذلك لأن صاروخا قد وقع في جوارنا على حين غرة في اليوم العشرين من التصوير (يقول ضاحكا). كانت أول ردة فعل لي غاضبة. وشعرت وكأنني قبطان سفينة آخذة بالغرق. وبما أنني كنت بعيدا جدا عن الميناء فإنه لم يكن بمقدوري العودة إلية وكنت بهذا مجبرا على الاستمرار بالعمل. ستة من التقنيين الألمان قد فارقوا موقع التصوير. ولكنه لا يحق لي أن أتوجه إليهم باللوم أو العتب. فالحياة أهم من أي فيلم. ولهذا السبب فقد فارقنا الموقع جميعا وواصلنا تصوير الفيلم في مدينة الناصرة.
أين سكن طاقم عمل الفيلم في هذه الفترة؟ نحن نعلم أن عدد المشتركين في تصوير هذا الفيلم قد بلغ سبعين شخصا.
أبو أسعد: لقد كنا نسكن في فندق ظريف جدا. وقد كنت فعلا منذهلا من صمود الفلسطينيين في مدينة نابلس أمام الضغوط الإسرائيلية. فالأطفال كانوا يذهبون يوميا إلى المدرسة ـ سوى في أيام حظر التجول أو الإضراب. المحلات في المدينة كانت مفتوحة، الأعراس كانت تقام، والناس كانوا يقصون النكات ويضحكون. ولكن علامات الانهيار الاجتماعي كانت واضحة في ذات الوقت. فلم تكن هناك أية شرطة، وقد قامت مجموعات مسلحة بالسطو على أحد البنوك. الضفة الغربية كانت آنذاك تشبه الغرب الأميركي الذي نعرفه من أفلام رعاة البقر.
ومن ثم تحول فيلمك إلى سبب للاستياء ما بين مجموعتين مسلحتين.
أبو أسعد: هنالك كتلة أرادت إيقاف عملية تصوير الفيلم معتبرة إياه معاديا للفلسطينيين وذلك لأن الفيلم لا يعرض العنف والاحتلال الإسرائيلي. وفريق آخر قد شاطرها الرأي ولكنه نادى بحرية التعبير عن الرأي ووقف إلى جانبنا، بالأسلحة طبعا، ولكن هذه الأسلحة لم تستخدم.
هل قام هؤلاء بقراءة حوار الفيلم، من أين كانت لهم كل هذه المعلومات؟
أبو أسعد: الناس في مدينة نابلس كانوا جميعا على علم بحوار الفيلم وذلك عبر ما كان يتناقل من أحاديث، وكان لكل واحد منهم رأيه الخاص به. حتى في حانوت المواد الغذائية كنت مضطرا إلى مناقشة نص الفيلم. أضف إلى ذلك أنه كان علينا أن نتفاوض يوميا مع الجنود حول كل صغيرة وكبيرة، من أجل السماح بدخول أو بخروج ممثل ما مثلا.
كافة الممثلين المشتركين في الفيلم تقريبا من الفلسطينيين الذين يعيشون في إسرائيل أو في أوروبا. بطلة الفيلم لبنا الزبال ولدت في بلجيكا. كيف كانت علاقتكم مع الفلسطينيين في نابلس، الذين لم يسمح لهم بالخروج من المدينة على عكس طاقم الفيلم؟
أبو أسعد: لقد عاملونا خير معاملة، وقد رحبوا بنا في كل مكان. وقد كنوا تقديرا كبيرا لحقيقة أننا نود أن نعيش واقع حياتهم اليومية الخطير بأنفسنا. لقد ذهبت ذات مرة لشراء حذاء جديد، ولما عرفت صاحبة المحل من أنا أصرت على أن تهديني حذاءا.
أنت تعيش في هولندا منذ عام 1981 مع بعض الانقطاعات. وتتابع في الوقت ذاته وبشكل فعال الأوضاع في الشرق الأوسط. ما هو تخيلك لمعاهدة سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين؟
أبو أسعد: إن الحل الوحيد هو مبدأ المساواة بين الفلسطينيين والإسرائيليين كأمم وكأفراد. وعلى هذه الأساس بالإمكان المساومة على التفاصيل الأخرى بشكل سهل نسبيا. ممثلو إسرائيل الرسميون لم يقوموا حتى الآن بقبول دولة فلسطينية تتمتع بحقوق مساوية مثل إسرائيل ـ ولا سيما أن هذا يعني تقسيم البلد ومواردها. وهم يرفضون ذلك كتنازل عن الدولة اليهودية ولا يعرضون على الفلسطينيين سوى حقوق للإنسان فقط.
ولكن طالما استمرت اعتداءات الفلسطينيين وعملياتهم الانتحارية فلن تقوم إسرائيل بتقديم أية حلول وسط، ولن يحصل الفلسطينيون على دولة خاصة. هل توافق هذا الرأي؟
أبو أسعد: إن العلميات الانتحارية التي يقوم بها الفلسطينيون هي وليدة الاضطهاد، الذي لا بد من إنهائه أولا. الإسرائيليون ينسون أن الاحتلال كان مستمرا أيضا خلال عملية المفاوضات في أوسلو.
هل تدين العمليات الانتحارية؟
أبو أسعد: لماذا؟ أنا ضد قتل البشر، وأريد إيقاف ذلك. ولكنني لا أدين من يقوم بعملية انتحارية. إن هذا بالنسبة لي رد فعل إنساني جدا على وضع عصيب جدا.
ينتهي فيلمك بعلمية انتحارية في حافلة عمومية إسرائيلية. لماذا لا تظهر دماء وأشلاء أجسام الإسرائيليين الأبرياء؟
أبو أسعد: إن هذه النهاية أقوى بكثير، لأننا نعرف الصور ما بعد الاعتداء من وسائل الإعلام ولكننا لا نعرف الصور التي سبقت ذلك.
يريد صندوق الأفلام الإسرائيلي تشجيع فيلمك، لكي يكون بالإمكان عرضه في إسرائيل. هل أنت سعيد لذلك؟
أبو أسعد: نعم، سأكون سعيدا جدا لذلك، إذا ما عرض فيلمي على جمهور إسرائيلي، لأن الفلسطينيين بالنسبة لهم غير مرئيين أو إرهابيين. سأحاول تنظيم بعض العروض في الضفة الغربية، من أجل المبادرة بنقاش في هذا السياق.
أجرى الحوار إيغال أفيدان
حقوق الطبع قنطرة 2005
ترجمة مصطفى السليمان
حصل هاني أبو أسد في مهرجان برلين السينمائي على جائزة ألفرد باور وعلى جائزة منظمة العفو الدولية وعلة جائزة الملاك الأزرق لأفضل فيلم أوربي.
"رنا تركض" فيلم آخر لهاني أبو أسعد على قنطرة