منارة داخل المدينة العتيقة بتونس

معهد الآداب العربية الذي أسسته جماعة الآباء اليسوعيين قبل 80 سنة والذي ظل مواظبا طوال 70 عاما على إصدار المجلة الثقافية التي تحمل إسمه يمثل مؤسسة ذات دور مهم داخل الحياة الثقافية في تونس. بقلم بيات شتاوفر

المعهد الذي يحمل إسم إيبلا Institut des Belles Lettres Arabes(IBLAالذي يوحي بشيء من القدم أو النمط البالي، والذي يؤويه بيت قديم جميل في إحدى أطراف المدينة العتيقة بتونس يعود إلى عهد كانت البلاد التونسية فيه خاضعة لسلطة الحماية الفرنسية. ويعتقد العديد من الناس بأن هذا المعهد من أهم مخلفات تلك الفترة التي كان لها فضل تأسيس بنية تحتية للبلاد كما كانت سببا في محن قاسية عليها في الآن نفسه.

حملة تبشيرية

تم تأسيس هذا المعهد الذي يوجد في نهج باب الهواء سنة 1926 من طرف جماعة اليسوعيين المعروفة بـ"الآباء البيض"، التي أخذت على عاتقها في ذلك الزمن مهمة القيام بحملة تبشيرية داخل بلدان شمال إفريقيا. غير أن الجماعة جعلت منذ البداية من مهمة التعرف على ثقافة ولغة البلاد التي كانت تجهلها إحدى أهدافها الأولية.

وقد كانت الجماعة على قناعة آنذاك بأنه بهذه الطريقة، وبهذه الطريقة فقط سيمكنها التوفق في التعريف بالرسالة المسيحية وتقريبها إلى أذهان المواطنين الأهليين. وهكذا أصبح بإمكان مجموعات المبشرين من مختلف البلدان الأوروبية أن تتلقى من المعهد تكوينا أوليا قائما على قواعد متينة في اللغة العربية والثقافة التونسية.

حوار وتبادل أفكار

لكن سرعان ما تبوأت مقدمة الاهتمامات في نشاط معهد إيبلا أهداف أخرى غير المرامي التبشيرية. فمن جهة انصب الاهتمام على تأسيس مقر يمكن المسيحيين الأوروبيين والمسلمين التونسيين من الالتقاء والتحاور. ومن جهة ثانية جعل المشرفون على المعهد نصب أعينهم هدف التعرف على الواقع المتنوع للبلاد وتوثيقه.

كانت تلك إذًا ساعة ميلاد مجلة إيبلا "Revue de l’IBLA"، التي سيصدر عددها الأول في سنة 1937 لتظل قائمة على مدى السنين لا تؤثر فيها شتى القلاقل والاضطرابات. في البداية كانت المجلة مجرد كراس بسيط مكون من مجموعة أوراق متنوعة تكاد تكون قراءتها منحصرة على "المعمّرين" الفرنسيين الذين كانوا يرغبون في تطوير قدرتهم على فهم عقلية مزارعيهم ومستخدميهم من التونسيين.

لكن ومنذ الأربعينات من القرن الماضي راحت المجلة تنفتح أكثر فأكثر على أفكار الحركة الوطنية التونسية، الأمر الذي غدا يسبب حالة من التوتر الدائم في علاقتها بأجهزة السلطة الاستعمارية.

هكذا رأت المجلة نفسها تقذف بتهمة "غرس" أفكار كريهة في عقول التونسيين. لكن المشرفين على معهد إيبلا لم يقبلوا بالحياد عن الطريق الذي اختاروه لأنفسهم، بل وضعوا مجلتهم في خدمة شكل محدد من الحوار وتبادل الأفكار. وإلى جانب ذلك راحوا يوثقون بأمانة مجمل المنشورات والدوريات التي كانت تصدر فوق أرض البلاد التونسية.

المجلة الأكثر أهمية

كان من مزايا هذا التوجه أن مكن المجلة من مواصلة عملها في تونس بعد حصول البلاد على الاستقلال. كما كان لعملية تشريك التونسيين في تحرير المجلة منذ عددها الأول الصادر في سنة 1937، وكذلك الأهمية التي أصبحت لمعهد إيبلا منذ زمن طويل كمكتبة عمومية ومركز للدراسات، أن ساهمت في بقاء المعهد ومواصلة نشاطه.

وسرعان ما اتضح بأن الموقف المناصر الذي واجه المعهد به السلطة الاستعمارية بخصوص استقلال البلاد سيكون ذا فائدة بالنسبة لنشاطاته داخل الظروف والعلاقات الجديدة للبلاد المستقلة.

وهكذا استطاعت المجلة أن تستضيف على صفحاتها مقالات وقراءات عن كتب ودراسات علمية لا تحظى برضى سلطة الرقابة الرسمية التونسية. وقد ظلت لجنة التحرير متمسكة بالمعايير القيّمية والعلمية السامية التي وضعتها لنفسها. ومجلة إيبلا لا تمثل اليوم أقدم نشرية في البلاد، بل كذلك أكبرها أهمية وإشعاعا. وكل من يطمح اليوم في تونس إلى منصب أكاديمي في مجال الفكر والعلوم الإنسانية يعرف أنه لا محيد له عن النشر على صفحات مجلة إيبلا.

المحايدة الايجابية

تتشكل هيئة تحرير المجلة اليوم من سبع أكاديميين تونسيين، من بينهم أربع نساء، ويسوعية إسبانية وعنصران من "الآباء البيض" من معهد إيبلا. وتصدر المجلة التي تتكون من 200 صفحة بصفة دورية نصف سنوية. أما النصوص المنشورة فترد في جزأين محررين باللغة العربية والفرنسية، كما تضم بين الحين والآخر نصوصا بالأنكليزية.

​​وتتكون من جزء مخصص للدراسات العلمية في الأدب والتاريخ وعلم الاجتماع، وجزء يركز على مقالات وقراءات نقدية للمنشورات الجديدة. وفي أغلب الأحيان تكون النصوص المنشورة على صفحاتها ذات علاقة مباشرة أو غير مباشرة بمسائل تونسية. وفي شهر ديسمبر/كانون الأول من هذه السنة ستحتفل المجلة بصدور عددها رقم 200.

لعل سر النجاح الذي عرفه معهد إيبلا ومجلته يكمن في سياسة "المحايدة الإيجابية" كما يقول الأب جون فونتين، الرجل الذي ظل لسنوات طويلة يشرف على تسييره. و"المحايدة الإيجابية" تعني لدى الأب فونتين الابتعاد الصارم عن التدخل في الشؤون السياسية التونسية، وكذلك الامتناع الواضح عن كل محاولات الاحتواء سواء من جهة الأحزاب السياسية أو أجهزة السلطة. إلا أنه لا يخفى عن أحد في تونس بأن السمعة الممتازة التي يحظى بها معهد إيبلا إنما تعود في جزء كبير منها إلى جون فونتين شخصيا.

دور جون فونتين

الأب اليسوعي الذي ولد قبل 70 سنة بالشمال الفرنسي قد درس الرياضيات في البداية، لكنه راح يوجه اهتمامه أكثر فأكثر إلى العالم العربي وإلى دراسة مستفيضة للغته وأدبه. وبعد تنقل وفترات من الإقامة في منطقة الشرق الأوسط من أجل الدراسة استقر به المقام منذ 45 سنة في موطن اختياره تونس التي يكن لها مشاعر ارتباط وثيق.

لقد ركز الأب اليسوعي ذو الاختصاصات المتنوعة اهتمامه بدرجة أولى على الأدب التونسي الجديد الناطق باللغة العربية. وكان له نصيب لا بأس به في مجمل المؤلفات القيمة في هذا المجال. وإلى جانب ذلك يعتبر جون فونتين من أفضل الشخصيات الخبيرة بشؤون البلاد التونسية. وليس هناك أجنبي على معرفة دقيقة مثله بمجالات الحياة اليومية وبهموم الناس وكذلك بالظروف العامة للبلاد، كما يؤكد لنا العديد من الثقات.

وبالرغم من تقدمه في السن فإن جون فونتين مايزال يشترك بصفة مكثفة في النقاشات العمومية وتحرير المداخلات وإلقاء المحاضرات. ولئن كان قد انسحب من تحمل مسؤوليات مباشرة داخل معهد إيبلا، فإن هذا الأب اليسوعي الملتزم يظل مع ذلك هناك، يعمل في الخفاء، وكل من يريد الحصول على معلومة منه سيلقى ترحابا واستقبالا ودودا.

بقلم بيت شتاوفر
ترجمة علي مصباح
حقوق الطبع قنطرة 2007

قنطرة

رحلة باول كلي التونسية
بعد قرن تقريبا من الرحلة التي قام بها الفنان الكبير باول كلي الى تونس تابع المخرج السويسري برونو مول المحطات التي سلكها كلي في هذه الرحلة والتي ألهمته بالكثير الذي سجله في يومياته. عرض نقدي بقلم ألكسندرا شتيلي لهذا الشريط التسجيلي المثير.

التبادل الأدبي العربي-الألماني
يعتبر الأدب دوما أحد الوسائل الرئيسية في حوار الحضارات، وغالبا ما يتمثل هذا في شكل أنشطة صغيرة تعمل في الخفاء: المترجم والناشر مثلا اللذان يعيشان على حافة الكفاف، ويقتاتان من العمل في التعريف بالثقافة الغريبة المحبوبة. ونقدم هنا مبادرات ألمانية وعربية

www

iblatunis.org