الطيب صالح "يهاجر" إلى عالم الخلود
قبل أن يطل الطيب صالح على المشهد الأدبي الصاخب في بيروت في سنوات الستينيات لم يكن السودان سوى بقعة أدبية مجهولة. كان صالح – الذي توفي يوم الأربعاء، الثامن عشر من فبراير (شباط) - أستاذاً في فن البرهنة على أن كل مكان، ولو كان صغيراً أو نائياً أو هامشياً، يستحق أن يكون موضوعاً للكتابة الأدبية، حتى تلك القرية في شمال السودان، حيث ينعطف النيل انعطافة حادة، تلك القرية التي لا تتوقف عندها الباخرة سوى مرة واحدة في الأسبوع، تلك القرية الوادعة التي لا يخترق هدوءها سوى هدير مضخات المياه. هناك ولد الطيب صالح عام 1929. في أقاصيصه ورواياته تحمل تلك القرية اسم ود حامد. ولا نبالغ إذا قلنا إنه خلّد اسم تلك القرية لدى كل قارئ عربي.
رغم إنتاجه الأدبي القليل الذي لا يتعدى أربعة كتب – تُرجمت جميعاً إلى الألمانية ونُشرت لدى دار "لينوس" – يعتبر الطيب صالح من كبار الأدباء، سواء في العالم العربي أم في القارة السمراء. منذ ظهورها عام 1966 تحتل روايته "موسم الهجرة إلى الشمال" موقعاً أبدياً في قائمة أفضل عشرة أعمال في الأدب العربي الحديث، وهي أضحت بالنسبة إلى أجيال عديدة من المثقفين في الشرق الأوسط كتاباً شهيراً يمثل الشرارة الأدبية الأولى لجيل 68 من العرب.
"موسم الهجرة إلى الشمال"
بمجرد صدورها كان يمكن إلصاق وصف "صدام الحضارات" على موضوع الرواية التي تتناول حياة المثقف السوداني النابغة مصطفى سعيد الذي درس في انكلترا في العشرينيات محققاً نجاحاً باهراً، لا لشيء إلا ليغيظ سادته الاستعماريين السابقين، ثم يُمسي في النهاية مهووساً بالجنس. وبالفعل إذا ألقينا اليوم نظرة على مصطفي سعيد لظهر لنا باعتباره سلفاً لمحمد عطا. غير أن الطيب صالح لم يكن يوماً بوقاً سياسياً غوغائياً أو رساماً يرسم لوحاته بالأبيض والأسود.
وهكذا يضع الطيب صالح إلى جانب مصطفى سعيد راوياً من جيل لاحق درس هو أيضاً في انكلترا وعاد إلى قريته ومسقط رأسه حيث ما زال كل شيء على حاله؛ الاستثناء الوحيد هو الغريب الذي قدم إلى القرية واستقر فيها. هذا الغريب – مصطفى سعيد - يثير فضول الراوي. هنا تبدأ الرواية. وعندما تنتهي يكون مصطفى سعيد قد اختار الانتحار في النيل، أما الراوي الذي وصل إلى نهاية استقصائه وبحثه عن حقيقة ذلك الغريب، فكان يقف هو أيضاً على ضفاف النيل يبوح له بأسراره، غير أنه في اللحظة الأخيرة يختار الحياة.
البطل الثالث في هذه الرواية، بل تقريباً في كل قصص الطيب صالح، هي القرية التي سبق الإشارة إليها. في قصته الأولى الطويلة "عرس الزين" كانت ود حامد ما زالت تبدو مكاناً ريفياً خلاباً، غير أنها تكبر وتتسع في "موسم الهجرة إلى الشمال". لم تعد جزيرة راسخة في نهر الزمان، بل جرفها التيار معه. مَن له القدرة على الملاحظة في القرية، سيشعر بذلك، وسينقلب حاله مع حال القرية رأساً على عقب. على كل حال فإن الراوي يعرف كيف يواجه عدمية مصطفى سعيد المُقتَلع من جذوره عندما أكد أنه سيظل على قيد الحياة لأن هناك قلائل من الناس يود أن يواصل الحياة معهم إذا ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ولأن هناك واجبات يريد أن يؤديها. دون أن يعبأ بما إذا كانت للحياة معنى أم لا.
جسر بين الشرق والغرب
إن أعمال صالح لا تتناول موضوع العلاقة بين الشرق والغرب فحسب، بل تقيم حواراً ذكياً مع أدب الامبراطورية الانكليزية الاستعمارية السابقة. مصطفى سعيد – الذي لا يمل من تشبيه نفسه بالبطل الشكسبيري عُطيل – يسافر إلى القلب المظلم لانكلترا في العصر ما بعد الفيكتوري. إنه بالأحرى يسافر إلى قلب ظلمته هو. وكما هو الحال لدى جوزيف كونراد فإن الراوي الذي يصفه يريد أن يسبر غور أسرار وخبايا سلفه الذي اقتحم قلب الظلام. بهذا المعنى فإن "موسم الهجرة إلى الشمال" من أفضل نماذج الأدب المابعد كولونيالي.
كان الطيب صالح يريد أن يتجنب شيئاً واحداً: أن يصبح كاتباً. ولم يدفعه في النهاية إلى الكتابة – مثلما صرح في أحد أحاديثه الصحفية – سوى الحنين إلى الوطن. كان قد سافر إلى انكلترا في عام 1952 ليعمل مذيعاً في القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، وظل يعيش حتى وفاته في لندن. كان يعتبر نفسه مسلماً مؤمناً، لكنه من ناحية أخرى كان من أشد منتقدي النظام السوداني، كما أدان بكل وضوح التشريد والقتل في دارفور.
لكل موقف سياسي ثمن
لمواقفه كان يُمنع بانتظام من دخول السودان. في التعامل مع الناس كان الطيب صالح ودوداً ومتواضعاً، بل ومتحفظاً يفضل التهوين لا المبالغة في القول، لذا كان يؤكد أن أي قصيدة من القصائد الكبيرة في تراث الشعر العربي أكثر قيمة وأهمية من كل رواياته.
ولكن المؤكد أن تاريخ الأدب سيصدر حكماً آخر، رغم توقف الطيب صالح عن الكتابة منذ أن أصدر آخر أعماله الكبيرة في عام 1971. رواية "بندر شاه" كتاب مظلم وصعب ويكاد يكون كتاباً صوفياً. لم يستغرق الطيب صالح سوى عشر سنوات في كتابة أعماله التي أظهرت – أمام كل النظريات – كيف يمكن لهامش الامبراطورية السابقة أن يرد - أدبياً - الصاع صاعين.
لقد عاد الكُتّاب الشبان العرب يقرأون أعمال الطيب صالح مرة أخرى ويقيمون معها حواراً، بدءاً من علاء الأسواني الذي سجل أعلى المبيعات بروايته "عمارة يعقوبيان"، ووصولاً إلى الكاتب السعودي سليمان أدونيه الذي يكتب بالانكليزية. في روايته "عشاق جدة" التي ترجمت حديثاً إلى الألمانية يقرأ أبطال الرواية معاً "موسم الهجرة إلى الشمال"، مثلما كان فيرتر ولوته يقرآن كلوبشتوك في رواية غوته "آلام فيرتر". طرق القوافل التي جرى عليها في الماضي التبادل الأدبي بين الغرب والشرق والشمال والجنوب أصبحت اليوم طريقاً سريعة مزدحمة، والفضل في ذلك يرجع في المقام الأول إلى الطيب صالح: إنه موسم الهجرة (الأدبية) إلى الجنوب!
شتيفان فايدنر
ترجمة صفية مسعود
حقوق الطبع: قنطرة 2009
قنطرة
في رثاء الشاعر الفلسطيني محمود درويش:
حينما يبكي غصن الزيتون.....
شكلت وفاة محمود درويش- أشهر الشّعراء الفلسطينيين وأكثر الشّعراء العرب المعاصرين تأثيرًا- خسارة كبيرة للساحة الأدبية العربية والدولية، حيث عبرت أشعاره مرارا وتكرارا عن الحلم الفلسطيني بالاستقلال وكذلك جسدت قصائده حالة الشتات والضياع الفلسطيني. شتيفان فايدنر في رثاء شاعر الحرية محمود درويش.
في رثاء دوريس كيلياس:
سفيرة أدب محفوظ ومترجمة رواياته إلى لغة غوته
نقلت المترجمة المبدعة دوريس كيلياس نحو أربعين رواية من روايات الكاتب الكبير نجيب محفوظ إلى اللغة الألمانية. دوريس كيلياس، التي وافتها المنية في بداية الشهر الحالي، ساهمت على هذا النحو في تعريف جمهور واسع في البلدان الناطقة باللغة الألمانية بروايات رفيق روحها الأدبية ورائد الرواية العربية نجيب محفوظ وفي وصول الأدب العربي إلى العالمية. لؤي المدهون يستذكر الراحلة.
علاء الأسواني يقرأ من "شيكاغو" في ألمانيا:
محفوظ الثاني أم محطم التابوهات؟
بعد صدور الترجمة الألمانية من رواية "شيكاغو" قام علاء الأسواني صاحب رواية "عمارة يعقوبيان" بجولة في ألمانيا للتعريف بروايته هذه، وقد استهل جولته بقراءة في مهرجان كولوينا للأدب، أكبر مهرجان أدبي في أوروبا. سمير جريس التقاه هناك.