حينما يبكي غصن الزيتون.....
كان محمود درويش محبوب الآلهة بين الكتَّاب العرب، كان مؤلّهًا، وكان نجمًا ساطعًا. ولكثرة المعجبين به لم يكن هناك متّسعًا حتى لمترجميه عندما كان يلقي الشعر. شاهدته للمرة الأخيرة قبل شهرين في باريس، حيث ظهر على غير توقُّع في أمسية شعريّة لزميله العراقي سعدي يوسف في مسرح الأوديون Théâtre de l’Odéon. إذًن ما زال الرجل موجودًا، الرجل الذي كان يملأ ملاعب كرة القدم في العالم العربي بالجمهور في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، وهو الصديق السابق لياسر عرفات، الذي غدا باضطراد ضمير فلسطين وناقدها الذاتي. توفّي محمود درويش يوم السبت الماضي بعد عملية قلبٍ ثالثةٍ أجريت له في أحد مستشفيات هيوستن.
ردود على مأساة الفلسطينيين الوجودية
وُلد محمود درويش بالقرب من مدينة عكا عام 1941 ونشأ في إسرائيل حيث أصبح عضوًا في الحزب الشيوعي الإسرائيلي وهو يافعًا. غادر البلاد بعد شهرة مبكِّرة في عام 1970 بعد أن سُجِنَ لعدّة مرات. وعاش منذ ذلك الحين في بيروت وتونس وباريس ورام الله. يمكن أن نرى مجمل عمله بمثابة ردٍّّ على حقيقة حياة الفلسطينيين وعلى مأساتهم الوجودية. بيد أنّه استطاع حتى في مواضع استجابته للأحداث التاريخية الآنيّة التعبير عن المجاز العام الماثل في قدر الفلسطينيين. لا بدَّ للقصيدة وأن تكون "محراثًا وقنبلةً" كما جاء في أحد نصوصه التي كتبها في السبعينيات.
لكن بعد الصدمة التي سببتها الهزيمة العربية في حرب حزيران 1967 ولى عهد البراءة، حيث دخل الشعر منذ هذا الحدث مع ذهاب جحافل المقاومين المستخدَم للتعبئة إلى الحد الأقصى في علاقة متواترة مع بعضهما البعض، الأمر الذي حدا بمحمود درويش لوضع حدودٍ بين شعره وبين الرطانة السياسية.
تعب من الرقص على إيقاع الكذب
يقول في أحد القصائد من أواخر الستينيات: لقّنوني كلَّ ما يطلبه المخرج من رقصٍ على إيقاع أكذوبته وتعبتُ الآن، علَّقتُ أساطيري على حبلِ غسيل ولهذا ... أستقيل. لا يستطيع الشاعر أيضًا أن يأتي بحلٍ لمعضلة الفلسطينيين الرئيسة المتمثلة بجهلهم بطريق خلاصهم، لكنه لا يسعه من ناحيةٍ أخرى أن يقف مكتوف الأيدي. إن أوضاع المواطنين الفلسطينيين التي تزداد حدةً منذ اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية المتوّج بالحصار الإسرائيلي لبيروت في صيف عام 1982 والذي انتهى بتشتيت منظمة التحرير الفلسطينية وضع نهايةً لمرحلة إنتاجٍ شعري شكل الأمل نبرتها الأساسية.
الشعور بنكسة نفسيةٍ من جراء انسحاب منظمة التحرير
خَبِرَ محمود درويش الهجرة القسرية من بيروت كرضّةٍ نفسيةٍ على غرار ما حدث بعد هزيمة 1967. وهذا ما يلتمسه القارئ في كتابه النثري المترجم إلى اللغة الألمانية "ذاكرة للنسيان"، وهو تقريرٌ تقييميٌّ لمرحلة وجود الفلسطينيين في لبنان، تقريرٌ موشّحٌ بشيءٍ من السيرة الذاتية. وبينما يأخذ مجرى أحد أيام الحصار الأخيرة موقع الصدارة، يتشكل من خلال الذكريات والأحلام ووصف بعض الأصدقاء الذين يلتقي بهم الشاعر والتفكر بقدر الفلسطينيين، صور زاخرة لنهاية أحد مراحل الشتات الفلسطيني . وبينما تخبو نبرات الاحتفاء بالنضال والشهادة والمقاومة المسلحة في ديوان "ورد أقل" الصادر في عام 1986 إلى غير رجعة، يبقى البعد السياسي والنقدي قائمًا في شعره. أما قصيدة " أَنَا يُوسُف يَا أَبِي" التي اقتصرت على إعادة رواية قصة يوسف التي جاءت في القرآن والإنجيل وتخلّت عن القافية، فقد أتت لتعبِّر عن نقدٍ مرير لغياب التضامن العربي الذي استنهضه محمود درويش في كثيرٍ من نصوصه: أَنَا يُوسُف يَا أَبِي. يَا أَبِي، إِخْوَتِي لاَ يُحِبُّونَنِي، لاَ يُرِيدُونَنِي بَيْنَهُم يَا أَبِي
مختبر الهوية الثقافية الفلسطينية
نجد صدى التغيُّرات السياسية الجارية منذ مؤتمر مدريد للسلام الذي عُقد عام 1991 في قصيدة "أَحَدَ عشر كوكبًا" المكوَّنة من أحد عشر مقطعًا والتي صدرت عام 1992: ... من سيُنزِلُ أَعلامَنا: نحنُ، أَمْ هم؟ ومَن سوف يتلو علينا "معاهدةَ الصلحِ" يا مَلِكَ الاحتِضار؟ كلُّ شيءٍ معدٌّ سلفًا، من سيَنزَعُ أسماءَنا عن هُوِيَّتِنا: أنتم أَمْ هم؟ ... أصبح الشعر مختبرًا للفهم الفلسطيني الذاتي الجديد. فمنذ التراجع التدريجي عن التطلع للتأثير المباشر والتخلي عن الإيماءات الكبيرة في السبعينيات من القرن الماضي أصبح الطابع الكوني يتبوأ أكثر فأكثر مكان الصدارة في شعر محمود درويش. انطلاقًا من القضية الفلسطينية يحتضن شعره الحالة الإنسانية في عالم يكاد يكون عاجزًا عن تقديم وعدٍ بالوطن جديرٍ بالتصديق. وجاءت قصائده الأخيرة شعرًا ذهنيًا محضًا يدور غالبًا حول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني مصالحًا وخاليًا من الخطابة الرنانة. إنها نصوص تؤتي أُكُلُها في الترجمة أيضًا وهذا ما يفسر شهرة محمود درويش العالمية التي أتت متأخِّرة. وكان اسمه قد ورد في السنوات الأخيرة بين مرشحي جائزة نوبل. بموت محمود درويش خسر الفلسطينيون آخر رمزٍ لا خلاف عليه وخسر عالم الأدب شاعرًا عظيمًا.
شتيفان فايدنر
ترجمة يوسف حجازي
قنطرة 2008
شتيفان فايدنر هو المترجم الألماني لمحمود درويش. صدر له في دار نشر أمّان "لنا وطنٌ من الكلمات