حوارات مناهضة لجدران الصمت والعداوة
أطلق دان بارون على عمله المشترك مع الباحث الفلسطيني في العلوم التربوية سامي عدوان عنوان: "حوار تحت إطلاق النار". وقد كانت صداقتهما وعملهما المشترك قد تجاوز جدار الفصل بين إسرائيل والمناطق الفلسطينية، كما تعرضا إلى كثيرٍ من الاختبارات، التي شملت الإخفاقات المتواصلة لمحادثات السلام في الشرق الأوسط، والعنف وضغط تلك التيارات الاجتماعية التي ترى أنه لا ينبغي الحديث مع "العدو".
الأستاذ الإسرائيلي المختص بعلم النفس، الذي كان يُدرِّس في جامعة بن غوريون، كان مرهفًا تجاه عدم تكافؤ موازين القوى بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وكان يصر على المساواة، لأنه كان يبغض الوصاية، كما كان يطرح الأمر للنقاش عندما كان يشعر بأن زملاءه يقيدونه ويحتوونه سياسيًا. وقد كان الرجلان قد أسسا مؤسسة دراسات السلام في الشرق الأوسط في بيت جالا بغية مواجهة الاستقطاب القائم في مجتمعيهما.
التوصّل إلى لغة مشتركة
حرّر دان بارون وسامي عدوان بالاشتراك مع مدرسين فلسطينيين وإسرائيليين كتاب تاريخٍ يضع مختلف الروايات التاريخية للشعبين المتعاديين إلى جانب بعضهم البعض. وتُرجم هذا المشروع المبتكر إلى العديد من اللغات، كما يجري استخدامه تربويًا في نزاعات أخرى.
ولِدَ دان بارون في حيفا في عام 1938. كان والداه ألمانيا الأصل من مدينة هامبورغ التي غادراها في عام 1939 فرارًا من النازيين. درس دان بارون العلوم الزراعية في البداية ومن بعدها علم النفس، ثم عاش واشتغل بعد ذلك لفترة 25 عامًا في مستوطنة في النقب. كان دان بارون نشيطًا لا يعرف الكلل، ولا يهاب مواجهة نفسه ومواجهة محيطه. وكان قد حرر نفسه من القيود الاجتماعية الجمعية في مرحلة مبكرة لكي يشق طريقه الخاص. كما كان إنسانًا سياسيًا، حيث نشط بعد حرب حزيران مباشرةً من أجل قيام دولةٍ فلسطينيةٍ إلى جانب دولة إسرائيل.
أجرى دان بارون في سبعينيات القرن الماضي مقابلاتٍ مع خلف الناجين من المحرقة. وتابع هذا العمل الرائد بشجاعةٍ على الرغم من التأييد الضئيل لهذا العمل في إسرائيل، حيث لم يكن هناك إرادةٌ بتحميل النفس مشقة استرجاع هذه التجارب المؤلمة. وعندما أتى دان بارون في عام 1985 إلى ألمانيا وجد أمامه صيرورة كبتٍ مشابهة، حيث لم يكن هناك من يتحدث عن الماضي بعد. ونشر في عام 1993 "عبء السكوت"، وهي عبارة عن أحاديث كان قد أجراها مع أبناء المجرمين النازيين الذين استطاع العثور عليهم. وكانت هذه الأحاديث وثائق لنقاشٍ أليمٍ تناول ذنوب الآباء، لكنها شكّلت لعالم النفس الذي كان يتقن الألمانية عبئًًا في الإصغاء.
من الحوار مع النفس إلى الحوار مع الآخر
تجرّأ دان بارون وقام بالخطوة الأولى في عام 1992 حيث جمع خلَف الضحايا وخلَف المجرمين في مجموعةٍ واحدةٍ أطلقت على نفسها اسم "التفكير والثقة" To Reflect and Trust. وأفلح المشاركون في المجموعة في التقارب من بعضهم البعض على الرغم من كل الرضّات النفسية، وذلك عبر محادثاتٍ امتدت لسنوات، ومن خلال رواية قصص حياتهم الخاصة، فتمكّنوا من هدم أسوارهم الوقائية (ضمّت المجموعة ابن وزير الرايخ النازي مارتين بورمان). وقد تناولت الأحاديث السير الحياتية فقط، ولم تتناول محاسبة الوقائع. كما تناولت التفكير بالتاريخ العائلي الخاص والهوية الذاتية، فأدى الحوار مع النفس إلى حوارٍ مع الآخر.
هذا المنهج الأساسي الذي طوّره دان بارون جعل نقاط الاتصال ممكنة حتى مع العدو، لأنه كان قد بيّنَ أن التجارب الحياتية الشخصية تكون متشابهةً في أغلب الأحيان، وذلك بمعزل عن الحدود التاريخية والسياسية والدينية أو العرقية. ويعود إلى المواضيع الكثيرة التي عالجها في "مثلث التوتّر" بين الإسرائيليين والألمان والفلسطينيين، أن المعاناة لا يمكن موازنتها مقابل بعضها البعض، وأن تصنيفات الضحية والجلاد ليست ثابتة، لأنها تتغيّر حسب السياق وتجتمع أحيانًا في الشخص ذاته.
نمى لدى دان بارون على مدى السنوات إحساسٌ صائبٌ بالآثار المخبأة والمكبوتة للحرب العالمية الثانية، التي لا تزال تأثِّر حتى يومنا هذا بشكلٍ لا واعٍ على مشاعر وأفعال الناس.
مطلبٌ عالٍ مقرونٌ بالتعاطف
وسّع دان بارون فيما بعد نموذج الحوار الذي طوره: "رواية الحكاية" Storytelling، ليتناول نزاعات عالمية. وكان مشروعه الكبير الأخير مشروع تدريبٍ على الحوار استمر لمدة ثلاث سنوات كان قد أداره مع مشاركين من قاراتٍ مختلفةٍ في مؤسسة كوربر Körber-Stiftung في مدينة هامبورغ موطن والديه. كان دان بارون عاملاً منضبطًا شديد المراس، يطلب الكثير من نفسه ومن الآخرين. لكنَّ مطلبه ذا السقف العالي كان يقترن بالتعاطف مع الوضع النفسي للآخر على الدوام. وبقدر ما كان يبدو مترفّعًا أحيانًا، بقدر ما كان مرهف الإحساس ولطيفًا. كما كان الإصغاء من أكبر قدراته.
عبر انفتاحه باهتمامٍ وسكينةٍ على الآخر، وعبر تحليلاته الدقيقة، ساهم دان بارون في تشجيع عددٍ وافرٍ من أبناء وأحفاد الحرب العالمية الثانية للبحث في تواريخ عائلاتهم. وبالكاد نجد شخصًا آخر قد تمكن من القيام بهذا القدر من العمل كما فعل دان بارون على المستوى القاعدي من أجل مناقشة الماضي الألماني، والتفاهم الفلسطيني-الإسرائيلي، ومن أجل حوارٍ بنّاءٍ متوجّهٍ صوب المستقبل.
كُرِّم دان بارون بجوائز كثيرةٍ منها وسام الاستحقاق الألماني وجائزة إريش ماريا رِمارك للسلام وجائزة ألكسندر لانغر. توفي دان بارون في الرابع من أيلول/سبتمبر متأثرًا بمرض السرطان. وعندما قال سامي عدوان في التشييع: إن هذا اليوم هو أحلك أيام حياته ظلمةً، لم يكن عدوان يبوح بمشاعره ومشاعر عائلة دان بارون وحسب، بل أيضًا بمشاعر كل الذين كانوا مقربّين منه وكل الذين عملوا معه. مات رجلٌ متميزٌ، إلا أن إرثه الفكري لا يزال يواصل الحياة.
ألكساندرا زينفت
ترجمة: يوسف حجازي
قنطرة 2008
ألكساندرا زينفت إعلامية حرة. ألّفت كتاب "السكوت موجِع. قصة عائلة ألمانية" (Schweigen tut weh. Eine deutsche Familiengeschichte) الذي صدر عام 2007 عن دار كلاسن للنشر، ونشرت مع جون بونتسل "بين معاداة السامية والإسلاموفوبيا. أحكام مسبقة وإسقاطات في أوروبا والشرق الأوسط" (Zwischen Antisemitismus und Islamophobie. Vorurteile und Projektionen in Europa und Nahost)، الذي صدر عام 2008 عن دار VSA للنشر. كما شاركت في السنوات الثلاث الماضية في العمل على نحو وثيق مع دان بارون الذي تعرفه منذ عام 1991 في برنامج الحوار الهامبورغي "رواية الحكاية في النزاعات".
قنطرة
التعايش بين الإسلام واليهودية
المتحف اليهودي في برلين نموذجا
يقدم مرشدون سياحيون مسلمون في المتحف اليهودي في برلين تجربة رائدة تتمثل في عرض مواطن التشابه بين الإسلام واليهودية من أجل توظيف هذه المعطيات في تعزيز التقارب ببن الأديان ومواجهة مظاهر الأحكام المسبقة والجهل بالآخر. كوبارانيس باناجيوتيس تطلعنا على هذه التجربة.
الأندلس
تعايش الأديان في الماضي
جامع قرطبة يدعو مارك كوهين، أستاذ في جامعة برنستن الأمريكية، المسلمين واليهود إلى إعادة اكتشاف الثقافة المشتركة التي كانت تجمعهم في العصور الوسطى. ويعرض في مقاله أسباب اختلاف تعامل المجتمع الإسلامي والمسيحي مع الأقلية اليهودية في تلك الحق.
الشرق بعيون ألمانية:
التعاون العلمي مفتاح لتواصل الحضارات
انطلاقا من أن المعرفة الإنسانية متعددة الروافد والروابط خصصت أكاديمية برلين وبراندنبورج عاما كاملا للتبادل العلمي بين أوروبا والشرق الأوسط. الفكرة تهدف إلى إظهار مدى التشابك الثقافي والعلمي الذي يربط بين الحضارتين