بين الرخاء والنبذ الاجتماعي والاضطهاد

يسلط الباحث الأميركي مارك كوهين في كتابه الصادر حديثا الضوء على أوضاع اليهود في المجتمعات الإسلامية والمسيحية في العصور الوسطى ويقدم تحليلا لسبب الاختلاف في التعامل مع هذه الأقلية في أوربا والعالم الإسلامي. مراجعة بيآته هنريشس

عانى اليهود على مر تاريخ المسيحية الأوروبية من الاضطهاد والعداء للسامية. أما في التراث الثقافي الإسلامي، وعلى مدى زمن طويل، فلم يكن الأمر كذلك، مما أدى إلى التوهم أن التعايش العربي-اليهودي خلال التاريخ الإسلامي كان يطغى عليه الانسجام الكامل. إلا أنه ثمة توهم معاكس يقول بأن اليهود ضحايا لاعتداءات مستمرة في المجتمعات العربية.

ويدحض مارك كوهين في كتابه "في ظل الصليب والهلال" عن اليهود في العصور الوسطى المسيحية والإسلامية كلا التصورين الواهمين. ويرجع وجود هذين الاعتقادين إلى أن معظم الكتّاب – طبقا لما كُتب – "كانوا متأثرين بالماضي في قراءتهم للحاضر".

أما هو – الأستاذ في دراسات الشرق الأوسط والتاريخ اليهودي في جامعة برنستون والأستاذ الزائر والباحث في القاهرة والقدس وفي معهد الدراسات المتقدمة ببرلين – فكان بحثه موضوعيا لأنه اهتم بكيفية تلقي التاريخ واستيعابه، كما أنه لم يستند في مقارناته على أمثلة فردية فقط، بل على تركيبة البنية الدينية والقانونية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.

حب ممزوج بالكراهية

ويقول في البداية إن الموضوع هنا لا يتعلق بالتسامح الاجتماعي، لأن التسامح لم يكن حسنة من حسنات المسيحية في العصور الوسطى أو من حسنات الإسلام في القرون الأولى. بل على العكس كان التسامح علامة من علامات الضعف تجاه الأقليات.

وعلاوة على ذلك كانت المسيحية القديمة في منافسة مباشرة مع اليهودية التي كانت تعيش في اطمئنان في ظل الإمبراطورية الرومانية، ومنذ ذلك الوقت كان الصراع مع اليهودية يعتبر من خصائص التعريف الذاتي للمسيحية.

هامش المجتمع

أما الإسلام فلم يعرف هذا "الحب الممزوج بالكراهية" تجاه "أهل الكتاب"، وكانت هناك إهانات بسبب فرض الجزية والأوامر الخاصة بالملابس في بعض الأماكن، إلا أن العلاقة كانت مرتبة ترتيبا تدريجيا، حيث لعب اليهود والنصارى دورا هامشيا ولكنه كان واضحا في الشريعة الإسلامية "داخل" المجتمع.

وعلاوة على هذا كان هناك كثير من الجماعات العرقية والدينية – مثل العرب والفرس والبربر والأكراد والأتراك واليهود والنصارى والزرادشت – لدرجة أن الحدود بين تلك الجماعات كانت مألوفة جدا.

عزلة ونبذ إجتماعي

وعلى العكس كان اليهود في الدين المسيحي محسوبين على أمراء منفردين، وكانت هناك قوانين خاصة تفرض على اليهود، وبناء عليها كانوا "خارج" المجتمع، وكان بإمكان الأمير إلغاء تلك القوانين في كل وقت. وكانت الخطوات الفاصلة عن نبذهم وإبعادهم من المجتمع والمذابح الجماعية وتشريدهم قصيرة نسبيا.

وأضف إلى ذلك أن المسيحية القديمة كانت لا تحبذ جمع الثروات، مما جعل اليهود مشبوهين كتجار- وكان معظمهم كذلك. وعندما بدأ التجار النصارى في الظهور بازدياد، كانوا ينظرون إلى اليهود نظرة المنافسين. وبهذا كان الوضع الأمني لليهود يتدهور في زمن الرخاء الاقتصادي. أما في ظل الحكم الإسلامي فقد كان الرخاء والأمن بين اليهود يعكس وضع المجتمع كله.

فقد كان المسلمون تجارا من قديم الزمان، وقد تزوج نبيهم أرملة أحد التجار، وازدهرت المدن الإسلامية، حتى أن اليهود– وكان أغلبهم يسكنون المدن – لم يلفتوا الأنظار. ذلك وكانت وسط أوروبا في العصور الوسطى ذات طابع زراعي كبير، ولهذا كانوا ينظرون إلى سكان المدن نظرة تحفظية.

في المجتمع الإسلامي ايضا

كان اليهود مضطهدين في الإسلام أيضا، إلا أن ذلك لم يكن بنفس درجة اضطهاد مسيحية العصور الوسطى لليهود، حيث أن المؤرخين – ابتداء من القرن الثاني عشر على وجه الخصوص – وصفوها بـ"مجتمع الاضطهاد". وكان اضطهاد اليهود في الحضارة الإسلامية ليس لكونهم "يهود"، بل لكونهم أقلية مثل بقية الأقليات الأخرى (وفي الغالب أقل من المسيحية).

لقد وجد مارك كوهين أدلة على اختلاف مكانة اليهود في تاريخ الأدب أيضا، ففي ذاكرة اليهود المدونة تاريخيا يوجد العديد من شواهد المحن في مسيحية العصور الوسطى. وهذه طريقة منتشرة بين الذين نجوا من الهولوكوست ويعيشون في أوروبا. وطريقة تدوين التاريخ تلك لا تكاد تعرفها البلاد الإسلامية.

وينبغي على المرء أن يتحاشى اعتبار معلومات كوهين على أنها رسالة سياسية للعصر الحاضر، كما أن الظروف المختلفة التي كانت تعيشها الأقلية اليهودية – الأمان النسبي أو الاضطهاد - جديرة بالاهتمام.

أسئلة المستقبل

إن العداء للسامية منتشر اليوم بين المسلمين انتشارا واسعا. والخلفيات التاريخية قد تمكننا من الإجابة على الأسئلة الآتية: هل كان هذا العداء للسامية حالة دائمة؟ وهل يمكن لمتغيرات سياسية أن تخفف من حدة هذا العداء كالوصول إلى حل سياسي لأزمة الشرق الأوسط، لأن العيش في تسامح محفور في الذاكرة التاريخية؟

بيآته هنريشس
ترجمة عبد اللطيف شعيب
حقوق الطبع قنطرة 2005

مارك كوهين، في ظل الصليب والهلال: اليهود في العصور الوسطى، دار نشر بيك، ميونيخ مارس/آذار 2005

قنطرة
تعايش الأديان في الماضي
يدعو مارك كوهين، أستاذ في جامعة برنستن الأمريكية، المسلمين واليهود إلى إعادة اكتشاف الثقافة المشتركة التي كانت تجمعهم في العصور الوسطى. ويعرض في مقاله أسباب اختلاف تعامل المجتمع الإسلامي والمسيحي مع الأقلية اليهودية في تلك الحقبة

اليهود والمسيحيون والمسلمون بين الصراع والتفاهم
إصدار جديد يتناول فكرة التسامح الديني في العصور وبعض الشخصيات الأوربية التي دخلت في حوار جدي مع فقهاء مسلمين. مراجعة كريستيان هاوك