"الإيرانيون الأفارقة"...الأقلية المنسية جنوبي بلاد فارس
يمثِّل مزيج الشعوب المتعدِّدة في إيران نتيجة مباشرة لتقلُّبات التاريخ في بلاد فارس. من بين المجموعات العرقية المنتشرة في إيران على مساحة تبلغ أربعة أضعاف ونصف ضعف مساحة ألمانيا توجد في الجنوب أقلية عرقية غير معروفة كثيرًا: هي جالية الإيرانيين الأفارقة.
الإيرانيون ذوو الأصل الأفريقي ينحدرون في الغالب من أبناء العبيد، الذين كان يتم استخدامهم في بلاد فارس على مدى قرون من الزمن، وينحدرون أيضًا من البحَّارة والحرفيين. واليوم يحملون أسماء إيرانية ويعيشون في كلّ من محافظة هرمزكان وسيستان وبلوشستان وخوزستان وكذلك في مدينتي بندر عباس وعبادان الساحليتين - والبعض منهم مختلطون مع غيرهم من سكَّان الخليج، وكذلك يعيش بعضهم ضمن مجتمعاتهم الخاصة.
التقى المصوِّر الألماني الإيراني مهدي إحسائي للمرة الأولى بإيرانيين من أصل أفريقي في مدينة شيراز، مسقط رأس والده. وفي مباراة لكرة القدم بين نادي "برق شيراز" ونادي "آلومينيوم هرمزگان" قام بتصوير مجموعة من المشجِّعين، الذين كانوا يهتفون بحماس لفريقهم الكروي على مزيج من قرع الطبول الإيرانية والأفريقية. وقد أثار ذلك فضوله.
وفي صيف عام 2014 سافر مهدي إحسائي من أجل مشروع تصوير استغرق شهرين إلى الإيرانيين الأفارقة في بلاد فارس. أمَّا الصور التي التقطها فقد صدرت العام الماضي 2015 في كتاب مصوَّر يحمل عنوان: الإيرانيون الأفارقة Afro-Iran. وفي صوره الفوتوغرافية يعرض مهدي إحسائي هؤلاء الإيرانيين الأفارقة البندريين (أهالي الخليج) في بيئاتهم المباشرة - في الأسواق وأمام سيَّاراتهم وفي طريقهم إلى المدرسة. وموضوعاته تصوِّر أشخاصًا من جميع الفئات العمرية: من ربَّات البيوت والأطفال الرُضَّع وكذلك من الصغار والكبار.
صور لأشخاص إيرانيين
وصور مهدي إحسائي لا تبدو مُصطنعة أو أنَّها مُلتقطة لتظهر غريبة. وكثيرًا ما تكون الآثار الأفريقية عند هؤلاء الأشخاصا المُصَوَّرين ضئيلة للغاية، بحيث أنَّ المشاهد يتساءل بماذا يختلف المجتمع الإيراني الأفريقي في الواقع عن باقي البندريين (أهالي الخليج). وفي الحقيقة إنَّ عيون الأطفال ووضعيات الأشخاص المُصَوَّرين بحدِّ ذاتها تتميَّز بشيء إيراني لا يمكن إغفاله، مثلما يكتب مؤسِّس ورئيس تحرير المجلة الإلكترونية ري أورينت Reorient، جوبين بخراد في مقدِّمته لكتاب "الإيرانين الأفارقة". حيث يشير إلى أنَّ صور مهدي إحسائي تعتبر ببساطة صورًا شخصية لأشخاص إيرانيين.
"لا يوجد اختلاف واضح في ثقافة الإيرانيين الأفارقة عن بقية سكَّان الخليج. بل إنَّ وجود الإيرانيين الأفارقة في "الخليج الفارسي" قد أثَّر بمجمل ثقافة البندريين"، مثلما يقول مهدي إحسائي. ولنأخذ على سبيل المثال المراثي والأغاني الحزينة في مواكب عاشوراء التي تقام في مدينة بندر عباس إحياءً لذكرى استشهاد الإمام الحسين وغالبًا ما تكون بإيقاعات أفريقية. ولكن أيضًا لا تزال تتم ممارسة تقاليد مستوردة من أفريقيا مثل تقليد "الزار"، وهو عبارة عن طقوس شعبية لطرد الأرواح الشريرة، لا تزال تتم ممارسته حتى يومنا هذا ويحضره الإيرانيون عامة.
ومن المُلاحظ أيضًا في صور مهدي إحسائي أنَّ هذا المصوِّر قد تمكَّن من بناء علاقة ثقة مع الناس المُصوَّرين. يصف ذلك مهدي إحسائي بقوله: "كان الأمر يستغرق بعض الوقت حتى التمكّن من الدخول في حوار، وخاصة مع النساء في المجتمع. ولكن مع ذلك سرعان ما كان الناس يغمرونني بكرم ضيافتهم".
وبعد سؤاله إن كان هناك لقاءٌ مفضَّل، روى مهدي إحسائي قصة تكمن خلفها صورة الصبي الصغير ذي الشعر المجعَّد قليلاً، والذي توقَّف لحظةً أثناء اللعب على شاطئ بندر عباس، وكان يتَّكئ على عصا، وينظر بخجل إلى الكاميرا. وحول هذه الصورة يقول مهدي إحسائي: "ما يعجبني في هذه الصورة هو العاطفة التي تنبعث منها. وهذا الصبي الصغير لا يعلم أنَّه يلعب هناك بالضبط حيث كان لا بدّ لأسلافه قبل بضعة قرون من الزمن أن يجدوا موطئ قدم لهم".
تجارة العبيد في بلاد فارس
يمتد تاريخ العبيد في بلاد فارس إلى زمن ما قبل وصول الإسلام هناك. ولكن مع ذلك فقد حصلت تجارة العبيد على بُعْدٍ اقتصادي مهم فقط منذ القرن السادس عشر، وذلك بعدما ازدادت النشاطات التجارية الأوروبية زيادة كبيرة هناك. ومع إنشاء الطرق البحرية الجديدة تحوَّلت مدينة بندر عباس إلى ميناء مهم. وقد أدَّت زيادة حجم التداول التجاري بدورها إلى ارتفاع الطلب على اليدّ العاملة والعبيد.
لقد وصل معظم العبيد بلاد فارس في عهد القاجاريين في القرن التاسع عشر. وفي بلاد فارس اعتنق العبيد الإسلام وتحوَّلوا بسرعة إلى جزء من السكَّان المحليين. وفي عهد القاجاريين كان العبيد يعملون في جميع أنحاء الدولة - في مواقع البناء وفي القصور أو كخدم في المنازل. وفي الصور الفوتوغرافية التي تعود لهذه الحقبة يظهرون في كلِّ مكان، وكثيرًا ما يظهرون في شكل أتباع مطيعين، مثلاً كخدم يعملون في منزل أسرة إيرانية نبيلة.
ليسوا من الممتلكات بل من البشر
لكن مع ذلك وبالتوافق مع التقاليد الإسلامية لم يكن يتم التعامل مع العبيد في إيران باعتبارهم من ممتلكات ومتاع مالكهم وتجريدهم من سماتهم البشرية - مثلما كانت الحال مع العبيد في أمريكا الشمالية، بل كان يُنظر إليهم في إيران على أنَّهم بشر لديهم حقوق. ومن بين هذه الحقوق تأمين الغذاء والملابس المناسبة لهم، تمامًا مثل ضمان التعليم المهني وحقوق الإرث.
لقد تقرر إلغاء الرق والعبودية في إيران مع الثورة الدستورية في عام 1906، ولكن لقد تم تنفيذ هذا القرار فقط في عام 1928 في عهد الأسرة البهلويية. وبعد تحريرهم استقر معظم الإيرانيين الأفارقة في "الخليج الفارسي". وبعد عدة أجيال أصبحوا جزءًا لا يتجزَّأ من ثقافة البندريين. وفي هذا الصدد يقول مهدي إحسائي: "خلال الشهرين اللذين قضيتهما مع الإيرانيين الأفارقة لم أشاهد أي نوع من التمييز. وبالنسبة لي كان من المدهش أنَّ شعورهم بالاختلاف لم يعد يبدو له اليوم أي وجود تقريبًا".
وفي أجزاء أخرى من إيران لا يكاد يعرف الكثيرون من الإيرانيين تاريخ الإيرانيين الأفارقة. وفي التأريخ الإيراني ككلّ يحتل الإيرانيون الأفارقة مكانًا هامشيًا. وكذلك لا يوجد سوى القليل من نقاط الاتصال بين غالبية الإيرانيين والإيرانيين الأفارقة، بصرف النظر عن موسيقى البندريين الشعبية، التي تختلط فيها الإيقاعات الأفريقية مع الألحان والأنغام الفارسية. وفي المقابل نادرًا ما يشاهد الإيرانيون الأفارقة في الأفلام السينمائية.
وحتى من بين العلماء والمصوِّرين لم يكن يوجد حتى وقت قريب سوى عدد قليل من المهتمين في تراث إيران الأفريقي. ولكن يبدو أنَّ ذلك بات يتغيَّر بشكل تدريجي. وعلى أية حال فإنَّ مشروع صور المصوِّر مهدي إحسائي بدأ في سدّ بعض هذه الثغرات.
ماريان بريمر
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2016
كتاب "الإيرانيون الأفارقة" Afro-Iran لمؤلفه مهدي إحسائي، صدر عن دار نشر كيرير فرلاغ باللغة الألمانية، سنة 2015، في 96 صفحة، وباللغتين الإنكليزية والفارسية، تحت رقم الإيداع:
ISBN: 978-3-86828-655-7