اهتمام عربي باهت
زلزال وفيضان تسونامي الذي ضرب أندونيسيا، وسيرلانكا، والهند، وتايلند، والذي دخل التاريخ بكونه الأسوأ والأبشع من نوعه تعجز الكلمات عن وصف هول الكارثة وضخامة عدد الضحايا الأبرياء، وحجم الخسارة، وسرعة حدوثه، وما نتج عنه هو أمر مذهل بكل المقاييس. كل ذلك يطرق أدمغتنا، مرة أخرى، بأسئلة من النوع الصعب:
لماذا، وما الحكمة من تعذيب ملايين الفقراء وزيادة فقرهم فقراً وتعاستهم تعاسة. لكن الأهم من الأسئلة التي تصيبنا بالشلل التام هو التساؤل حول إمكانيتنا البشرية على مواجهة مثل هكذا كارثة، وترويض هذه الطبيعة المتوحشة التي قد تضرب في أي لحظة من دون سابق إنذار.
ولصيقاً بذلك التساؤل ثمة جانب فيه إشراق تجسد في حس التضامن الإنساني العظيم الذي لف الكرة الأرضية لمؤازرة المنكوبين في تلك الرقاع الحزينة من العالم. وفي هذا الجانب هناك آلاف المنظمات الإنسانية في طول وعرض العالم تتسابق الآن لتقديم كسرة خبز، أو لحاف دفء، أو قارورة دواء، لمئات الآلاف من المكلومين، الذين صاروا في غضون عشر دقائق فقط من سعار الطبيعة أيتاماً، وأرامل، ومنكوبين، بلا مأوى، أو أمل، أو صدر حنون اعتادوا أن يأنسوا إليه.
في طول وعرض العالم تجمع التبرعات على أعلى وأدنى مستوى، والشعار هو أن أقل القليل يمكنه أن يفعل الكثير هناك.
مساعدات غربية
في الدول الغربية، وأتيح لي أن أراقب عن كثب ما يحدث في بريطانيا وألمانيا، هناك جهود إنسانية عظيمة على مستوى شعبي، وبعيداً عن الحكومات وتسيسها وحساباتها، تجمع ملايين التبرعات. وهناك مئات إن لم يكن آلاف المتطوعين إما ذهبوا أو في طريق ذهابهم إلى هناك لتقديم المساعدة. لا ينظر أحد إلى لون أو جنسية أو دين الضحايا والمنكوبين، وهو ما يجب، لأن عمق المأساة تجعل من أي تصنيف على تلك القواعد يفيض بالقبح والبشاعة واللاإنسانية.
بموازاة ذلك، علينا أن نسجل أن التغطية الإعلامية الغربية للكارثة، وخاصة على شاشات المحطات الكبرى مثل السي أن أن، والبي بي سي وورلد، وسكاي نيوز كانت بمستوى الحدث وجعلت منه ليس فقط العنوان الرئيس للأسبوع التالي ولحد الآن بل وغطته على مدار الأربع وعشرين ساعة.
وخلال أسبوع يفترض أن يكون ذلك الإعلام مشغولاً بتغطية رأس السنة الجديدة وما تحمله عادة من مراجعة لملفات سابقة خلال العام المنصرم، أو تغطيات خفيفة تناسب أجواء الاحتفالات السنوية، كانت شاشات تلك المحطات مخصصة بشبه يكاد يكون كاملاً لمتابعة تفاصيل الكارثة.
بل والأكثر من ذلك انخرطت تلك المحطات في الحملة العالمية لجمع التبرعات وكانت أرقام هواتف الجمعيات والمنظمات الإنسانية التي تستقبل التبرعات من قبل الجمهور تظهرعلى شريط الأخبار الدائم على الشاشة طوال الأربع وعشرين ساعة. كما أفردت صفحات على المواقع الإلكترونية لتلك المحطات لعناوين وتفاصيل الحسابات البنكية لتلك المنظمات (أكثر من ثلاثين منظمة مستقبلة للتبرعات على موقع السي أن أن وحدها).
مشاعر إنسانية
من الصين إلى افريقيا إلى اوروبا إلى الأمريكيتين هناك اهتمام ومتابعة يومية ولحظية لجهود الإنقاذ والتبرع وإعادة التعمير. واحد من الأمثلة الصغيرة ذات الدلالة الكبيرة هو تبرع قرية بيسلان الشيشانية التي تعرضت لمجزرة فادحة في إحدى مدارسها الابتدائية ذهب ضحيتها أطفال أبرياء في العام الماضي بتبرعات تزيد على الثلاثين ألف دولار. كأن أهالي تلك القرية يريدون القول إننا نشعر في عمق أحاسيسنا معنى أن يفقد الناس طفلاً بريئاً في لمح البصر.
ليس أجمل من تسامي الضحايا عن جراحهم عندما يعصف جرح جديد بضحايا جدد. في ذلك يتمثل جوهر وجودنا الإنساني وتضامننا البيني كبشر.
مقابل ذلك كله هناك اهتمام عربي باهت بالكارثة، وتضامن يكاد يكون صفرا على المستوى الشعبي. إعلامنا أعطاها حيزاً متواضعاً لا يليق بها، وأرسل لها الحد الأدنى من المراسلين الميدانيين، وكأنها تحدث على كوكب آخر. فضائياتنا الأهم غرقت في تفاصيل ملفات العام الماضي، وراجعت تفاصيل العلاقات السورية اللبنانية، وكل جعجعات القاعدة، وظلمت من ماتوا ومن خلفوا وراءهم في تلك الكارثة.
كيف يمكن لنا أن ننافس عالمية السي أن أن بإعلام غارق لأذنيه في المحلية والخصوصية، وعندما يحدث شيء ما على مستوى إنساني ويُوصف بأنه الأسوأ من نوعه في تاريخ البشرية، وأن عملية الإنقاذ والإغاثة هي الأوسع والأعمق والأكثر احتياجاً للتضامن والدعم، يتلعثم هذا الإعلام في التعامل معها؟
هل المسلمون أولى بالتبرعات؟
ومقابل ذلك كله أيضاً كان وما زال عدد الجمعيات الخيرية العربية والإسلامية التي نهضت للمساعدة والإغاثة وتنظيم حملات التبرع في الحد الأدنى. والمقولة التي تسمعها بهمس أحياناً وبوقاحة صريحة أحياناً أخرى تقول إن هؤلاء غير مسلمين وأن المسلمين أولى بالتبرع!
إنها عنصرية جديدة منسوبة لعمل الخير، تريد أن تحرم الفقير غير المسلم، أو الغارق غير المسلم من يد العون، تعاقبه على شيء لم يكن له قرار فيه. بل والأسوأ من ذلك ما تردد عن بعض خطباء الجمعة من أن ما حدث هو تعبير عن غضب السماء على أولئك القوم، وفي ذلك قدر خسيس من التشفي.
أي قوم وأي غضب ولماذا؟ وإذا كان وراء كل كارثة طبيعية غضب سماوي فهل معنى ذلك أن أهل إيران والجزائر وبنغلاديش وباكستان وتركيا التي ضربتها كوارث زلازل أو فيضانات في السنوات القليلة الماضية استجلبوا عليهم غضب السماء لأنهم يستحقون ذلك الغضب؟
وهل بقية أهل بلاد المسلمين هم على أكمل وجه ولا يستحقون غضباً مماثلاً؟ وإن كان ذلك المنطق المعوج صحيحاً فإنه يعني أن شعوب الولايات المتحدة وأوروبا هم الأكثر تمتعاً برضا الله لأنهم الأقل تضرراً من الكوارث الطبيعية! ذلك المنطق السقيم لا يعمل إلا على تجليد مشاعرنا الإنسانية وعنصرتها وقذفنا إلى درك جديد من الانحطاط.
عندما تصل قوافل الإغاثة الإسلامية إلى مناطق البوذيين في سيرلانكا، ويصل الدواء الإسلامي المغيث إلى مناطق الهندوس والسيخ المكلومين تماماً كما يصل إلى مناطق المسلمين في أي منطقة منكوبة في العالم عندها نتصالح مع جوهرنا الإنساني. ولا يعفينا في هذا السياق كوننا ضحايا لنوع آخر من الجرائم، سياسية واستعمارية وغيرها.
ولنتأمل فقط في روعة أن نشاهد مثلاً على شاشات التلفزة قافلة إغاثة فلسطينية حملها الفلسطينيون بما يستطيعون التبرع به للمساعدة في إغاثة إخوانهم في الجرح الإنساني هناك. ما زال بالإمكان عمل ذلك، وليس لنا إلا أن نأمل!
بقلم خالد حروب
حقوق الطبع حالد حروب 2004