تفكّيك أسطورة سيّد قطب

الكاتبة ، الكاتب: نجاة علي

لا يزال سيد قطب (1906 – 1966) من الشخصيات المثيرة للجدل والالتباس لدى الكثيرين. فحين تتأمل حياة الرجل وكتاباته ومواقفه الحادة المتقلّبة والآراء التي كُتِبت عنه، تشعر أنك إزاء أسطورة وليس مجرد كاتب عادي، أسطورة شارك في صنعها الجميع: مريدو الرجل وأعداؤه على حدّ سواء.

ولعلّي لا أجد هنا وصفاً دقيقاً لحالة سيد قطب سوى عبارة نجيب محفوظ عن شخصية الإخواني عبد الوهاب إسماعيل في رواية «المرايا»: «إنه اليوم أسطورة وكالأسطورة تختلف فيه التفاسير».

وأظنني شعرت بشيء من الفرح حين قرأت كتاب «سيد قطب: سيرة التحولات»، (دار الكرمة) للباحث والصحافي المصري حلمي النمنم، وأعتقد أنه سيكون مرجعاً مهماً، خصوصاً للمهتمين بدراسة «الحركات الإسلامية». يحاول النمنم بدأب واضح، تفكيك أسطورة سيد قطب؛ «الناقد الأدبي»، و«المفكر الإسلامي» - من وجهة نظر بعضهم – عبر إعادة قراءة سيرته من منظور بحثي وتاريخي، مستنداً في ذلك الى كتابات قطب ومواقفه، إلى جانب العديد من الوثائق النادرة التي سيُفاجأ بها القارئ.

وليست هذه المرة الأولى التي يصدر فيها حلمي النمنم كتاباً عن سيد قطب، فسبق أن أصدر كتاباً عنوانه «سيد قطب وثورة يوليو»، في القاهرة عام 2010.

ومن يقرأ مقالات سيد قطب في فترة صعود نجم «الضباط الأحرار» إلى الحكم في مصر في 1952، ستصيبه الدهشة الكبيرة من تطرّفه في دعمهم إلى درجة لا تدانيها، في فترة لاحقة، إلا حدته وتطرّفه في معاداتهم. بدا سيد قطب متحمساً للضباط الأحرار وصارخاً فيهم أن يزيحوا كل من يقف في طريقهم، حتى أنه مثلاً بعد خروج الملك فاروق نهائياً من مصر وطرد حاشيته، راح فريق من السياسيين ورجال الأحزاب يتحدثون عن عودة الضباط إلى ثكناتهم، وأن يتركوا الأمور للبرلمان والأحزاب وتفعيل دستور23، فإذا بسيد قطب يكتب مقالاً نارياً في عدد 8 آب (أغسطس) 1952، بعنوان: «استجواب إلى البطل محمد نجيب»، راح ينتقد فيه نجيب ورفاقه ويتهمهم بأنهم اكتفوا بخلع الملك عن العرش، وأنهم يؤثرون الانسحاب والعودة إلى الثكنات. لكن بعد أن فشل سيد قطب في الوصول إلى غرضه من «الضباط الأحرار»، وتأكّد تماماً ألا مستقبل له معهم، انقلب عليهم وانتقل من تسويق «الثورة» إلى التبشير بحلم «الخلافة»، والتفكير في اغتيال جمال عبد الناصر.

كان سيد قطب ناقداً واعداً ثم انقلب على النقد، وكان ماسونياً متحمساً، ثم أصبح إسلامياً تكفيرياً على طول الخط، وكان يكره حسن البنا ويمقته حتى أطلق عليه حسن الصباح (زعيم الحشاشين)، ثم يعود ليصفه بالعبقري. وكان مفتوناً بطه حسين ويريد أن يصير مثله، ثم انقلب عليه واتهمه بأنه «تلميذ المستشرقين الكاره للإسلام».

وفي أحد فصول الكتاب ينفي النمنم، باستشهادات كثيرة من كتب سيد قطب نفسه، ما يشاع عن أنه كان صاحب أفكار جديدة أو باحثاً جيداً. فكتب سيد قطب - بحسب النمنم - هي إعادة كتابة لأفكار الآخرين، حتى أن صفحات كتبه كلّها مليئة بالنقل المطوّل عنهم، ما يعني تراجع «الأمانة العلمية» لديه إلى أقصى حد، وهو الأمر الذي يرى الكاتب أنه يدخل في باب «السرقات العلمية». ففي معظم كتبه، سنجد أنه مثلاً، لا يذهب إلى المصادر الأولى في الموضوع الذي يتناوله، وأحياناً يكون اعتماده على مرجع ثانوي أو كتاب بعينه يستند إليه استناداً كليا وينقل عنه صفحات مطوّلة، يحدث هذا في المواضيع التي يجب أن يلجأ فيها إلى مصادر عربية وإسلامية أو مصادر إسلامية. ويتوقف النمنم أمام عدد كبير من كتب سيد قطب مثل: «نحو مجتمع إسلامي»، و«المستقبل لهذا الدين»، و«العدالة الاجتماعية في الإسلام»، و«خصائص التصور الإسلامي» ليدلّل على رأيه، ويشير إلى ذلك الكم المطول من الاقتباسات عن بعض الكتب المترجمة من دون أن يرجع حتى إلى المصادر والمراجع الأجنبية مباشرة، فلم يكن سيد قطب يقرأ بغير العربية وظل كذلك حتى بعد رحلته الطويلة إلى الولايات المتحدة الأميركية. وهو ما يعكس كسلاً ثقافياً لديه، إذ نراه يعتمد، حتى في الكتب المترجمة، على كتب عدة قد لا تبلغ أصابع اليد الواحدة. وهو اعتمد إلى حدّ بعيد على ثلاثة كتب، هي: «الدعوة إلى الإسلام»، لمؤلفه ألسير توماس أرنولد، الذي عمل أستاذاً لبعض الوقت في الجامعة المصرية، و«الإنسان ذلك المجهول»، ثم كتاب أبو الحسن الندوي «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟».

وينبغي القول إن الفترة التي كان ينقل فيها سيد قطب من هذه الكتب، شهدت نشاطاً لحركة الترجمة، بخاصة الكتب التي تتناول تاريخ الفكر والفلسفة الأوروبيين. والمشكلة تبدو أفدح في حالة المصادر العربية والإسلامية، التي كانت متاحة باللغة العربية، لكن سيد قطب خاصمها ولم يجهد نفسه بالرجوع إلا إلى عدد محدود منها. وما نخرج به من هذا كله، أننا أمام كاتب يلقي بثقله في الإسلاميات من دون أن يكون ملماًٍ بالتراث والفكر العربي والإسلامي، الإلمام المعرفي والفقهي.

ومن الأمور المهمة التي يتوقّف عندها النمنم، العلاقة الغامضة والمثيرة للالتباس بين سيد قطب وحسن البنا؛ إذ يتّضح في عدد من المواقف، أن الودّ كان مفقوداً في هذه العلاقة. فعلى المستوى الثقافي والفكري ومن خلال مراجعة مؤلفات سيد قطب نفسه - حتى بعد التحاقه بالجماعة في منتصف 1953- لا نجد أي حضور لحسن البنا ولا لأقواله أو أفكاره، وهو أمر مثير للتساؤل، خصوصاً مع كاتب انتمى فعلياً إلى جماعة الإخوان الذين يتعاملون مع مقولات حسن البنا باعتبارها مرجعية ذات قدسية خاصة.

وعلى الجانب الآخر، ومن خلال رصد النمنم بعض المواقف التي تدلّل على افتقاد الود بين سيد قطب وحسن البنا، هو رأي البنا نفسه في سيد قطب والذي كان سلبياً تماماً، فهو لا يعدو أن يكون في نظره «مجرد شاب يريد أن يلفت الأنظار إليه».