أتاتورك في كتاب سيرة جديد
"أنا تركيا. أن يريد أحد القضاء علي تعني أن يريد القضاء على تركيا . تركيا لا تتنفس إلا من خلالي، وأنا لا أحيا إلا من خلالها(...) سأقود شعبي ممسكا بيده حتى تثبت خطواته وحتى يهتدي إلى طريقه . عندها سيكون بإمكانه انتخاب رئيسه بكل حرية وأن يحكم نفسه بنفسه."
من خطاب أمام المجلس الوطني في 8 أغسطس 1926
تاريخ حافل
لدى وفاته سنة 1938، كان مصطفى كمال، الذي سمى نفسه "أتاتورك"، أي أبو الأتراك، قد تجاوز حجمه الطبيعي، ووراءه رصيد حقيقي من إنجازات جبارة . كانت سنوات حياته الست والخمسين عبارة عن سلسلة من الأعمال التاريخية كل واحد منها من الخطورة بمكان بحيث كان يمكنها أن تؤدي به إلى الهلاك . الكثير من تلك الأعمال يظل غير معروف إلا بصفة غائمة، والكثير من الشعارات من نوع أتاتورك مؤسس الدولة، والمصلح، والرمز تفتقر في أغلب الأحيان إلى القاعدة التاريخية التي ترتكز عليها.
أتاتورك مرئيا ومكتوبا
وها هو الآن الصحفي السينمائي خليل غولبياز الذي سبق له أن صور شريطًا وثائقيًّا حول نفس الموضوع ، يقدم بكتابه "كمال أتاتورك، من مؤسس الدولة إلى الأسطورة "(عن دار Parthas Verlag) سيرة مشوقة عن هذه الشخصية ذات الطابع المزدوج، ويضع إنجازاتها داخل إطار محيطها التاريخي: الوضع المتردي للإمبراطورية العثمانية وتحولات بداية القرن العشرين.
منقذ إسطنبول
منذ الحرب العالمية الأولى استطاع مصطفى كمال الذي دافع عن مضيق الدردنيل في معركة غاليبولي الشهيرة وتحول "منقذ إسطنبول" على إثر ذلك إلى أسطورة . القائد العسكري الذي شارك على مضض في وقائع الحرب قد بدت له معاهدة سيفر(Sevre) التي كانت تعني عمليا تقسيما كليا لتركيا بين قوى التحالف المنتصرة أمرا لا يمكن القبول به .
تحديث تركيا
وبعد أن حقق انفصاله التدريجي عن حكومة اسطنبول وتأسيس مركز ثان للسلطة في أنقرة كي يتوصل بالنهاية إلى الإمساك بزمام السلطة غدا بإمكانه أن يضمن الحرمة الترابية لتركيا وأن يفرض استقلالها في معاهدة لوزان. وقد مضى الإلغاء النهائي لحكم السلطنة الذي لا يقل في شيء عن فصل للدولة عن الدين قدما بقدم مع جملة من الإصلاحات الجريئة التي غالبا ما عمد إلى فرضها ضد أنف مقاومة القوى المحافظة الشعبية. إلغاء اللباس العثماني التقليدي والحملة الشاملة للقضاء على الأمية واعتماد الحرف اللاتيني ليست سوى بعض من الأمثلة التي عبرت إرادة التحديث لدى أتاتورك عن نفسها من خلالها.
جوانب أخرى من حياة أتاتورك
إلى جانب السرد الدقيق لكل هذه الوقائع يسلط غولبياز الأضواء على جانب آخر من شخصية أتاتورك المنغمس في الملذات والذي يُعرف عنه منذ سنوات المدرسة الحربية ولعه بأحياء الحانات والمواخير، والذي ظل كرئيس للوزراء لا يولي اعتبارا لنواميس المواضعات الاجتماعية، فقد أحاط رئيس الدولة نفسه بمجموعة من النساء العصريات الواعيات وسنَّ، من بين الأوائل في أوروبا، حق المرأة في الانتخاب.
تحديث بالقوة
الوجه الثاني للعملة بالنسبة لهذه الطموحات التحديثية يظهر في الطريقة العنيفة المرعبة التي تم فرضها بها، في التعامل مع الأقلّيات القوميّة والعقائديّة على سبيل المثال: وممَا يسجل على أتاتورك مثلا القمع الدمويّ الذي واجه به الانتفاضة الكردية في درسيم والذي كانت حصيلته عشرات الآلاف من القتلى ومن بينهم الكثير من المدنيين. وعندما رأى حزب المعارضة المؤسّس حديثا يحصل على الأغلبية أثناء تجربة التعددية الحزبية الأولى التي قام بها على سبيل الاختبار استغل فرصة محاولة اغتيال ليتخذها تعلة للقيام بحملة اعتقالات وإصدار أحكام بالإعدام على المعارضين ورفاق نضال قدامى.
بلاغة القائد
كما أن الأسلوب اللغوي لأتاتورك وطرق محاججته –خاصة في خطبه الماراثونية الطويلة "Söylev" التي تمتد على أيام متواصلة- ولازمة "كل هذا الذي يحدث خدمة لمصلحة الشعب"، تُذكِّر كلها ببلاغة الدكتاتوريين من ذوي السمعة السيئة. وبطبيعة الحال هناك دوما مبرر الوضع الخاص الذي لا بد من أخذه بعين الاعتبار: الحرص على حماية دولة محاصرة من كل الجهات. وعلى عكس ما جرى عليه الكثير من حكام الاستبداد قابل أتاتورك جميع مطامح القوى العظمى بعدم الاستجابة نهائيا، وظل محافظا على موقف حيادي صارم خلال الحرب العالمية الثانية.
ضمن هذا الوصف المشوق للأحداث التاريخية كان من المحبذ لو أنه تم بين الحين والآخر إدماج بعض المقاطع ذات طابع تحليلي وأكثر محايدة يمكن من خلالها اسشفاف مغزى ما للحاضر التركي. والفصل الأخير الأكثر تشويقا والقصير جدا يبين ما الذي كان بالإمكان إنجازه. كما أن القارئ يظل في غمرة سرد كل تلك الأعمال الكبرى متشوقا لمزيد من معلومات شخصية، ولمعاينات من صنف شهادات العيان المباشرة التي من شأنها أن تيسِّر مزيدا من إدراك وفهم حقيقة هذا الرجل الذي نشأ دون أب ليغدو "أب كل الأتراك" الذي يتوخى أمام المسؤوليّات الجسيمة طريقة الهروب داخل التجنيح فوق الواقع والتبدلات الحياتية المنفلتة من كل القيود، جنوح انتهى بأن غدا هو نفسه ضحية له.
منهاج مغاير
إن المزيّة الكبرى لهذا العمل البيوغرافي الذي أنجزه غولبياز يكمن في كونه تخلى عن النهج المدائحي المتداول في جل الدراسات المونوغرافية، واختار أن يستقي من ركام المواد الموجودة داخل المجلات وكتب المذكِّرات والخطب مراجعه التي اختارها بطريقة ذكية ونزيهة كي يتسنى له إعادة صياغة قصة حياة هذه الشخصية الخارجة عن المعهود. وفي هذا الظرف الذي تتعدد فيه التصريحات بالآراء المتسرعة حول قابلية الاندماج في مجموعة الوحدة الأوروبية أو عدم تهيؤ تركيا للديمقراطية، ستكون المعرفة بالتاريخ القريب لتركيا ذات فائدة. وكتاب خليل غولبياز يقدم إسهاما في هذا المجال.
بقلم أمين فارزانفار
ترجمة علي مصباح