ماذا يحصل حين يدرّس الشيخ في كلية إنجيلية ويُعلّم القسّ المسيحية للأزهريين؟
ي ظل الحذر السائد بين المسيحيين والمسلمين وقيام كل فريق بدراسة تاريخ ومعتقدات الآخر وفق رؤيته الخاصة بدون إعطائه المجال لعرض آرائه وقناعاته، يصعب إحداث تقارب بين أبناء الديانتين.
ولكن تجارب جديدة مثل تدريس قس المسيحية لطلاب الأزهر وتدريس أستاذ مسلم مادة "الحوار الإسلامي المسيحي" في كلية اللاهوت الإنجيلية تستطيع تغيير الكثير.
"التباعد والتمييز الاجتماعي في العصر الحديث بين المسلمين والمسيحيين يغذّيه نظام التعليم المصري الذي يفرّق بين الطلاب في أماكن التدريس داخل حصص التربية الدينية، فيبقى الطلاب المسلمون في الفصل بينما يخرج المسيحيون إلى حوش المدرسة وكأنهم أقل حقوقاً"، يقول لرصيف22 إسحق إبراهيم، مسؤول ملف حرية الدين والمعتقد في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية.
ويضيف أن المناهج الدراسية خلقت نوعاً من التمييز، إذ يجري تصوير القيم الإنسانية وكأنها تخرج من الإسلام فقط، وتشرح كتب التاريخ الإسلامي فقط دون التطرّق إلى التاريخ المسيحي، "وهذا يخلق التربة الخصبة لتطرف ينعكس في التعاملات في ما بعد، على شكل تعصب وإرهاب. لذا نحتاج إلى إرادة سياسية ترى أهمية دور التعليم في تحقيق السلم الاجتماعى واحترام حقوق الإنسان".
قسّ يدرّس المسيحية للمسلمين
مصادفة بحتة قادته إلى خوض تجربة فريدة من نوعها في مصر. وجد قس مسيحي نفسه يدرّس المسيحية لمسلمين من خريجي الأزهر وآئمته ودعاته. هذا ما حصل مع الدكتور القس إكرام لمعي، أستاذ مقارنة الأديان في كليات اللاهوت الإنجيلية والفرنسيسكان، ورئيس مجلس الإعلام والنشر بالكنيسة الإنجيلية بمصر.
يروي لمعي لرصيف22 قصة المصادفة التي قادته ليكون أستاذاً في جامعة الزقازيق، حيث درّس تاريخ المسيحية في معهد الدراسات والبحوث الآسيوية التابع للجامعة لطلاب جميعهم من خريجي الأزهر الشريف وآئمة. وبدأت القصة حين كان طالب من خريجي الأزهر يعدّ رسالة ماجستير عن "الخروج على الحاكم في الإسلام والمسيحية"، فاقتُرح عليه أن يشرف مسيحي على الشق المسيحي من الرسالة، وبعد أخذ إذن رئيسة القسم وقيادات الجامعة، رُشح له الدكتور لمعي.
"كانوا في البداية مترددين في قبولي وسردي للتاريخ المسيحي وحذرين من أن قساً يمكن أن يستقطب طلاباً مسلمين، لكن بعد سردي الموضوعي والحيادي رحّبوا بي"، يروي لمعي بداية علاقته بطلاب الجامعة.
ويضيف أنه بدأ بتدريس تاريخ المسيحية قبل الإسلام وبعده حتى عصرنا الحالي، وعقب انتهائه من تأليف كتاب "المسيحيون بين الوطن والمقدس"، درّسه كمنهج للطلاب شارحاً وضع المسيحيين في مصر في العصور الإسلامية المختلفة سواء الأموي أو العباسي أو العثماني ومَن هم الخلفاء الأكثر تشدداً تجاه المسيحيين.
"يجب أخذ المعلومات الدينية عن الدين الآخر من معتنقيه عبر شرح وجهة نظرهم، لا مما يقال عنهم فقط، لبناء صورة متكاملة عنهم، وفهم عقليتهم، فهذا سيحدث تقارباً فكرياً بين أتباع الديانات". يقول لمعي.
ويؤكد الدكتور القسّ أن الأمور لا تخلو من الاستثناءات، فرغم أن لا مجال لمناقشة الأمور اللاهوتية في الدارسة، يسأل الطلاب في بعض الأوقات عن أمور عقائدية مثل "التثليث والتوحيد"، "فأجيب وفق معتقدي المسيحي، ورأيي لا أفرضه بكل تأكيد".
ويشير إلى أن سرد الأحداث والتاريخ المسيحي فيه اختلافات بين الروايات المسيحية والإسلامية و"لكني كنت أرصد وأوثّق أكاديمياً".
مسلم يدرّس في كلية لاهوت إنجيلية
تأهب المستمعون حين بدأ إحدى محاضراته بسؤال: "هل دخول الإسلام مصر فتح أم احتلال؟". هذا ما أكده الدكتور لؤي سعيد، رئيس مركز الدراسات القبطية بمكتبة الإسكندرية، وأحد المدرّسين (المسلمين) في مركز دراسات الشرق الأوسط في كلية اللاهوت الإنجيلية لرصيف22.
وقال: "نتعامل مع التراثين الإسلامي والمسيحي على أنهما تراث مصري فقط وليس تراث فئة دون غيرها، وهذا ينعكس في نوعية المدرسين، فهناك أساقفة أرثوذكس وكاثوليك وأساتذة إنجيليون وكذلك في نوعية الطلبة إذ تجد شيوخاً أزهريين ومحجبات ومسيحيين من الطوائف المختلفة.
"إنت جايب لينا الشخصية دي ليه؟ ده مؤرخ كاثوليكي وأراؤه لا تعترف بها الكنيسة الأرثوذكسية"، هذه تحفظات بعض الطلاب الرافضين للاستماع منه عن الآخر، بحسب سعيد، الذي يضيف أنه أحياناً، يحاضر أسقف أرثوذكسي أو إنجيلي عن أحداث تاريخية فيتحفظ أحد الطلبة المسلمين قائلاً: "معلش أصل دي وجهة نظر إنجيلية"، ولكن مع استمرار النقاش "تسير الأمور بشكل أفضل ويكتشف الجميع أنهم لا يمتلكون الحقيقة المطلقة وتتغير مسلماتهم القديمة".
ويتابع سعيد: "نحن لا نتحدث عن عقيدة، لذا لا خطوط حمراء، فالتساؤل عن هل العرب هم مَن أحرقوا مكتبة الإسكندرية، وقصة دخول العرب مصر وغيرها نحاول بقدر الإمكان التعامل معها كأحداث تاريخية من دون أن تقيّدنا خلفياتنا الدينية، وندرس كل المصادر، ومنها المسيحية التي تهاجم دخول الإسلام مصر والإسلامية التي تشيد بالفتح".
إمام مسجد يدرس المسيحية في كلية اللاهوت
"كنّا ندرس المسيحية في مادة مقارنة الأديان في كلية الدعوة في جامعة الأزهر، ولكن المدرسين كانوا مسلمين، وأرى أن المناهج كانت موجهة ولم تتطرق إلى كل الأبعاد التي رأيتها في كلية اللاهوت الإنجيلية"، يقول لرصيف22 الشيخ رضا الشافعي، مفتش بوزارة الأوقاف وإمام مسجد، وخريج كلية الدعوة بجامعة الأزهر.
ويؤكد الشيخ الحاصل على دبلوم "التراث المسيحي والحوار الإسلامي المسيحي"، من مركز دراسات الشرق الأوسط بكلية اللاهوت الإنجيلية أن "مخلفات الثقافة القديمة" كانت تحرّك ردود أفعال بعض أصدقائه على دراسته بكلية إنجيلية، فيقولون له "خلاص بقيت الشيخ جرجس"، أو "إيه يخليك تعمل حاجة زي كده؟ هتستفيد إيه يعني؟".
ويروي أن المنهج الذي درسه تطرّق إلى "نقاط شائكة" مثل تحدث الأقباط في مصر للغة العربية واندماجهم وانعزالهم تاريخياً، وترجمة الكتاب المقدس إلى العربية، وهل الأقباط رحبوا بالعرب واندمجوا معهم أم انعزلوا؟
كما تضمّن المنهج دراسة تاريخ الحوارات الإسلامية المسيحية في عهد الخليفة المأمون الذي أمر بإحضار شيوخ وكهنة ليشرح كل منهم عقيدته ويقدّم دفاعه اللاهوتي أمامه.
"كإمام مسجد حينما قلت كلنا أقباط في الجامع، قامت الدنيا ولم تقعد والناس ترد: أزاي بتقول كدة؟"، يصف الشيخ رضا ردود أفعال المصلين بالمسجد على إحدى خطبه، مؤكداً عناءه لدى محاولة تأكيد أن المسيحيين والمسلمين أقباط، فالمصطلح يعني أصولاً قومية لا المسيحية.
وفي وصف الشيخ رضا للعلاقة على أرض الواقع بين الشيوخ والكهنة بعيداً عن الصحف والكاميرات، يقول: "ليس لدينا آلية في الأوقاف أو الأزهر تشجع أو تدعم التقارب مع القساوسة. قلما أجد شيخاً إيجابياً حيال عملية التقارب مع المسيحيين، إلا ما رحم ربي".
وبرأيه، "الأفضل أن أسمع عن المسيحية من المسيحيين أنفسهم. عليّ الاطلاع على مرجعياته ومفاتيح علومهم وأدواتهم المعرفية حتى يتم تقريب وجهات النظر. فنحن لا نعرف أي شيء عن الطقوس الكنسية بدلالاتها الصحيحة مثلاً، ويجب أن يحدث تقارب ليعرف علومك وتعرف علومه، لنتحدث في منطلقاتنا ونخاطب العقل والفكر لمحاربة الانغلاق والجمود والتعصب الموروث من الماضي".
أساطير إسلامية حول المسيحيين
"الكهنة لبسوا الأسود لما دخل الإسلام مصر، ولن يلبسوا الأبيض إلا عندما يخرج الإسلام منها". هذه فكرة أغلب المسلمين حول ارتداء الكهنة الأرثوذكس للزي الأسود، يقول الشافعي متابعاً أن الحقيقة التي تعرّف عليها بعد الدراسة هي أن الحاكم بأمر الله ألزم المسيحيين بارتداء الأسود، وتوارثت الأجيال العادة، مثلما جرى بخصوص العمامة الحمراء التي تشكل جزءاً من الزي الأزهري، فشيوخ الأزهر لم يرتدوها إلا في عهد العثمانيين وأصبحت عادة واستمرت.
وفي ما يتعلق برأي المسيحيين في دخول المسلمين إلى مصر، يقول إن هنالك ثلاثة اتجاهات: أقباط رحبوا وقسم رفض وقسم ثالث سلّم بالأمر الواقع.
"عشت حوالي 30 سنة لم أخالط أو احتك بمسيحيين، ومنذ 10 سنوات فقط عام 2008، تعاملت مع جار مسيحي وزرته وزارني"، يروي الشافعي ويقول إن المعتقدات الشعبية الشائعة عند المسلمين عن المسيحي هي أن "ريحتهم وحشه" و"مش بيستحموا" و"أكلهم حرام"، وغيره، وهي أمور عرف زيفها حين تقرّب من مسيحي.
"مخه لسع" و"متصور مع قسيس وملكات جمال"... هذا ما يتذكره الشيخ رضا عن التعليقات التي أعقبت نشره على فيسبوك صورة له في كنيسة في شبرا بعد توجهه إليها لإلقاء كلمة في تأبين ضحايا كنيسة البطرسية.