رمز الثقافة المضادة
فاحتفل به الكثيرون في العالم ليس كملاكم عظيم فحسب وإنما كأسطورة من أساطير عصرنا. مقالة كتبها روبرت ميسك بهذه المناسبة عن هذا الملاكم والفنان العظيم.
في سني طفولتي كان هذا الرجل أبرز وأشهر شخصية دخلت حياتي. أعني بذلك الملاكم محمد علي. كثيرا ما رسمت صورته على منضدة المطبخ بخطوط متعرجة بسيطة. كنت يومها في الرابعة او الخامسة من عمري. كانت مشاهد المصارعة التي شارك بها محمد علي من أول كبريات البرامج التليفزيونية في ذلك الحين.
احتل محمد علي في غضون الستينيات مرتبة ثابتة في معبد أساطير العظمة بحيث تزامن ذلك من حيث الأهمية مع الهبوط على القمر ومع بزوغ نجم بعض المشاهير مثل البيتلز والرولينغ ستونز. أي أن محمد علي كان من أعلام عصره.
نجم شعبي في الرياضة
بلغ محمد علي قبل أيام سن الخامسة والستين. لكننا بتنا نعرفه اليوم رجلا معوقا يعاني من العجز في تحريك أطراف جسمه ويرزح تحت وطأة داء باركنسون الذي خيّم عليه منذ 25 عاما. لقد حوله هذا المرض إلى عكس الصورة المألوفة عنه في الماضي. فقد تحول شخص كان يشع رجولة وقوة ويتسم بكونه من أكثر الناس سرعة وديناميكية في الحركة إلى رجل لا يملك التحرك إلا بعناء كبير هذا وإن تحمل أعراض الألم والعجز بروح مبنية على كرامة النفس.
عندما دخل فن "البوب" الشعبي إلى حيز الوجود وأصبح محل اهتمام الجمهور كان محمد علي أول نجم ساطع حسب على فن البوب في قطاع الرياضة كما أنه ما زال يحتل مرتبة الصدارة هذه حتى اليوم. لم يضاهه أحد في مقدرته على الملاكمة كما أنه أبدع فيما بعد ليصبح شخصية أسطورية مرموقة في مجال "العروض" يتلهف الناس لرؤيتها وسماع أخبارها.
تحرك كفراشة والسع كنحلة!
كان أسلوبه في المصارعة في حد ذاته نمطا من أنماط "العروض". فكان يحرك قدميه راقصا في حلبة الملاكمة ويستخدم طريقة في الاحتماء من ضربات خصمه بالتحرك أسفل على نحو يثير أحاسيس الاستفزاز لدى خصومه ويجعلهم موضعا للتهكم والازدراء، كما أنه كان يلجأ إلى أنماط غير اعتيادية من الحركة يوجه من خلالها ضرباته الواحدة تلو الأخرى.
قاعدته في الملاكمة كانت " تحرك بخفة الفراشة والسع بحدة النحلة". وقيل عنه يومها "إنه يصارع بساقيه". كان يصف نفسه قائلا "أنا أعظم الجميع" في وقت كان لا يزال فيه مغمورا لكن تلك المقولة جعلت كل الناس تعرفه. قال عنه البعض إنه رجل "متشدق صلف".
انطلاقا من روح استفزازه لخصومه كان يطيب له الغناء على نحو تلقائي بطريقة فن "راب" ليقول "إنني في قمة السرعة...وأخترق عواصف الريح دون أن يبتل جسمي... لو التقى جورج فورمان بي فإنه سيعترف بتفوقي عليه... حتى لو غمرتني المياه فسوف أشربها ثم أقتل شجرة ميتة...انتظروا الفرصة لكي يتاح لكم رؤية محمد علي".
نجم الثقافة المضادة
أصبح محمد علي نجما ساطعا في سماء "الثقافة المضادة" وكانت أسباب ذلك أنه رفض الانضواء تحت راية الخنوع لسلطة ما. تخلى عن اسمه بالولادة "كاسيوس كلاي" مبررا ذلك بأن ذلك الاسم "رمز للعبودية".والتحق بحركة "أمة الإسلام" التي كان مالكولم إكس قد أسسها ورفض الانصياع لأمر الخدمة العسكرية في فيتنام مبررا ذلك بمقولته الشهيرة المأثورة "ليس هناك نزاع شخصي بيني وبين الفيتكونغ".
ونجم عن ذلك سحب أول لقب عالمي ناله في بطولة الملاكمة . استعاد في مدينة كينشاسا الأفريقية لقبه عام 1974 في إطار البطولة العالمية المسماة "دوي وزمجرة في الغاب" ضد جورج فورمان. واستطاع نيل لقب البطولة العالمية للمرة الثالثة في بداية الثمانينيات داحضا بذلك المزاعم السائدة في أوساط الملاكمين بأن "الملاكم لا ينال أبدا البطولة مرة أخرى".
فنان بقبضة من حديد
ربما لم تكن العوامل السياسية وحدها هي التي جعلت محمد علي يصبح من أعمدة "الثقافة المضادة". في هذا اللون من الثقافة الأخرى تم الاعتناء بأنماط الحياة وفقا لطريقة حياة الأفراد العيوقين المتأنقين (داندي) والهيبيز كما احتل في هذا اللون من الحياة شعر الغزل والرقة في المناجاة مرتبة عالية.
في نفس الوقت كان هذا الشكل من "الحياة الثقافية" مبهورا بأمور أخرى منها فن الملاكمة أو على وجه التحديد بتلك الديناميكية والحيوية وخصال العودة إلى الجذور الأصلية وغيرها من صفات العنف المجرد لفن الملاكمة. كان الأديب والشاعر بريشت هو أيضا من المعجبين بالملاكمة كما انبهر الكثيرون غيره من الشعراء بالملاكمة وبالأجواء التي تحوم حولها. فالمثقف يرى في الملاكم دائما صورته الذاتية وإن جاء ذلك على وجه معاكس تماما لروح الرقة الاعتيادية.
أما في رؤى الأدباء والمثقفين لشخص محمد علي فقد جمع هذا الملاكم خصالا متناقضة كعكس الرقة والرقة نفسها في آن واحد، أي سمات الفنان وخصائص من يعمل بيد من حديد بمعنى أنه اتسم بصورة المقاتل الجمالي وكان أفضل الممارسين لأنماط "العنف في الرياضة" بالإضافة إلى أنه كان ولا يزال حتى اليوم ملتزما بأعمال الخير في القطاع الاجتماعي. إذن فقد بلغ محمد علي اليوم سن ألـ 65 فقط من عمره قضى أكثر من ثلثيها حاملا وما يزال يحمل سمة الشخصية الأسطورية.
إذا كنت ما أزال في بعض الأحيان، أو لأعترف قائلا في حالات قليلة اليوم ، أعد المنبه لكي أستيقظ في الساعة الرابعة صباحا لرؤية إحدى الملاكمات فإنني أفعل ذلك لسبب وحيد هو أن محمد علي وبطولاته تركت في نفسي كطفل في ذلك الحين آثارا راسخة مازالت تهيمن على ذاكرتي.
بقلم روبرت ميزيك
ترجمة عارف حجاج
حقوق الطبع قنطرة 2007