مدينة الحكايا… صورةُ بغداد والعامة في «ألفِ ليلة وليلة»
في عام 1709، كان الشابُ حنا دياب، ابن مدينة حلب، قد قرّر مرافقةَ الرحالة الفرنسي أنطوان غالان في رحلته إلى مارسيليا. في هذه الرحلةِ، التي حُقِّقت قبل سنواتٍ في جامعةِ ساوباولو البرازيلية، ونُشِرت عن دار الجمل، سيروي لنا دياب عن يومياتهِ والأحداث الغريبة التي شاهدها في طريقهِ. كان دياب قد بدأَ بتدوينِ هذه الرحلة بعد قرابة 50 سنة على قيامهِ بها، ولذلك نسي أن يخبرنا أنّه، وفي ليالي السفر، كثيراً ما كان يقضي الليلَ مع غالان، وهو يروي له قصصاً من «ألف ليلة ليلة»؛ إذ لم يكن هذا الشابُ الماروني، الذي رفض حياةَ الرهبنة، شخصاً عادياً، بل كان حكواتياً يتمتعُ بموهبة القصّ والروي. كان غالان يستمعُ له بشغفٍ، ليس فقط لسحرِ تلك الحكايا وأحداثها العجيبة، التي عادةً ما تُغري المستمعَ، بل لأنّه كان قد قدمَ إلى الشرقِ ليبحث عن قصصٍ وحكايا تكملُ مخطوطته الناقصة عن ألفِ ليلة وليلة. وهذا ما سيجده مع دياب الذي سيقصُّ عليه حكايا طريفة لم يسمعها من قبل، مثل حكاية «علي بابا والأربعون حرامي»، وحكاية «علاء الدين والسراج المسحور»، ما مكّنه من إكمال جمعهِ وترجمته لهذه الليالي، بيدَ أنَّ غالان لم يتوقع أن تؤدي هذه الترجمة إلى فتحِ القمقم من جديد، إذ أخذَ القرّاءُ الباريسيون ينادونه ويطالبونه بحكايا جديدة. وكما يلاحظُ محسن جاسم الموسوي في كتابه «ألف ليلة وليلة في الغرب»، فقد استطاعت هذه الحكايا اختراقَ أوساطٍ تقليديةٍ، ولذلك حاولَ بعض سدنةِ الذوق الحصيف، والمتشدِّدون منعَ أبنائهم من قراءةِ هذه النصوص، بيدَ أنّهم لم ينجحوا في هذه الخطوة، بل إنّ بعضهم وجدَ نفسه فريسةً لسلطانِ الحكايةِ، التي كان قد استسلمَ لها شهريارُ، ملك الزمانِ.
بقي الغربُ منجذباً إلى الليالي العربية، طيلة قرنٍ ونيّف، لأنّها أتاحت له ما يتيحه التلفزيون المتعدِّد المسلسلات والبرامج، من فتنةٍ ومغامرةٍ وشهوةٍ ومعرفةٍ وغرابةٍ وطرافةٍ وكدٍّ وشقاءٍ ونجاحٍ وفلاحٍ؛ لكن في مقابل هذا الاهتمام، فإنّ هذه الليالي ستبقى، كما يتنّبهُ لذلك الموسوي، مستبعدةً طريدةً منفيةً في مدننا العربية، وسيبقى مجالها مقتصراً على الشوارعِ الخلفيةِ للأسواقِ، التي يتابعها المحتسبُ، من أمثالِ الشيرزي، بحرصٍ لئلا يجري تشويهُ أخلاقِ الناسِ.
غير أنّ هذا التهميش من قبل العرب لهذه الليالي، لم يمنع من أن تتطّور مع تبدّلِ السلاطين والأحوال، فقد كان بعض الرواةِ والحكواتيةِ والقاصين، يعملونَ على إضافةِ حكاياتٍ مختلفةٍ على مرِّ العصورِ، ولكن إن نحيّنا جانباً أسبابَ هذا الشغف بالليالي في الغرب، وتجاهلها من قبل المثقّف التنويري العربي، فإنّ السؤالَ الذي بقي يشغلُ عدداً من الباحثين، وهم يقرأون هذه الليالي، هو هل ما يردُ في هذه القصص يقعُ في مجالِ العجائبي والخارقِ والخيالِ؟ أم أنّها ترسمُ لنا جزءاً من الحياةِ الاجتماعيةِ والتاريخيةِ من ذلك الزمانِ، زمن العباسيين ولاحقاً المماليك.
سيدفعُ هذا الموضوعُ الموسوي مرةً أخرى إلى حملِ مخطوطاتِ ألف ليلة وليلة من مدينةٍ عربيةٍ إلى أخرى، قبل أن تحطّ رحلته الأخيرة (كما فعل غالان) في جامعة كولومبيا الأمريكية؛ وهناك سيعكفُ لسنواتٍ في البحثِ، بين شوارعِ وأزقّةِ هذه الليالي، عن إجابةٍ شافيةٍ عن هذه المسألة، وهو ما سيظهر من خلال كتابه «الذاكرة الشعبية لمجتمعات ألف ليلة وليلة»، لكن يبدو أنّ مصيرَ كتابهِ، كان كمصيرِ الكثيرِ من الليالي ذاتها، إذ لم يحظَ كتابه بالاهتمامِ الكافي، ربما لصدوره في عام 2016، في الوقتِ الذي كانت فيه بغداد ودمشق تشتعلان، وربما كذلك، لأنّ هذا الباحث العربي بقي يتناسى أنّ للمدنِ أرواحا وذكريات وأقدارا، وأنّه لا يمكن امتلاك مفاتيح أبوابها دون الإلمامِ بقصصها وأساطير تأسيسها. في هذا الكتاب، سيرى الموسوي، خلافاً لتزفيتان تودوروف، أنّ في سردِ الليالي ما يتعلّقُ بالغرائبي والمدهشِ، وهناك في المقابلِ الشعر والقصة الرمزية والواقعية، ولذلك، فهو يرى أنَّ فكرةَ النظر لها بوصفها تمثّلُ قصصاً من عالمٍ آخر(لم يوجد) يبقى حكماً غير دقيقٍ. مع هذه الرؤية قد نتمكن من الاستعانةِ بالليالي، لفهمِ كيف كان عليه شكلُ مدينة بغداد مثلاً في الفترةِ العباسيةِ المتأخرة، خاصةً أنّ الليالي لم تُكتب مرةً واحدةً، بل بقي يُعاد تقميشها من قبل العامةِ والكتابِ والحكواتيين على مرِّ الأزمنةِ.
بغدادُ واللصوص
تشتملُ المدينةُ على الأزقّةِ والسراديبِ والمقالبِ، ففي إحدى الليالي كان شقيقُ الحجامِ يتعرّضُ لمكيدةٍ عجيبةٍ، بعدما دفعه حبُّ استطلاعهِ للحاقِ بجاريةٍ إلى داخلِ أحدِ المنازلِ، فقدم إليه عبدٌ أسودٌ عظيمُ الخلقةِ ليوسعه بالسيفِ ضرباً، حتى وقع مغشياً عليه، فسحبته عجوزٌ إلى سردابٍ طويلٍ مظلمٍ ورمته فيه على جماعةٍ مقتولين. كما تتمظهرُ تعقيدات المدينةِ في بعضِ الليالي وضعف الحكمِ أو تآكلهِ في انتشارِ الحيلةِ واللصوصيةِ، واختلاط الشطارة بالفلهوةِ، والمكرِ والإبقاءِ على اعتبارات بديلة للفتوةِ. وتشتملُ الحكايات البغدادية على طرائق مختلفة للسرقةِ والاحتيالِ والتزويرِ، والنشلِ والخطفِ والابتزازِ، وهي طرقٌ شاعت في بغداد والقاهرة، وكان الخلفاءُ، كالمعتضد، يعلمون بها ويسعون للتعرّفِ على تفاصيلها، واضعين أصحابَ الحرسِ والجيشِ والشرطةِ في مواقع تتيح لهم الاتصال بـ(شيوخِ اللصوصِ) الذين تابوا، لضمانِ السيطرة على المدنِ وبعثِ الأمانِ، على أساس أنّ غيابِ الأمانِ والاستقرارِ يسيء للأوضاعِ الاقتصاديةِ والماديةِ ويتيحُ هدمها واندحار الحضارةِ. وكان للعيارين من أهلِ بغداد ومن أهلِ السجون مكانةً كبيرةً في بغداد، أيام الأمينِ وقبله، وهم الذين قاتلوا قائدَ جيشِ المأمون.
ويتّفقُ المؤرخونَ والباحثونَ في أنّ طبيعة مهمّات الشرطة الموصوفة في ألفِ ليلة وليلة ربما تعودُ إلى مرحلةٍ لاحقةٍ لعصرِ الرشيدِ في بغداد، أو حتّى لما قبل الحكم الفاطمي أو عصر المماليك في القاهرة. وعلى الرغمِ من أنّ موقعَ الحكايةِ في بغداد، بيدَ أنَّ الأزقّةَ والخوان والشوارع، قد تنطبقُ على القاهرة أو على دمشق، كما أنّ الحكي يشتملُ على ما هو عامي دمشقي وقاهري. وتشتغلُ الحكايةُ المدينيةُ في السوقِ، فهو لم يعد فضاء اعتيادياً يشغله البشر، ذلك لأنّ سوقَ الصاغةِ خاصة، يمكن أن يصبح دافعاً ومحركاً للحكي، إذ تندفعُ نحوه الجواري كما يندفعُ نحوه أصحابُ الغرضِ كتاجِ الملوكِ، ولربما لم تكن جارية شعب تحتاجُ إليه، لكنها تؤمّه وتدعي بمثل هذه الحاجة لتبلغَ الشابَ الموسر ويكون زوجاً في المستقبلِ، فالسوقُ فضاءٌ تنعقدُ فيه الصفقات، وتظهرُ السلعُ ويلتقي التجارُ ويطوفُ المحتسبُ، ويقومُ فيه شيخُ السوقِ، وهو صاحب هيئةٍ ووقارٍ وخدمٍ وغلمانٍ، ولهذا فهو الذي يختمُ على صلاحيةِ الآخرين. وبينما يستدعي السوقُ الثقةَ في التعاملِ، فإنّه يلجأُ إلى المقالبِ، وحتّى في الحبِ تأتي الجواري إليه طمعــاً في المالِ. والسوق مكانٌ يبدو شــــديدَ التعقيدِ والمداخلِ والمخـــارجِ، له شـــؤونه نهاراً، وليلاً تزدهرُ في أطرافهِ الحاناتُ والخمّاراتُ.
ولم يكن دربُ الزعفرانِ في الكرخِ، الذي يردُ في حكاية إبراهيم بن الخصيب مع أبي القاسمِ الصندلاني، الذي يسكنُ ذلك الحي، مكاناً اعتيادياً، كما أنّه ليس من مكوناتِ المشهدِ الحكائي، فالمكانُ تاريخياً له اعتباره ومواصفاته، يسكنه الظرفاءُ وأهلُ العطرِ دون غيرهم من أصحابِ الحرفِ، كما يقول ابن الجوزي في «مناقبِ بغداد»، ولهذا كان وجودهم في هذا الحي يفسرُ أيضاً طبيعةَ رفاهيتهِ وحريته وحركته، وكثرة ما فيه من مؤامراتٍ صغيرةٍ وحوادث عشقٍ ومجون وحب.
ولهذا كان يقيمُ فيه طاهر ابن العلاء صاحبُ الفتيان، الذي يرد اسمه في الحكاية، المقيم عند قرنِ الصراطِ وفي هذا المكانِ يجتمعُ أهلُ اللذّةِ والموسرون والعشاق والرسامون. ومما يلاحظــه موسوي حول أبوابِ المدينة، أنّ الرواةَ يعيدون تشكيلَ الصورةِ كما يشتهون، فعلى الرغمِ من حقيقةِ وجودِ الأسواقِ، إلا أنّ البوابةَ تتحوّلُ مجازاً إلى كل ما هو محرم أو مكبوح، فهو قوةُ كبحٍ لا تسقطها غير الطلاسمِ، وهكذا كانت الصبيةُ في حكايةِ الصيادِ تنتهي إلى بابِ المدينةِ وتتكلمُ كلاماً لا يفهمه أحد، كما يقول زوجها الملكُ الشاب الذي سحرته، وعند هذا الكلام «تساقطت الأقفالُ وانفتح البابُ».
حلاقون ثرثارون
شكّلَ الحلاقون داخل المدينةِ قوةً واضحةً، فالثرثرةُ كلامٌ يستعينون به على الواقعِ، وكلما جرت مخالطةٌ الأقوامِ والجماعاتِ أخذوا عنهم طرفاً فأعادوا صياغته وادعوه معرفة، على الرغم مما يعلنونه عن صمتهم ودهائهم وسرّية آدائهم، «اعلـــم يا أمـــير المؤمنين (يقولُ الحلاقُ في إحدى النسخ) أنّي أنا الصامتُ وعندي الفضلُ والحكمةُ والعلمُ والفلسفةُ ولذيذُ الخطابِ وردُّ الجوابِ». لكنّ الحلاق، كما يـــرى الموســوي، هـــو نتاجُ المدينة، وهوَ لا يعاشرُ غير قومٍ كبــار مثــــل زنتــــوت الحمامي وسلوت الفوال وعكرشة البقال وسويد العتال وقسم الحارس، فهؤلاء هم أهلُ الحرفِ الذين يشغلونَ الأسواق ويتحركون في أحشاءِ المدينةِ وينشغلون بها، يبدون لبعضهم بعضا كأنهم أحسن الفضلاءِ، فالحرفة يقدّرها أصحابها «ما فيها ثقيل ولا معربد ولا فضولي ولا منكد، ولكلّ واحدة منهم رقصة يرقصها وأبيات ينشدها». وفي السوق أيضاً نعثر على الحمامِ، لكنه لكثرة امتزاجه في بنيةِ السردِ، غالباً ما يوحي بمعــانٍ أخرى غير معاني التطهّر، إذ يشيرُ الدخولُ والخروجُ إليه، أحياناً، إلى تحولاتٍ في الأحداثِ والشخوصِ والحكاياتِ، كما في حكايةِ عزيز الذي يدخلهُ ويخرجُ منه يوم الجمعة جاهزاً للزواجِ من ابنه عمهِ، بيدَ أنّه جراء حرارةِ الحمامِ، يجلسُ على مصطبةٍ عند الطريقِ إلى المنزلِ، ويغفو قليلاً، ويفوته موعدُ الزفافِ، ثم تأتي مغامرةٌ جديدةٌ. لتبقى الحكايا وأبطالها وأحداثها العجيبة سيدةَ هذه المدينة.
٭ كاتب من سوريا