وجوه ألبير آريه..عن حداثة اللباس في المدينة العربية

مذكرات يهودي مصري

وجوه ألبير آريه..عن حداثة اللباس في المدينة العربية

 

تمتاز نصوص السير الذاتية، عن باقي النصوص الأدبية، في أنها تعد شاملة وململة بتفاصيل متنوعة من حياة كاتبها. إذ عادة ما يحاول كتاب السير، رصد تجاربهم منذ الطفولة والبلوغ، ولاحقا مساراتهم المهنية وتجاربهم اليومية. في هذا السياق، تؤكد الكاتبة الإنكليزية فيرجيينا وولف أنّ لكل سيرة ألف وجه ووجه. وهو ما يعني أنّ نص السيرة الذاتية قد يكون النص الأطول والجامع للتجربة الإنسانية، كونه قادر على ضم تفاصيل وحقول عديدة، لا يمكن جمعها في نصوص أخرى.

 

وقد لا ينطبق هذا الوصف على تدوين السيرة الذاتية فحسب، بل يشمل كذلك قرّاء السير، الذين يجدون أنفسهم أحيانا أمام محطات متعددة من سيرة شخص ما. وفي هذه المحطات أيضاً، قد يقع بعض القرّاء بمعادلة تهميش بعضها لصالح جعل الأخرى أكثر مركزية. مما يجعلهم أحياناً لا يتنبهون للجديد في القصص التي تقع في محيط سارد السيرة، الذي يسير بنا نحو قصته أو حكايته الأم، إن صحّ التعبير. ربما ينطبق هذا الشيء على مذكرات المصري اليهودي ألبير آريه والذي صدرت مذكراته قبل فترة من الآن بعنوان (ألبير آريه.. مذكرات يهودي مصري)، دار الشروق.

 

في هذه المذكرات، سيروي لنا قصة ولادته في الثلاثينيات في أسرة يهودية، هاجر مؤسسها من تركيا إلى مصر في بدايات القرن العشرين. وفي الثلاثينيات ستنجب الأسرة ابنها ألبير، والذي سيتلقى دراسته في إحدى المدارس الفرنسية.

مع قدوم الحرب العالمية الثانية، سيشهد العالم بروز مظاهر سياسية جديدة. ولذلك يؤكد ألبير أنه من جيل مدافع ستالينغراد. وهو جيل ستبدي شرائح واسعة منه تأثراً بالمدّ الشيوعي الذي ترافق مع انتصار الاتحاد السوفيتي في الحرب العالمية الثانية.

 

كانت الحرب أيضاً، كما يذكر، سبباً في ظهور جيل آخر من الضباط. إذ كانت الكلية الحربية في زمن الملكية لا تسمح بدخول أبناء الطبقات الأدنى، لكن مع قرب الحرب سُمِح بذلك وتم تخريج دفعة استثنائية. وكان من ضمن هذه الدفعة جمال عبد الناصر، والعديد من أعضاء مجلس قيادة الثورة فيما بعد، والذين سيتصدّرون مسرح الأحداث لاحقاً.

مال آريه في نهاية الاربعينيات نحو الشيوعيين، والذين بدوا منقسمين على أنفسهم. وهنا، سيتوقف في سيرته مطولاً عند حيوات الاعتقالات في القاهرة، والسجون التي وضع فيها، والتي تناولتها بعض المذكرات أيضا. ومن هذه السجون، سجن الأوردى الوحشي 1959، أو سجن الواحة، الذي ألّف عنه صنع الله إبراهيم كتابا بعنوان يوميات الواحة. بعد ذلك يكمل ألبير سيرته ليتحدث عن مصر في السبعينيات وحتى عام 2021 (سنة وفاته). فيشير إلى تجارة وتصدير الفاصولياء لهولندا، وحياة المثقفين في مصر، من سعد كامل وزوجته نادية (ماري روزنتال)، مرورا بحياة مثقفين يساريين آخرين مثل رفعت السعيد وسمير أمين ووالدة الصحفي الفرنسي آلان غريش، وإريك لورو المشاغب في شبابه، وفتحية كاريوكا، والتي ناضلت لفترة من الزمن في الأحزاب الشيوعية، وسجنت مع زوجها بسبب ذلك. ولا نبالغ إن قلنا أنّ سيرة ألبير تبدو واحدة من أهم وأغنى السير المصرية التي نُشِرت في السنوات الأخيرة، ربما لأنّ صاحبها كان شاهدا على تفاصيل طويلة وعديدة عن حياة القاهريين واليساريين والدولة والتجارة.

 

وبالعودة إلى ملاحظات فيرجيينا وولف، حول ألف وجه وجه للسيرة، فإنّ في سيرة ألبير وجوه عديدة، من بينها وجه، قد لا يقف عنده بعض المتشوقين لقصص المثقفين مع قدوم عبد الناصر للسلطة. وأعني بذلك قصة حياة اللباس في القاهرة منذ الثلاثينيات وحتى الخمسينيات تقريبا. وهي قصص تبدو على هامش حكايته المركزية عن واقع الشيوعيين في مصر منذ الخمسينيات وحتى الثمانينيات. مع ذلك، فإنّ هذه الهوامش تحمل معلومات جديدة وممتعة. ولذلك سنحاول السير وراء قصص الهامش هذه المرة. فمن يقرأ السيرة بتمعّن، سيلاحظ أنّ آريه يحفظ لنا قصصاً كثيرة عن عالم اللباس في القاهرة، ولا سيما خلال الحرب العالمية الثانية وما بعد.

 

لاحظت المؤرخة الراحلة يديدا كالفون ستيلمان في كتابها "تاريخ الأزياء العربية"، أنّه مع نهاية القرن التاسع عشر فُرِض على الجنود العثمانيين ارتداء السترات والبناطيل على الطراز الأوروبي. مع ذلك، احتقر الناس البنطال الأوروبي المستقيم العمودي الشكل، وبقي رمزا للجيش العثماني. وستأتي لاحقاً طبقة بيروقراطية جديدة في الدولة لتسهم في انتشار اللباس الأوروبي. وكان تركيز المؤرخة ستيلمان، وهي تتتبع تغيرات اللباس بعد الحرب العالمية الأولى، على معارك السفور والحجاب التي عرفتها مصر في الثلاثينيات والأربعينيات. ولذلك نراها أهملت في كتابها عالم اللباس عند الرجال في هذه الفترات أو الفترات اللاحقة. وهنا ستبدو سيرة آريه، بمثابة بديل يمتلك بعض القصص في هذا الجانب. وهذا ما يسمح لنا بفهم مشاهد جديدة من واقع اللباس في الحرب العالمية الثانية وما بعد. ولعل التقاطه لهذه التفاصيل مرتبط بالمهنة التي مارسها مع والده بعيدا عن السياسة، وهي مهنة بيع الألبسة والقمصان.

يهودي بطربوش:

كان والد ألبير قد هاجر من تركيا إلى القاهرة في بدايات القرن العشرين. وقد عمل بداية في مهن عديدة، لكن ربما تأثر بعمل والده في تركيا في بيع الأقمشة. ولذلك سنراه مع بداية الحرب العالمية الثانية 1939 يفتتح محلا لبيع القمصان والبناطيل.

 

يذكر ألبير، أنّ والده اتبع العادات المصرية كلبس الطربوش بدل القبعات في المناسبات. ومما يدعم روايته، إحدى الصور (من مجموعة صور) نشرها ألبير في خاتمة مذكراته، وتظهر والده خلال العشرينيات جالساً خلف سعد زغلول مرتديا الطربوش العثماني، وبدلة رسمية، وربطة عنق طويلة. كما نلاحظ في الصورة، أنّ جميع الحاضرين يرتدون اللباس ذاته تقريباً، في إشارة ربما للباس الرسمي للنخب، وأيضاً إلى مشاركة والدة بثورة 1919. ويبدو أن جاك آريه (الأب)، حاول، من خلال ارتدائه اللباس ذاته، الإعلان عن انتمائه لهذه الجماعة. في الثلاثينيات، سيحاول الأب جاك الالتزام قدر المستطاع بلباس النخبة، سواء على صعيد لباسه أو على صعيد أفراد عائلته. ولذلك يذكر ابنه ألبير أنّ والده كان يبدي امتعاضه أحيانا من لباس خاله، والذي لم يكن يراعي التقاليد السائدة، فيخرج من دون جاكيت أو بالصندل، وهما شيئان غير مقبولين في عرف الوالد وجيله. لكن رغم هذا التزمّت أحياناً، والذي يرويه الابن عن ابيه، نرى الأب جاك في صورة أخرى متأثرا بالتغيرات الجديدة في عالم اللباس. كان قد رفض الحصول على جنسيات أخرى، وفضّل بدلاً منها الحصول على الجنسية المصرية. وفي الصورة التي التقطت له لبطاقة الهوية عام 1932 ه، إضافة إلى صور أخرى، نراه بدون طربوش، كما نراه يستعمل ربطة العنق من نوع الفراشة والتي زاد استخدامها من قبل النخب، مع شنب صغير بدلاً من الشنب العثماني الهلالي. وربطة العنق هذه ، تبدو موضة جديدة نراها في دمشق أيضا في نهاية الثلاثينيات في الصور التي نشرها الطبيب الدمشقي إبراهيم حقي في سيرته، والتي يبدو أنها أثارت نقاشاً واسعاً بين الشوام والمصريين، ولذلك نرى حقي يقول "فلا تعجبن يا صديقي.. إذا رأيت فؤادي بخرقة انشغل".

 

الحرب العالمية الثانية: موضة الأميركان

 

خلال الحرب العالمية الثانية حدث نمو اقتصادي نتيجة توقف الاستيراد، فبدأت الصناعة في الازدهار ونشطت مصانع النسيج والملابس والتريكو. سيتنبه الأب جاك لهذه التطورات، وسيتمكن من افتتاح محل وسط البلد باسم (نيو لندن هاوس)، لبيع ملابس رياضية مثل الأحذية والقمصان. يذكرُ الابن، أنه خلال تلك الفترة كان يزورهم العديد من رجال الجيش الإنكليزي ومن ضمنهم ابن تشرتشل. بدأت تجارة الأب تكبر وقرّر استئجار المحل المجاور وافتتاحه لتفصيل القمصان. كما كانت سوزان زوجه طه حسين تزورهم وتطلب دائماً نقشاً حروف على قمصان زوجها. وخلال وجوده في المحل، استشعر الوالد أنّ الشباب والرجال بدؤوا يسألونه عن موديلات جديدة من الثياب. ورغم أنه ظل محافظا على صعيد اللباس، مع إدخال بعض التعديلات على هندامه، إلا أنّ حسه التجاري دفعه إلى البحث عن أشياء جديدة تراعي الموضة الجديدة والطلب عليها. وهكذا سيقرر استيراد شحنة من القمصان المشجّرة، على نمط الموضة الأميركية، والتي أخذ الشباب المصري يرتديها في هذه الفترة في الشارع وعلى الشاطئ. وبالفعل استطاع الأب تحقيق أرباح جيدة من هذه الصفقة.

 

بقي الوالد محافظاً على لباسه الرسمي، لكنه عاد لاستخدام ربطة العنق الطويلة. وربما ما جعله يحافظ على هذا اللباس، هاجس المهاجر الساعي إلى التماهي مع علامات النخب التقليدية الرسمية وقيمها، لكن على الصعيد التجاري أبدى انفتاحاً على كل ما هو جديد.

 

في المقابل، سنرى الابن ألبير يحاول كسر تقاليد الجماعة النخبوية المصرية وأفكارها، خاصة أنه من أبناء الجيل الثاني من العائلة المهاجرة، وتتوفر لديه قنوات وفرص أخرى للاندماج. ولذلك نراه في إحدى الصور مرتديا قبعة الكاوبوي الأميركية عام 1946، وهو لباس يبدو أنه لقي اقبالا كما ذكرنا من أبناء جيله، لكنه لن يعود لارتداء قبعة الكوبوي طوال حياته مرة أخرى (كما نرى في الصور). ومن ثم سيأتي انضمامه للشيوعية، ليحمل مشروع تجاوز تقاليد الجماعة النخبوية في اللباس مضامين جديدة. في صور الخمسينيات، غالبا ما نرى الأب مرتديا بدلته الرسمية، ولكن بدون طربوش. ومن ناحية أخرى، نرى الابن مرتديا بنطالاً وقميص فحسب، دون جاكيت. مع ذلك بقي أنيقاً، وربما ما جعله يفعل ذلك هي الأفكار الشيوعية التي حاول من خلالها القطيعة مع ما كان يراه رموز الجماعة البرجوازية. وفي بعض المناسبات الخاصة، مثل السينما أو الحفلات، نراه مرتديا بدلة رسمية.

 

ظهور موضة الجينز

 

في موازاة هذه الأحداث، عمل ألبير مع والده في تجارة وبيع الألبسة الرياضية للمدارس، مما وفر له فرصة دخول كل مدارس القاهرة آنذاك. وقد ظل الشاب، كما يذكر، غير مستمتع بتجارة الثياب والألبسة الرياضية. في أحد الأيام، كما يروي، سافر والده إلى فرنسا (1950)، وحصل لأول مرة على توكيل من شركة فرنسية كانت تنتج الجينز. كان الجينز المعروف وقتها في مصر هو العفريتة (نوع من الملابس التي يرتديها العمال)، ولذلك كان والده، كما يذكر، أول من ادخل بناطيل الجينز إلى مصر، وكانت ماركة فرنسية اسمها (بو بلو). ولعل هذه المعلومات تحتاج إلى مقارنتها بمصادر أخرى، مثل كشوفات الاستيراد في تلك الفترة، للتأكد من مدى دقة عبارة "أول من ادخل". لكن بكل الأحوال، فالمهم في هذه القصة، معرفتنا للفترة التي دخلت إليها موضة الجينز إلى القاهرة والشرق الأوسط عموما.

 

ومن القصص الملفتة التي يرويها لنا ألبير الشيوعي عن صفقة والده، أنّه ابدى اعتراضه وعدم قناعته بأنّ هناك من سيرتديه، فكان رد والده التاجر الشاطر "اسكت. انت مش فاهم. هذا هو المستقبل". فقد لمس، بحسِّه التجاري أنّ موضة الجينز، بعد أن غزت أمريكا وبدأت في الانتشار في أوروبا، ستصل إلى مصر قريبا.

 

الطريف أيضاً في هذا القصة، أنّها تكشف لنا عن سردية مضادة للسرديات المتداولة حول حداثة اللباس في المدينة العربية. إذ تدور هذه السرديات حول أدوار الأجيال الجديدة في إدخال الموضة الجديدة من اللباس خلال الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين. لكن في هذه السردية، نرى أنّ من قاد هذه الحداثة ليس ألبير الشاب، وإنما والده التقليدي!! والذي بقي محافظا في لباسه. وهذه مفارقة تجبرنا على الاعتراف بأنّ للتاريخ أيضاً ألف باب وباب، وأمام كل باب هناك فرصة لإعادة النظر في كثير من المسلّمات.

 

محمد تركي الربيعو/ جريدة القدس العربي