منصة للذاكرة الثقافية التركية

يمتد تاريخ مسرح خيال الظل إلى 500 عام في تاريخ تركيا. وعلى الرغم من أن هذا الفن المسرحي، الذي يحمل اسم شخصيته الرئيسية قراقوز، قد يبدو غير متوافق مع عصر الإنترنت، إلا أن شخوصه ما تزال حاضرة في الكثير من الأعمال الأدبية المعاصرة. ليلي ف. مينده تسلط الضوء على تاريخ مسرح خيال الظل وما رافقه من التغيرات.

بدأ مسرح خيال الظل في القرن السادس عشر في الدولة العثمانية. وكانت عروض الشخصيتين الرئيسيتين قراقوز وحاجي واط والشخصيات المتنوعة الأخرى تنصب في إمتاع الحاكم والشعب على حد سواء. أما دور مسرح خيال الظل فقد كُرس لعكس التعايش اليومي في الدولة العثمانية المتعددة القوميات بكل صراعاتها وتنوعها. وأتاح هذا النوع من الفن المسرحي تناول موضوعات معقدة من الواقع الاجتماعي على مستوى خيالي؛ وتلك الموضوعات كانت تعد من المحرمات بعيداً عن المسرح.

الشعور الخيالي بالحرية والقوة

شكل المجون والمضامين النقدية السياسية جزءا ثابتا من عروض هذا الفن المسرحي، لذلك كان مسرح خيال الظل يعد متنفساً عن الكثير من التوترات الاجتماعية. ففي عروض مسرح الظل كانت علاقات القوة داخل المجتمع تُقلب رأساً على عقب. وفي نهاية العروض كانت الظروف الاجتماعية "الطبيعية" تعاد إلى سابق عهدها. لكن هذه العروض كانت تمنح الجمهور لوقت قصير شعوراً بالقوة وبإمكانية العيش في مجتمع حر إلى أبعد الحدود.

ومنذ منتصف القرن التاسع عشر أخذ توثيق هذه العروض الهزلية كتابياً يزداد ويتسع: وحتى ذلك الوقت كان الحوار يُرتجل على المسرح في أغلب الأحايين. لكن حقيقة أن العروض الهزلية باتت موجود بصيغة مكتوبة، أدت إلى أن تكون تحت رقابة السلطات بشكل أدق أيضاً. وعلى حين غرة سُلب قراقوز لسانه السليط، فقد قل النقد الموجه إلى الطبقة الحاكمة تدريجياً.

مسرح خيال الظل وسيلة دعائية

وبتأسيس الجمهورية التركية على يد مصطفى كمال أتاتورك عام 1923 بات مسرح خيال الظل في قبضة الدولة والنخبة الحاكمة بشكل تام، فقد أُعيد توظيفه ليصبح وسيلة تربوية. إذ كانت الحكومة تأمل في أن تتمكن من الاستفادة من عروض هذا الفن المسرحي كوسيلة لعملية التغيير الاجتماعي. وبذلك توجب على قراقوز أن يصبح وسيلة دعائية للتحديث في تركيا وللإصلاحات في مجال اللغة والملابس والتربية.

وكانت المسارح تتفق عادة مع الخطوط السياسية العامة المفروضة. ولم يتبق الكثير من قراقوز الشارع الفظ، فلم يعد يجسد الصبي الماكر الرافض للظروف السياسية والاجتماعية، بل بات رمزاً للمواطن التركي الجديد والمتحضر والفاضل.

قراقوز في عصر الإنترنت

ويبدو أن شيوع وسائل الاتصال الحديثة قد قللت من شعبية وانتشار مسرح خيال الظل التركي يشكل أكبر من الوصاية الحكومية التي فُرضت على هذا الفن المسرحي. واليوم لا يُنظر إلى مسرح خيال الظل إلا كوسيلة لإمتاع الأطفال وجلب انتباه السياح في الغالب. لكن هذا التقليد لم يمت تماماً، إذ ما زالت تُبث فيه الحياة من جديد. لذلك جعل الكاتب التركي عزيز نسين على سبيل المثال من شخصية قراقوز أساساً لمسرحياته السياسية الساخرة، التي تٌعيد الحياة من جديد إلى قراقوز الساخر، الذي كان موجوداً في زمن الدولة العثمانية.

"قراقوز في ألمانيا"

منذ ثمانينيات القرن الماضي يظهر قراقوز في ألمانيا هي الأخرى، فقد اتخذت الكاتبة التركية الأصل أمينة سيفغي أوزدامار من هذه الشخصية عنواناً لإحدى مسرحياتها الكوميدية الاجتماعية النقدية المسماة "قراقوز في ألمانيا". وتعد هذه المسرحية أول عمل باللغة الألمانية لكاتبة ألمانية من أصل تركي، يُعرض على خشبة أهم مسارح ألمانيا. جرى أحد هذه العروض على خشبة مسرح شاوشبيل هاوس في مدينة فرانكفورت عام 1986. وتتناول المسرحية قصة فلاح تركي أسمه قراقوز، يقرر الهجرة إلى ألمانيا.

كما ضمّن مسرح تياتروم التركي في برلين وغيره من المشاريع المسرحية التركية-الألمانية في عروضها الكثير من العناصر والشخصيات المأخوذة من مسرح خيال الظل التركي. إضافة إلى ذلك توجد محاولات من أجل إعادة توظيف شخصية قراقوز في المجال التربوي؛ فهناك أقراص ليزرية تعرض مسرحيات خيال ظل تركية معدة خصيصاً للأطفال المنحدرين من عائلات مهاجرة. ومنذ ثمانينيات القرن المنصرم ما زالت تصدر بعض الكتب، التي توضح إمكانية استخدام قراقوز لأغراض تعليمية، في إشارة للعمل الثقافي. وكل هذه الخطوات توضح الطموح الهادف إلى دمج قراقوز في الأحداث الراهنة.

جزء من الذاكرة الثقافية

يُنظر إلى مسرح خيال الظل في تركيا كجزء مهم من التقاليد الثقافية، فقراقوز ما زال حاضراً في الكثير من الاصطلاحات اللغوية والأمثال. وفي مدينة بورصة التركية الواقعة في غرب البلاد بين مدينتي إسطنبول و أنقرة ما يزال يُحافظ بعناية على ضريح وهمي للشخصيتين الرئيسيتين قراقوز وحاجي واط. ومن الأمثلة على هذه العناية بمسرح خيال الظل الفيلم التركي، الذي اكتسح شباك التذاكر عام 2006، "لماذا قُتل قراقوز وحاجي واط؟" (عنوانه الألماني: اغتيال الظل). ويعرض الفيلم واحدة من القصص الأصلية لمسرح خيال الظل التركي على شكل مسرحية كوميدية على الشاشة الكبيرة. ويقدم هذا الفيلم هو الآخر دليلاً على عدم وقوع مسرح خيال الظل التركي في دائرة النسيان.

وعلى الرغم من أن الكثير من مواطني تركيا والألمان من أصول تركية لم يحضروا عروض هذا الفن المسرحي، إلا أنهم جمعياً يتفقون في معرفتهم لشخصيتي قراقوز وحاجي واط، اللتين ما تزالان تشكلان جزءاً مهماً من ذاكرة تركيا الثقافية.

ليلى ف. مينده
ترجمة: عماد م. غانم
حقوق الطبع: قنطرة 2009

ليلى ف. مينده: أستاذة العلوم الإسلامية في مركز دراسات الشرق في العاصمة الألمانية برلين.

قنطرة

الكاتب التركي مراد خان مونغان:
لسان ذاكرة الشرق وشاعر ماردين
يعتبر مراد خان مونغان واحداً من أكثر الكتاب الأتراك المعاصرين شعبيةً كون أعماله القصصية تشكل في كثير من الأحيان استفزازا للقراء بوصفها خرقا للكثير من المحرمات الاجتماعية والتقاليد الموروثة. نيميت سيكر تسعرض لنا جوانب من أدب هذا الكاتب وحياته.

قراءة في رواية "شيكاغو" لعلاء الأسواني:
تصوير عوالم عربية على الأرض الأمريكية؟
في عام 2005 أصبح الكاتب المصري علاء الأسواني بروايته "عمارة يعقوبيان" نجمًا أدبيًا عالميًا. وفي كتابه الأخير "شيكاغو" نجح في تأليف رواية مثيرة تصوِّر حياة مهاجرين مصريين في الولايات المتحدة الأميركية. أنجيلا شادر تقدم قراءة ألمانية لهذه الرواية.

التراث والنهضة:
فؤاد زسكن والثقافة العربية الإسلامية
فؤاد زسكن أستاذ جامعي، مؤلف ومحقق، كما أنه مؤسس معهد تاريخ العلوم العربية والاسلامية في فرانكفورت. أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة بوخوم غرهارد إندرس يقدم لنا زميله الذي بلغ هذه السنة الثمانين من عمره.