مصر ما بعد مبارك.... ولادة جديدة للعالم العربي
المتظاهرون في شوارع القاهرة، الذين أنهوا حكم حسني مبارك المستمر منذ ثلاثة عقود في 18 يوماً فقط، لم يكونوا يطلبون مجرد نهاية نظام ظالم وفاسد وديكتاتوري. لم يكونوا فقط يحتجون على العوز والبطالة والازدراء الذي عاملهم قادتهم به. لقد عانوا طويلاً من إهانات مماثلة. ما حاربوا من أجله كان أمراً أقل قابلية للتعريف وأكثر غرائزيةً. فلعالم العربي ميت. ثورة مصر تحاول أن تعيد إحيائه. منذ الخمسينيات وصاعداً، افتخر العرب بصراعهم ضد الاستعمار، وبمواقف قادتهم وبشعورهم بأنّ للعالم العربي معنىً، ولديه رسالة: بناء دولة ـــــ أمة مستقلة ومقاومة السيطرة الأجنبية
في مصر، ترأس جمال عبد الناصر اقتصاداً مدمراً وتحمل هزيمة مذلة أمام إسرائيل في 1967.
ومع ذلك، بقيت القاهرة قلب الأمة العربية الكبرى. وشاهد الجمهور العربي كيف هاجم ناصر الغرب، وتحدى سادة بلاده السابقين، وأمّم قناة السويس وسخر من إسرائيل. في هذه الأثناء، انتزعت الجزائر استقلالها من فرنسا وأصبحت ملجأً للثوار؛ وقادت السعودية حصاراً نفطياً هزّ الاقتصاد العالمي؛ ومنح ياسر عرفات الفلسطينيين صوتاً ووضع قضيتهم على الخريطة. خلال ذلك، عانى العالم العربي نكسات عسكرية وسياسية مذلة، لكنّه قاوم. قد لا تكون الأصوات الآتية من القاهرة، والجزائر وبغداد قد أعجبت البعض حول العالم، لكنّهم انتبهوا لها. كان هناك هزائم للعالم العربي، لكنه لم يستسلم.
حقبة اندثرت....
لكن هذا العهد انتهى، وصمتت السياسة في العالم العربي. عدا الانتظار ومعرفة ما قد يفعله الآخرون، ليس لدى الأنظمة العربية مقاربة واضحة وفعالة تجاه أي من القضايا الحيوية لمستقبلها الجماعي، والسياسات التي لديها تتناقض مع الشعور الشعبي. تلك اللامبالاة هي التي أوصلت قادة تونس ومصر ليصبحوا غير ذي صفة. معظم حكومات المنطقة استسلمت لاجتياح العراق أو سهلته؛ ومذ ذاك لم يعد للعالم العربي أي تأثير يذكر على مسار العراق. قامت بالقليل لتحقيق الطموحات الفلسطينية باستثناء مساندة عملية سلام التي لم تعد تؤمن بها. حين خاضت إسرائيل حرباً ضد حزب الله في 2006 ثم ضد حماس بعد ذلك بسنتين، ناصر معظم القادة العرب الدولة اليهودية. وموقفهم من إيران غير مفهوم؛ لقد فوّضوا إلى الولايات المتحدة اتخاذ القرار النهائي، ويشجعونها على تشديد موقفها، لكنهم في الوقت نفسه يحذرونها من نتائج ذلك.
إنّ مصر والسعودية، وهما عمودا النظام العربي، منهكتان، بعد أن أصبحت قضيتهما الوحيدة منع انحسارهما. بالنسبة إلى مصر، التي كانت الأكثر علوّاً وشموخاً، كان السقوط باهظاً أكثر. لكن قبل ميدان التحرير بوقت طويل، خسرت مصر قيادتها للعالم العربي. غابت عن العراق، وتبقى سياستها تجاه إيران محصورة بالاعتراضات والاتهامات والشتائم. لم تنتصر في منافستها مع سوريا، وخسرت معركة النفوذ في لبنان. لم يكن لديها أيّ تأثير حقيقي على عملية السلام العربي ـــــ الإسرائيلي، وكانت عاجزة عن إعادة توحيد الحركة الفلسطينية وعُدّت في المنطقة متواطئة مع إسرائيل في حصار قطاع غزة الذي تسيطر عليه حماس.
موات عربي
شهدت الرياض، من غير أن تستطيع فعل الكثير، التصاعد التدريجي للنفوذ الإيراني في العراق والمنطقة. أُذلت في 2009 حين فشلت في سحق المتمردين في اليمن رغم أفضليتها الكبيرة في الموارد والعتاد العسكري. جرى تجاهل محاولاتها للوساطة بين الفلسطينيين في 2007، وأخيراً في لبنان، من الأطراف المحلية التي كانت لها سطوة كبيرة عليهم في الماضي. أثبتت القيادة العربية أنّها مذعنة وقابلة للتأثيرات الخارجية، وحين تقوم بفعل ما تكون عاجزة. وفيما كانت تناصر سلسلة من القضايا الخاسرة في الماضي ـــــ الوحدة العربية، تحدي الغرب، مقاومة إسرائيل ـــــ فهي اليوم لا قضية لها تحارب من أجلها. والحق يقال، كان العرب أكثر فخراً بنكسات الماضي منهم بغيبوبة اليوم.
تعاني الدول العربية لعنة أكثر إضعافاً من الفقر والاستبداد. أصبحت أنظمتها مزيفة؛ تراها شعوبها كأنظمة غريبة، تتبع سياسات صيغت في أماكن بعيدة. لا يمكن المرء أن يفهم أفعال المصريين والتونسيين والأردنيين وغيرهم، من دون أخذ في الاعتبار هذا الشعور المترسخ بأنّه لم يسمح لهم بأن يكونوا أنفسهم، وأنّ هوياتهم سرقت منهم. فالنزول إلى الشوارع ليس مجرد فعل اعتراض، بل هو كفاح لتقرير المصير. وحيثما رأت الولايات المتحدة وأوروبا اعتدالاً وتعاوناً، شعر الجمهور العربي بخسارة الكرامة والقدرة على اتخاذ قرارات حرّة. جرت مبادلة الاستقلال الحقيقي بمساعدات غربية عسكرية واقتصادية وسياسية. شوّهت هذه العلاقة الحميمة السياسة العربية. الاعتماد على سخاء الدول الأجنبية والمسؤولية أمامها، جعلت الطبقة الحاكمة الضيقة أكثر تجاوباً مع الطلبات الخارجية مما هي مع الطموحات المحلية.
بعد أن ابتعدت عن دولها، بحثت الشعوب في أماكن أخرى عمّن يوجهها. انجذب البعض إلى مجموعات مثل حماس وحزب الله والإخوان المسلمين، وهي مجموعات قاومت النظام السائد وتحدته، فيما يتطلع آخرون إلى الدول غير العربية، مثل تركيا، التي نسجت في ظل حكومتها الإسلامية دوراً ديناميكياً ومستقلاً؛ أو إيران التي تتحدى التهديدات والإملاءات الغربية. قلب انهيار النظام العربي علاقات القوى الطبيعية. القوى التقليدية مثل مصر والسعودية تتصرف بأقل من مكانتها، فيما تسعى الدول الصاعدة، مثل قطر، إلى التصرف بطريقة أكبر من حجمها. برزت محطة "الجزيرة" كفاعل سياسي متكامل لأنّها تعكس الشعور الشعبي وتعبر عنه. لقد أصبحت عبد الناصر الجديد. قائد العالم العربي هو محطة تلفزيونية.
الانتفاضات الشعبية
الانتفاضات الشعبية هي الخطوة الأخيرة في هذه العملية، وقد سهلتها جرأة مكتشفة أخيراً وشعور بالقوة ـــــ لم تعد الشعوب العربية خائفة من مواجهة أنظمتها بعد مشاهدتها تعثّر الجيش الأميركي الجبار في العراق وأفغانستان، وعجز إسرائيل التي لا تهزم عن إخضاع حزب الله وحماس. بالنسبة إلى الولايات المتحدة، تكشف الثورة الشعبية في المنطقة كذبة المقاربة التي تعتمد على قادة عرب يقلدون أفعال الغرب ويرددون كلماته. مقاربة نجحت في نزع الصدقية عن هذه الأنظمة من دون أي فائدة لواشنطن. كلما أعطت الولايات المتحدة المزيد لنظام مبارك، خسرت مصر.
أُنذر القادة العرب: لن تنقذكم علاقة جيدة مع الولايات المتحدة واتفاق سلام مع إسرائيل وقت الحاجة .ضخ مساعدة اقتصادية في الأنظمة المتداعية لن ينفع. إنّ المظالم الذي تشعر بها الشعوب العربية ليست بالأساس مادية، وأحد أهم استهدافاتها هو الاعتماد المتزايد على الخارج. كذلك فإنّ النداءات الأميركية من أجل الإصلاح ستفشل. فالرسول الذي دافع لعقود عن الوضع القائم هو صوت ضعيف للتغيير يفتقر إلى الصدقية. وقد ترتد المحاولات الغربية للضغط على الأنظمة على أصحابها، سامحة للحكام بتصوير المتظاهرين بأنّهم موالون للغرب، وقادة المعارضة بأنّهم دمى بيد الخارج
أقنع بعض صناع القرار في العواصم الغربية أنفسهم بأنّ استغلال الفرصة للترويج لعملية السلام الإسرائيلية ـــــ الفلسطينية سيرضي الرأي العام. إن ذلك يعبر ذلك فقط عن حالة من النكران وتفكير مبني على الرغبات لا الوقائع. وجهة النظر هذه تتجاهل أنّ العرب أصبحوا في غربة عن جهود عملية السلام الحالية؛ فهم يعتقدون أنّ هذه المساعي تعكس أجندة أجنبية وليست داخلية. كذلك يفترض صناع القرار أولئك أنّ اتفاق سلام يكون مقبولاً من الغرب والقادة العرب سيكون مقبولاً بدوره من الجمهور العربي. بينما في الحقيقة، سيُرى، على الأرجح، كفرض اتفاق ظالم، ما يعزز رفضه باعتباره تصفية لقضية عزيزة.
إن اتفاق سلام كهذا يهدف لإنقاذ النظام العربي سيعجل بزواله. انتقال العالم العربي من القديم إلى الجديد محفوف بعدم اليقين في ما يتعلق بسرعته ونتائجه النهائية. وعندما يتم هذا الانتقال في أي مكان، سيعبّر عن توق إلى المزيد من تأكيد الذات. سيكون على الحكومات أن تغيّر مواقعها: وشعوبها ستأمل أن تراها تشبه تركيا أردوغان أكثر من مصر مبارك. لعقود، أُفرغ العالم العربي من سيادته، ومن حريته وكرامته. أُفرغ من السياسة. اليوم هو يوم انتقام السياسة.
حسين آغا و روبرت مالي
حقوق النشر: crisisgroup 2011
حسين آغا هو عضو متقدم في كلية سان أنتوني في جامعة أوكسفورد؛ روبرت مالي هو مدير برنامج الشرق الأوسط في مجموعة الأزمات الدولية .
قنطرة
مصر بعد مبارك:
"يجب على الغرب أن يتراجع عن سياسة النفاق"
دقت ساعة الحقيقة بالنسبة للجميع في مصر، وعلى الرغم من أن المشاكل الكبرى مازالت قائمة رغم رحيل مبارك، إلا أن ثورة ميدان التحرير من شأنها أن تؤسس لحقبة جديدة، والآن يتوجب على الغرب أن يدعم بقوة الديمقراطية الوليدة في الشرق الأوسط كما يقول الخبير المعروف رودولف شيميلي في هذا التعليق.
من ثورة الياسمين إلى ثورة النيل:
"العرب الجدد" وملامح المرحلة المقبلة
يرى الباحث في جامعة كامبردج والإعلامي المعروف خالد الحروب في هذه المقالة أن جوهر التغيير الذي جلبته ثورتا تونس ومصر يكمن في إعادة الشعوب ورأيها العام إلى قلب المعادلة السياسية، مؤكدا أن هذه التغيير غير مؤدلج قادته أجيال الشباب الذين تجاوزت علومهم وخبراتهم أجيال آبائهم وحكوماتهم الشائخة التي لا تدرك أساساً كيف يفكر هؤلاء الشباب وما هي طموحاتهم.
الدين والسياسة في الثورة المصرية:
"يجب على واشنطن أن تفهم الدور البنّاء للدين في مصر"
ترى داليا مجاهد المديرة التنفيذية لمركز غالوب للدراسات الإسلامية أن انخفاض معدل التسامح مع الظلم والذي ولد في بعض الحالات من رحم الصحوة الدينية وفر الوقود للثورة المصرية، مؤكدة أن المصريين يفضلون الديمقراطية على كافة أشكال الحكم مع اعتقادهم في الوقت ذاته بأن الدين يلعب دوراً إيجابياً في السياسة.