مصطفى النحاس… قراءة جديدة للزعيم المصري

النحاس الذي كان عامرا بالتناقضات ويناور في ساحة كوزموبوليتانية زلقة، خاض حربا ضروسا في سبيل تمسكه بالدستور والحفاظ على الطابع المدني للحكم

رغم مرور قرابة ستة عقود على رحيله، تظل شخصية السياسي المصري مصطفى النحاس محل تأمل ودراسة المفكرين والباحثين الذين ما زالوا يقدمون ملامح مختلفة لرجل لعب دورا بارزا في تاريخ مصر، ومن بين هؤلاء الدبلوماسي والأكاديمي علاء الحديدي الذي أصدر في الآونة الأخيرة كتاب (مصطفى النحاس.. زعيم الطبقة الوسطى 1927-1952).

يستهل الحديدي كتابه بسؤال بسيط لكنه جدلي في ذات الوقت “من هو مصطفى النحاس؟”، حيث يرى أن الأجيال الجديدة ربما لا تعرف عن ذلك الداهية السياسي سوى الشارع الذي يحمل اسمه في حي مدينة نصر بشرق القاهرة، ويقول إن تجاهل المؤرخين للنحاس هو ما دفعه إلى تأليف الكتاب.

ويستشهد الكاتب بمقال للمؤرخ المصري عبد العظيم رمضان بعنوان “مصطفى النحاس الزعيم الذي نسيه المؤرخون” جاء فيه أن من بين الأسباب التي جعلت المؤرخين يتجاهلون النحاس هو أن عددا كبيرا منهم لم يكونوا من أنصار الوفد مثل عبد الرحمن الرافعي، لتأتي بعدها ثورة يوليو 1952 لتناصب الوفد وإرثه النضالي العداء.

والكتاب يمكن تقسيمه إلى شقين، طبيعة الفكر السياسي لدى النخب والقوى التي تصارعت في حلبة السياسة المصرية خلال النصف الأول من القرن العشرين، وفي الجانب الآخر، شخصية النحاس نفسه ومتاهة ألاعيب السياسة ومناورات الزعيم للخروج بأكبر مكسب شعبي ممكن.

ويحاول الكاتب على امتداد فصول الكتاب التسعة استكشاف شخصية النحاس، فيستشهد بوصف سعد زغلول له الذي قال فيه “رجل طيب ذو قلب طيب ومبدأ ثابت يميل إلى الثرثرة لكنه خفيف الروح، به خفة ورعونة، ويميل إلى الخيال، سريع الانفعال لكنه لا يتغير بتغير الأحوال، وطني مخلص، وهو فقير مفلس، ذكي غاية الذكاء، وفيه كل الوفاء وله في نفسي مكان خاص”.

ويعرض الكاتب تقريرا بريطانيا بعد وفاة سعد زغلول ذكر أن النحاس مستبعد من خلافة سعد لأنه، على الرغم من شعبيته، “غير موزون عقليا”. وينقل الكاتب أيضا عن محمد صلاح الدين، وزير خارجية مصر في وزارة الوفد الأخيرة (1950-1952) قوله إن النحاس كان في حاجة دوما لمن يسيطر عليه. ويورد الكاتب وقائع تثير الشبهات حول سيطرة مكرم عبيد على النحاس ثم زوجته زينب الوكيل وفؤاد سراح الدين. لكن من أطرف ما أشيع عن النحاس أنه، بسبب حول عينيه، كان يرى القضايا السياسية من زوايا تعز على ذوي الأعين السليمة ويخرج برؤية متوازنة!

ويتجاوز الكاتب هذه الآراء ليركز أكثر في أسباب شعبية النحاس، فيجد أن هناك جانبا سياسيا يتعلق بصورة الوفد نفسه باعتباره الوكيل عن الأمة الذي يُحارب ويُستبعد من السلطة، مما جعله دوما حزب الأغلبية صاحبة الحق الأصيل. وفي الجانب الشخصي، كان النحاس قريبا من الناس في بساطة سلوكه وهندامه وكلامه. وهنا ينقل الكاتب عن شاهد أن النحاس كان يتوقف أثناء خطبه ليسب مازحا من يقاطعه ولو كان يهتف له، وكان هذا مما يقربه من الناس.

وأصبح النحاس الذي كان مستبعدا من رئاسة الوفد لأنه “غير موزون عقليا” زعيما للحزب على مدى ربع قرن لتتعلق به آمال المصريين، واجه خلالها حملات تشويه صحفية وعداء دائما من القصر وانشقاقات كثيرة داخل الوفد ومحاولات اغتيال متكررة.

ويرى الكاتب أن النحاس الذي كان عامرا بالتناقضات ويناور في ساحة كوزموبوليتانية زلقة، خاض حربا ضروسا في سبيل تمسكه بالدستور والحفاظ على الطابع المدني للحكم. وأبرز مثال على هذا موقفه المعارض لحلف الملك فاروق اليمين الدستورية في احتفال ديني في القلعة يقلده فيه شيخ الأزهر سيف جده محمد علي أو إقامة احتفال ديني عقب حلف الملك اليمين في البرلمان، بحسب قول عبد العظيم رمضان في كتابه (الصراع بين الوفد والعرش).

كما أن النحاس هو الموقع على معاهدة 1936 التي قدم فيها تنازلات كثيرة للاحتلال كي ينتزع منهم حرية تعزيز قوة الجيش المصري واستيعاب أعداد كبيرة من الطلاب في كلية الحربية التي التحق بها في العام نفسه الشطر الأكبر ممن عرفوا فيما بعد بالضباط الأحرار الذين أطاحوا بالنحاس نفسه.

والنحاس أيضا هو الذي ألغى الامتيازات الأجنبية والمحاكم المختلطة. والنحاس، مثل الوفد، كان مصلوبا بين ملك يأبى أن يكون دستوريا واحتلال سيدة البحار للقطر المصري وعداء ممن كانوا يطلقون على أنفسهم أصحاب “المصالح الحقيقة” التي يخشون عليها من القوة الشعبية للوفد.

والنحاس الذي قبل الحكم تحت تهديد دبابات الاحتلال حول القصر الملكي في فبراير 1942، هو نفسه الزعيم الذي أشعل ثورة حقيقية وقضى على أسلوب التفاوض السلمي الذي ظل يتبعه لربع قرن، حين ألغى معاهدة 1936 في أكتوبر 1951 ووزع السلاح على الوطنيين في مدن القناة. وكما يقول طارق البشري في كتابه (الحركة السياسية في مصر 1945 -1952) إن الوفد بإلغاء معاهدة 1936 قام بدور ذكر النحل الذي أدى مهمته الغريزية التي كان فيها حتفه.

الكتاب صادر عن دار الشروق في نحو 250 صفحة، وهو زيارة جديدة للنحاس ومحاولة أخرى لإدراك التاريخ بعد كتاب آخر للمؤلف نفسه بعنوان (مصطفى النحاس.. دراسة في الزعامة المصرية) الصادر عن دار الهلال عام 1993.

رويترز