واحة صغيرة في حي نويكولن البرليني
ضفدعان ضخمان من اللون الذهبي البرونزي ممتلئان بالهواء يحرسان المدخل ويتفحصان المارة بنظرات نافذة. ولكنهما يسمحان لكل عابر بالدخول. يمر الزائر بمبنى مطلي باللون الأزرق والأحمر الفاقع، وعلى جبهته الأمامية يرى نمور بأنياب بارزة تقفز من الدوائر النارية، ثم يشاهد غوريلا تحرك رأسها وتفتح فمها عن آخره، وفيلاً يحرك خرطومه الطويل بسعادة في الهواء. وعلى الحائط كلمة: "مانيغه"، مكتوبة بأحرف مضيئة.
عنوان هذا البيت السحري هو رويتر كيتس، روتلي شتراسه 1 – 3 في حي نويكولن في برلين الذي يعتبر بؤرة للصراعات الاجتماعية. واجهة المبنى مصنوعة من الصلب والبوليستر والألياف الزجاجية وكمية كبيرة من الورق المقوى. ويقع البيت أمام مدرسة "روتلي" الرمادية اللون والتي يطلق عليها "مدرسة الرعب" في جمهورية ألمانيا الاتحادية. داخل هذا البيت تم تأسيس الملتقى الفكري للشبيبة المسمى "مانيغه".
على الجدران في كل مكان ألوان ساطعة وفسيفساء. موائد وكراسي وطاولة عالية فوقها نباتات وزهور. خلف الطاولة يقع المطبخ. لا أحد هناك. غير أن موسيقى صاخبة تتصاعد من باب مفتوح. هنا تجمعوا كلهم: قاعة كبيرة تتدلى من سقفها وتتأرجح عناكب وأسماك وقردة مصنوعة من الورق المقوى. "ألمانيا ضد تركيا"، يشرح لنا مومو الصغير، واسمه الحقيقي محمد. ثم يقول مضيفاً إنه يلعب لصالح تركيا. مومو حارس مرمى. أمام مرمى الفريق الألماني تقف فتاة صغيرة القامة ترتدي الحجاب.
"هذا شيء لا يفعله سوى الألمان"
عثمان الزين يجري معهم مرتدياً "تي شيرت" أبيض وبنطلون جينز. "جميل، إلى الأمام، إلى الأمام ... ليس هكذا يا أحمد، لا تدفع الخصم بكتفك!" عثمان هو المدرب ولاعب الاحتياطي لكلا الفريقين في الوقت نفسه. انضم عثمان البالغ من العمر عشرين عاماً وهو بعد مراهق إلى ملتقى "مانيغه"، وهو الآن يعمل هناك. يقول عثمان: "مع الأطفال نقوم بحل الواجبات المدرسية مثلاً، ونطبخ معاً ونساعدهم عندما يتعرضون إلى مشاكل."
معظم الأطفال والشبيبة ينحدرون – مثله - من عائلات مهاجرة أو من عائلات ألمانية مهمشة اجتماعياً تعيش في نويكولن. "أستطيع أن أضع نفسي بسهولة في مكانهم، وبالتالي أستطيع أن أقدم لهم النصح."
يدرس عثمان في الصف الثاني عشر، ويريد أن يحصل على الشهادة الثانوية في مجال الخدمة الاجتماعية. عما قريب سيتحتم عليه أن يقرر ما إذا كان يريد دراسة التربية الاجتماعية أم أن يصبح شرطياً أو إخصائياً في تدريب الأشخاص الذين يعانون من مشاكل في النطق واللغة؛ وهو يود لو يستطيع أن يقوم بكل شيء في الوقت نفسه، إنه الوحيد من بين كل أصدقائه الذي أتم دراسته الثانوية.
أحياناً يطلقون عليه ساخرين "الطَموح" أو "هذا شيء لا يفعله سوى الألمان". ويقول عثمان: ملتقى "مانيغه" كان مهماً جداً بالنسبة لحياتي. "ليس هذا نادياً عادياً للشبيبة. المشرفان على الملتقى، مارتا وفولفغانغ، يهتمان فعلاً بكل فرد هنا، ويشجعان كل شخص على أن يصنع من حياته شيئاً إيجابياً."
في عام 2002 قامت المصورة مارتا غالفيس دو يانتسر مع زوجها الباحث في علم الأدب والناشر فولفغانغ يانتسر بتأسيس نادي الشبيبة في إطار مشروعهما "الاندماج – مشروعات برلين ما بين الثقافية". ويقوم المشروع برعاية الأطفال والشبيبة من أحياء برلين الإشكالية.
عصر الأنماط الثقافية المعولمة
يجلس فولفغانغ يانتسر في الحديقة أمام المبنى، وكالعادة يحيط به الأطفال. بشعره الطويل الأبيض ولحيته وكرشه الذي يهتز عندما يضحك يشبه فولفغانغ "بابا نويل" أو رجلاً عجوزاً كان في شبابه من أتباع حركة الهيبيز. "هؤلاء الأطفال تنمو لديهم القدرة على التحرك في هذا النمط الثقافي المختلط." الأمر يشبه لعبة "البازل" Puzzle: "إننا نأخذ من هنا أو من هناك، ونكوّن اليوم هذا الشكل، وغداً شكلاً آخر."
يدا فولفغانغ يانتسر تكوّنان البازل المتخيل على المائدة أثناء كلامه. ثم يضيف متنبئاً: إن زمن الثقافة الأحادية سينتهي عما قريب. "لن يعود أحد يقول: هذا تركي، هذا ألماني، هذا عربي – العصر القادم هو عصر يتحلى فيه الناس بنمط ثقافي جديد، هو النمط الثقافي المعولم".
ولكن، لا يكاد أحد يسأل في الحياة عن القدرات الثقافية المتعددة التي يملكها الفرد، هذا شيء يعرفه يانتسر أيضاً. إن أطفال المهاجرين في نويكولن "لا يبدأون من الصفر، بل من تحت الصفر بدرجات عديدة." ويضيف يانتسر: إن مَن يذهب إلى مدرسة يشكل فيها أبناء المهاجرين تسعين في المائة من عدد التلاميذ لن يخشى أن يكون ضحية التمييز. "التلاميذ يذهبون إلى تلك المدارس لا لشيء سوى لأن التعليم إلزامي أو للقاء الأصدقاء. إذا سألت الشبيبة هنا عن تصوراتهم بخصوص مستقبلهم المهني، فسيردون: الحصول على المعونة الاجتماعية "هارتس 4"."
الرقص كلحظة من لحظات الحرية
"أعرف أناساً أتموا دراستهم الجامعية ومع ذلك لم يجدوا شيئاً"، يقول برينس أوفوري كير. ولذلك لم تعد لديه رغبة في الذهاب إلى المدرسة. ثم يضيف الشاب البالغ عشرين عاماً: إنني من غانا، ولذلك "لدي عقلية مختلفة قليلاً عن الذين ولدوا هنا." غير أنه يعيش في ألمانيا منذ أن بلغ الثالثة عشرة من عمره.
"اسمي صابر حسين. أنا عراقي، لكني ولدت في نويبورغ الواقعة على نهر الدانوب. نويبورغ هو أحد أحياء أنغولشتات في ولاية بافاريا. أبلغ من العمر الآن واحداً وعشرين عاماً." منذ ستة أعوام انتقل صابر مع والديه ليعيشوا في برلين.
إنهم يجلسون جميعاً في قاعة الرقص في "مانيغه". "هل علينا أن نتكلم بطريقة طبيعية أم مثلما نتكلم دائماً؟"، يسأل صابر وهو يضحك. مثلما تتكلمون دائماً. "إيه، يا عجوز أنت، ماشي الحال؟"، يقول صابر ممازحاً وهو يضرب كتف أحد أصدقائه ... قبل ثلاثة أعوام أتوا إلى هنا – يضيف صابر – باحثين عن مكان يمارسون فيه الرقص. "ولكنهم هنا أعطونا أكثر من ذلك بكثير. المكان هنا يشبه عائلة كبيرة."
"في اللحظات القصيرة التي أرقص فيها، أشعر بالحرية." تلمع عينا برينس وهو يقول ذلك، وتغلب الحماسة على صوته. ولكنه لا يشعر بالحرية أبداً في الحياة الحقيقية. "إذا أردت الدخول إلى النادي، وأبرزت لهم بطاقة هويتي عند الباب، فإنهم يقولون: لا، أنت لن تدخل إلى هنا."
وعندما يتقدم شخص من نويكولن إلى وظيفة، هكذا يقول برينس، "فبمجرد أن يرى الناس أن لدي شهادة من مدرسة روتلي مثلاً، حتى لو كانت كل درجاتي ممتازة، فعلى الفور يصدر الحكم ضدي." الآن يضرب صابر على كتفه ضاحكاً وهو يقول: "ولكن ربما يستطيع السيد حسين أن يقول شيئاً بهذا الشأن." صابر: "وهكذا يتراكم الغضب في داخل الواحد منا، ونقول: طيب، إذا لم ننجح في الدخول بطريقة شرعية، فلندخل بطريقة غير شرعية."
حتى الآن كانت لديه مشاكل عديدة مع الشرطة، وأيضاً في المدرسة واجهته صعوبات كثيرة: "لقد مكثت ثلاث سنوات في الفصل الدراسي السابع، ولم أستطع أبداً أن أنجح كي أنتقل إلى الفصل الثامن." من المعلمين كان يستمع إلى قولهم: "إن كل الأجانب ببساطة كسالى ولا يستطيعون شيئاً." وفي يوم ما قلت لنفسي: "حسنا، سأظهر لفلان ما أستطيع. وهكذا تقدمت مرة أخرى للامتحان النهائي ونجحت فيه، وحصلت على الشهادة الإعدادية، وبعد أسبوع سأحصل على شهادة إتمام فترة التدريب كتاجر تجزئة."
الكل يعرف الراقصيْن في ملتقى "مانيغه". إنهما يقومان بالتدريس وتنظيم الفعاليات وينشران أجواءً إيجابية في الملتقى. من القاعة يتردد صدى موسيقى الهيب هوب. على الفور يقفز برينس ويرقص بعض الرقصات، ثم يجلس مرة أخرى.
"لقد أجرينا هنا مباريات عديدة في الرقص، ومن كافة أنحاء ألمانيا كان الناس يأتون إلى هنا ليتفرجوا على هذه الرقصات." ولكن أحداً لم يسافر كي يكتب عن هذا المتلقى. "لو كنا نتقابل في كل شهر لكي نتشاجر ونضرب بعضنا بعضاً لكانت كل القنوات التلفزيونية قد أتت إلى هنا لتصويرنا."
الأجانب: عنف وبطالة وغياب الاندماج
طرقات الشواكيش وصوت المبارد والمناشير. "ناولني الفرشاة!" في المكان تتناثر عبوات الألوان والغراء وقصاصات الصحف. هذه هي الورشة، أو بالأحرى الورشة الفنية لملتقى "مانيغه". امرأة قصيرة القامة بشعر بني مجعد ترتدي بدلة العمل الزرقاء وتجري هنا وهناك معطيةً إرشاداتها وتعليماتها، ثم تعود لتعمل في الثعبان الورقي الضخم. هذه هي المشرفة مارتا غالفيس دو يانتسر. "عندما أقوم بصنع عمل فني وأعرضه هنا في الشارع أو في مدرسة أو حضانة أطفال، فمعنى هذا أني أعرض جزءاً من وقتي وتاريخي. هذا تأثير خارق ولا يفوقه شيء"، هكذا تصف المديرة عملها مع الأطفال، "من خلال هذا العمل تتوحد هويتي مع المكان الذي أعيش فيه."
قبل ثلاثين عاماً هاجرت غالفيس دو يانتسر من كولومبيا إلى أوروبا. وهي تقول عن المهاجرين في ألمانيا: "المهاجرون هم كبش الفداء في هذا العصر. طفل المهاجر يولد هنا وعلى جبينة وصمة." ثم تتحدث بصوت أعلى: "إن مصطلح "المهاجر" يرتبط في أذهان الناس بمصطلحات مثل العنف والبطالة وعدم الاندماج." ثم تتوقف عن الكلام وتضيف بصوت منخفض: "هذا أمر مخجل في رأيي." ثم تضحك مرة أخرى: "إني أحب هؤلاء الأطفال. إذا كان أطفال الأجانب أشراراً جداً جداً، فهذا ببساطة هو الثمن الذي علينا أن ندفعه: إذا زرعنا الخير، فسنحصد الخير أيضاً، أنا مقتنعة بذلك تماما".
نعيمة الموسوي
ترجمة: صفية مسعود
قنطرة 2008
قنطرة
جمعية "ميغرانتاس" الفنية:
صوت المهاجرات....لغة الجداريات
تسعى جمعية "ميغرانتاس" الفنية والتي تتخذ من برلين مقرا لها من خلال الرسومات الإيحائية واللوحات الجدارية التي ترسمها بعض المهاجرات إلى التعبير عن آراء النساء المهاجرات في ألمانيا والقضايا التي تواجههن. نعمت شيكير تعرفنا بهذه الجمعية ونشاطاتها.
سياسة ألمانيا حيال الاندماج والهجرة:
قانون الهجرة الجديد يُصعِّب اندماج المهاجرين!
ينتقد محمد كيليتش رئيس المجلس الاستشاري الاتحادي لشؤون الأجانب في هذا التعقيب قانون الهجرة الألماني الجديد، الذي يصعب حسب رأيه اندماج الأجانب في ألمانيا.
حوار مع المحامية التركية سايران آتش حول كتابها الجديد:
التعدد الثقافي بين الحقيقة والوهم
تمثل سايران آتش الطرف الأكثر حضورا في ألمانيا، كلما تعلق الأمر بمسألة الاندماج. المحامية التركية الأصل تطالب بموقف أكثر صرامة تجاه المسلمين. كاترين إردمان في حديث معها حول أخطاء اليسار ومسألة سياسة الاندماج.