الحوار ضروري
تعبير "الإسلام السياسي" لا نجده في النصوص القرآنية ولا الأحاديث النبوية ولا أمّهات الكتب الإسلامية، كما أنّ الحركات والجماعات الإسلامية التي ظهرت في القرن الميلادي العشرين لم تستخدم هذا التعبير على امتداد عشرات السنين. رغم ذلك انتشر استخدام هذا التعبير في المواقف السياسية والكتابات الإعلامية والفكرية في الآونة الأخيرة بشكل خاص.
فمن أين ظهر؟ وما المقصود به؟ وما علاقته بالإسلاميين، علما بأن كلمة إسلاميين أيضا حديثة النشوء وانطلقت في المنطقة العربية للتمييز بين المسلمين العاملين في تنظيمات إسلامية للدعوة إلى التمسّك بتطبيق الإسلام في الحياة والحكم، وبين عامّة المسلمين؟
مجرّد "تعبير إعلامي"؟
لا نستطيع وصف هذا التعبير بأنّه مصطلح، وإذا صنعنا ذلك تجاوزا فلا نستطيع أن نجد له معالم محدّدة تبيّن المقصود منه بصورة قاطعة، تسمح باستخدامه بحيث يفهم القارئ ما يريده الكاتب، دون الحاجة إلى بيان مقصوده من خلال عبارات إضافية.
على النقيض من ذلك نجد كلمة "المواطنة" مثلا، أو "حقوق الإنسان"، أو "سيادة الدولة" قد ارتقت إلى مستوى "مصطلحات" نستطيع بصددها العودة إلى نصوص مواثيق دولية متفق عليها عموما، وإلى دراسات جامعية منهجية، ولا يضعف من شأنها وجود خلافات ناشئة عن مدى الالتزام أو عدم الالتزام بتلك المضامين المحدّدة في عالم التطبيق العملي لما ينبني على تلك المصطلحات من تبعات.
أمّا تعبير "الإسلام السياسي" فقد يستخدمه الباحثون، ولكن كلّ من وجهة نظره، وعلى حسب اقتناعاته الذاتية، ويستخدمه الإعلاميون تارة للتعبير عن "واقع قائم" كما يراه كل منهم، وأخرى للتعبير عن رأي قد يكون مقبولا أو غير مقبول، بل كثيرا ما بات التعبير يُستخدم في صيغة توجيه "الاتهام" لفئات معينة من التنظيمات الإسلامية، وأحيانا لها جميعا دون تمييز.
إسلام واحد فقط
من المنطلق الإسلامي يسهل القول –رغم تعدّد المذاهب والمدارس الفقهية والفكرية- إنّ الإسلام واحد من حيث مبادئه ونصوصه الأساسية وتشريعاته الثابتة في النصوص القرآنية والنبوية، فلا يوجد شيء اسمه إسلام سياسي وآخر غير سياسي، وإسلام اجتماعي وآخر خيري وثالث اقتصادي وهكذا.
إنّما يوجد الإسلام الذي يشمل من حيث مبادئه ونصوصه الأساسية وتشريعاته الكبرى سائر الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية وسواها. وهو الإسلام الذي تقول التنظيمات الإسلامية إنّها تدعو إليه، وإن ركّز بعضها على جانب دون آخر، وإنّما نشأت تلك التنظيمات في القرن الميلادي العشرين مقابل انحسار تطبيق الإسلام –وليس غياب وجوده أصلا- على صعيد الدولة، وبالتالي تغييب جوانب معيّنة منه، ومنها الجانب السياسي، عن التطبيقات العملية.
هذا ممّا يفسّر أنّ تلك التنظيمات، بما فيها تلك التي ركّزت على الجانب السياسي، لم تجد حاجة إلى استخدام تعبير "الإسلام السياسي" لبيان أهدافها، إنّما انطلق استخدامه حديثا نسبيا، ويصعب القول هل كانت البداية في الإعلام الغربي أم العربي.
ولكن من الواضح لمن يتابع الكتابات التي تستخدم هذا التعبير أمران، أوّلهما أنّه يُستخدم من منطلق سلبي، ناقد، رافض. وحتى منطلق الاتهام الذي يريد إيجاد صلة ما، بين التعبير وبين تعابير أخرى سبق انتشارها بصورة مشابهة، مثل "الأصولية الإسلامية" و"الإرهاب الإسلامي".
والأمر الثاني هو أنّ انتشار هذا التعبير اقترن بظاهرة لا تلفت النظر لأوّل وهلة، ولكنّ المتابعة الدقيقة لوسائل الإعلام، في الغرب، ووسائل إعلام عربية اعتادت تبنّي معظم ما ينتشر في الغرب على هذا الصعيد، تكشف عن أنّ التمييز في فترة سابقة بين تعابير من قبيل: الإسلاميون المعتدلون والإسلاميون المتطرفون وما شابه ذلك، قد توارى تدريجيا، فكلمة "إسلامي" (Islamist) باتت وحدها الأكثر استخداما لوصف سائر التنظيمات الإسلامية، جنبا إلى جنب مع ربطها –سلبيا- بتعبير "الإسلام السياسي".
الحوار.. مع من؟
في إطار هذه المعطيات يطرح السؤال نفسه عن موقع هذه التوجّهات السياسية والإعلامية من الدعوات المتواصلة تحت عنوان الحوار بين الإسلام والغرب. إذ لا يخفى على أصحاب هذه الدعوات من الجانبين، أنّ الحوار لا يتحقق مفعوله دون أن يجري بين طرفين، وأنّ المغزى من الحاجة إليه وجود اختلافات في الرؤى والأفكار بينهما،.
ووجود التنظيمات الإسلامية في البلدان الإسلامية عموما، وفي البلدان العربية على وجه التخصيص، جنبا إلى جنب مع ظاهرة التدين الواسعة النطاق، يمثل الطرف الذي يختلف في كثير من رؤاه وأفكاره –وليس فيها جميعا- عن الرؤى والأفكار الغربية، بينما كانت الأنظمة القائمة والتيارات المرتبطة بها، هي الأقرب إلى الغرب دون "حوار" ودون الحاجة إلى حوار بالمعنى المنطقي للكلمة.
استعداد دائم للحوار
والحجّة القائلة إنّ انتشار التطرّف والإرهاب تحت عناوين إسلامية تمنع من الحوار مع تلك التنظيمات حجّة ضعيفة، يردّ الواقع الغربي عليها، ليس فقط من حيث وجود التطرّف والإرهاب فيه ابتداء فحسب، بل كذلك من خلال حقيقة أنّ الحوار لم ينقطع بين الفكر السياسي وغير السياسي المستقرّ في المجتمع، وبين التنظيمات القريبة أو المتّهمة بأنّها قريبة من تنظيمات المتطرّفين والإرهابيين، وليس مثال إيرلندا الشمالية مجهولا على هذا الصعيد.
كما يردّ على هذه الحجة واقع التنظيمات الإسلامية في البلدان العربية والإسلامية، والتي سجّلت في الحقبة الماضية استعدادا كبيرا ومتنامية للحوار مع الآخر، داخل الحدود، وباتجاه الغرب أيضا، ولا تنقطع المواقف التي كانت وما تزال تمثل الاتجاه "الوسطي" وفق المصطلحات الإسلامية، أو "المعتدل" وفق المصطلحات المتداولة عموما.
إنّ الحوار بين الإسلام والغرب، يتطلّب صيغة كتلك التي وجدت طريقها إلى التطبيق على صعيد التعامل مع اتجاهات موجودة في السلطة، كما هو الحال مع الصين أو إيران، فهو لا يمنع النقد المتبادل، ولكنّ النقد أيضا لا يقطع الحوار نفسه.
وإذا كانت لغة المصالح المادية هي التي لعبت دورا حاسما في استمرارية الحوار مع الصين وإيران وغيرهما على امتداد عشرات السنين، فمن المفروض أن تلعب القوى الغربية بشكل خاص دورا إيجابيا في ترسيخ الدعوة إلى الحوار مع ما تسمّيه "الإسلام السياسي" ومع التنظيمات التي تمثله، داخل حدود البلدان العربية والإسلامية، وعبر الحدود مع الغرب.
فالمصالح المادية لا تتحدّد وفق أوضاع آنية فحسب، وتنامي ظاهرة ما يسمّى "الإسلام السياسي" تنظيميا كما تشهد الانتخابات حيث تسمح الأنظمة بإجرائها، جنبا إلى جنب مع تنامي ظاهرة "التديّن" شعبيا، يؤكّد أنّ مستقبل المصالح المادية مع العالم العربي والإسلامي مرتبط ارتباطا وثيقا بمفعول هاتين الظاهرتين في إطار صناعة مستقبل المنطقة.
نبيل شبيب صحفي فلسطيني يعمل في القسم العربي في إذاعة دويتشه فيلله