"وود ستوك مغربي"
بلغ المهرجان ذروته عندما صعد المعلم محمود غويني أستاذ الكناوة الموقّر مع عازف البيانو الشيخ تيديانه سيك Tidiane Seck ذي الأصول الإفريقية المالية. فصدحت نغمات وأغان ممعنة في القدم فوق باب مراكش. إلا أن الجمهورَ الذي أنصت إلى وقع موسيقى الكناوة التقليدية هو جمهورٌ شابٌ بالغ التنوع وحديث.
حوَّلَ المهرجان منذ عام 1998 المرفأ الهادئ على ساحل الأطلسي إلى منصةٍ ضخمةٍ في الهواء الطلق. ويعمِّم المهرجان على المكان أجواءً من الغليان، حيث لا يفكر أحدٌ بالنوم لعدة أيام. هذا الجمهور الذي يزدحم في الأزقة الضيقة للمدينة ليلةٍ بعد ليلة، يكاد لا يفوقه جمهورٌ آخر في تنوعه. حيث قدم آلاف السيّاح إلى المدينة واختلطوا بالمغاربة بكل فئاتهم: من مرتديي الجلابية إلى النساء المحجبات وحتى الطالبات المتأنقات.
الصويرة – قِبْلَةُ أصدقاء الكناوة
يمثِّل المهرجان الحدث السنوي الرئيس بالنسبة للجيل الشاب في المدن الكبيرة، فهم يسافرون بالحافلات الغاصة بالركاب من الدار البيضاء ومن الرباط بتسريحات دريد لوك Dreadlock الرائجة لدى السود وبأزياء البانك أو بقمصان تزينها صور بوب مارلي.
لا أحد منهم يريد تفويت فرصة حضور أكبر مهرجانٍ عالميٍ في المغرب إن لم نقل في مجمل القارة الإفريقية. الغرف في الفنادق محجوزة كليًا، حتى أن الكثيرين من السكان المحليين يسكنون في هذه الفترة لدى أقرباء لهم ليتسنى لهم تأجير بيوتهم، فيكسبوا بذلك بضعة دراهم إضافية.
مهرجان الكناوة قصة نجاح بامتياز: فقد بدأ بإمكاناتٍ ماليةٍ متواضعةٍ، إلا أن ميزانيته بلغت هذا العام 600 ألف يورو فتضاعفت بذلك عشر مرات عما كانت عليه في البداية. ويحضر المهرجان أكثر من 400 ألف زائر سنويًا منذ العام 2004. كما كان عددٌ كبيرٌ من الفنانين المشهورين ضيوفًا لدى الكناوة، فلقد عزف في هذا المهرجان كل من جو زاوينول Joe Zawinul أو بات ماثيني Pat Metheney. وكان يوسو ندور، ساليف كايتا، وفرقة (زا ويلرز) أو رشيد طه من جملة من حضروا أيضًا من مشهد الموسيقى العالمية.
هذا الخليط بين الصوفية والموسيقى في الكناوة كان قد لفت اهتمام الكثير من رحّالة العالم من الغرب في الستينيات من القرن الماضي. موسيقيو الجاز مثل راندي ويستون Randy Weston وآرشي شيب Archie Shepp قدِموا إلى المغرب لتقديم حفلات جاز مع موسيقى الكناوة. وصارت مدينة الصويرة بالنسبة للهيبيين حينذاك قِبْلَةَ الموسيقى، حيث مكث جيمي هندريكس هنا لعدة أشهر، كما أسر سحر الكناوة أيضًا كات ستيفينس Cat Stevens وليد زيبيلين Led Zepplin.
تجارب موسيقية ولقاءات
لا زال الموسيقيون يأتون من كل أنحاء العالم إلى مدينة الصويرة حتى يومنا هذا لكي يعزفوا مع الكناوة. وكما يقول الموسيقي كريم زياد وهو أحد المشاركين في تنظيم المهرجان: "لا توجد لقاءاتٌ عفويةٌ كهذه في أي مكانٍ آخر. لا بل يحتل الارتجال والتبادل الموسيقي موقع الصدارة هنا". إلا أن عازف الدرامز الجزائري يتحدث أيضًا عن إشكاليات في التواصل ويقول بهذا الصدد: "إيقاعات الكناوة شديدة التركيب، ولا يمكن كتابة نوتتها الموسيقية إلا فيما ندر. هذا يؤدي إلى الإرباك في الكثير من الأحيان".
لا تفلح تجارب الموسيقى العالمية دائمًا. فلم يخرج عن "مشروع روك الكناوة" سوى صورة استعراضية، وقد كان عازف الباص الفرنسي لوي ايرليش Loy Ehrlich يريد التذكير بلقاء الهيبيين بالكناوة من خلاله. بينما تطغي الصور النمطية لجيمي هندريكس على فرقة "الكناوة كومبو" للمعلم سعيد بولحيماس.
تبقى الحفلات الموسيقية التي يلتقي فيها الفنانون الأفارقة مع بعضهم البعض هي الأفضل من ناحية النوعية والأقوى من حيث التأثير. ونلاحظ ذلك مثلاً عندما تحتفل كناوة المعلم عبد الكبير مرشانه على المنصة بثقافة الموسيقى الأفريقية سويةً مع فرقة الإيقاع "يايا اواتارا دوبا ديو" من بوركينا فاسو وعازف الكورا السنغالي سوريبا كوياته Soriba Kouyaté.
ولأوساط موسيقى الجيل الصاعد في مدينة الصويرة مكانها الخاص أيضًا: إذ يقدِّم موسيقيو الدي جي المغاربة Elektro-DJs عرضًا مشتركًا على المنصة الواقعة على الشاطئ مع فرقة "آسيا دوب فونديشين" "Asian Dub Foundation" القادمة من لندن.
إلا أن الحماس الأكبر للجمهور يتجلى بلا شك بوجود فرقة "هوبا هوبا سبيريت" "Hoba Hoba Spirit". وتعتبر هذه الفرقة ممثلةً لفِرَق الجيل المغربي الجديد للموسيقى الممزوجة (Fusion-Bands)، وهي فرقٌ تمزج أنغام المغرب التقليدية مع موسيقى الروك والريغي وتأخذ على عاتقها مهمة التعبير عن أصوات الشبيبة المغربية المناهضة للأوضاع السياسية في البلاد.
الحزن الموسيقي والانتفاض
كانت طبيعة المشهد الموسيقي المغربي قاحلةً كالصحراء حتى أوائل التسعينيات من القرن الماضي. ولم يكن هناك سوى كاسيتات موسيقية منسوخة من الغرب، أو موسيقى راي سطحية من الجزائر، أو أغاني الشوق العربية في إذاعات الدولة.
لذلك يمثل مهرجان الصويرة نقطة انعطاف مهمة للمغرب. يقول ازول ازولاي، أحد المشاركين في تأسيس المهرجان ومستشار العائلة المالكة في الوقت ذاته في هذا الصدد: "لم يكن هناك سوى الارتياب في البداية. ولم يعتقد أحد بأنه من الممكن تنظيم شيءٍ من هذا القبيل. أما الآن فتقيم كل مدينة كبيرة مهرجانها الخاص".
لذا يبذل الملك الشاب محمد السادس الجهود لتحديث البلد من خلال الإصلاحات الديمقراطية، فيما كانت الثقافة واقعة تحت الاشتباه العام بالتآمر في ظل حكم أبيه. أما مهرجان الصويرة فيعكس اليوم صيرورة الانفتاح هذه وتقوم الصويرة بدور راعية صورة البلد والدعاية للسياحة في المغرب.
حتى أن الصحافة المغربية تكتب عن "مهرجان وود ستوك مغربي" [نسبة للمهرجان الأمريكي الشهير في الستينيات] وعن "روح الصويرة". وتكتب المجلة اليسارية "جورنال هيبدو"“Journal Hebdo” إن الصويرة هي جادة الضيف المكرَّم. وبالفعل يمكن حضور كل الحفلات الموسيقية في الصويرة بدون مقابل.
غضب الإسلاميين
الإسلاميون يعدّون هذا انحلالاً أخلاقيًا وينعتونه توجُّهًا للثقافة الغربية
بيد إن الأمر لا يقتصر على الخبز والحفلات للشعب. لا، فمهرجان الصويرة هو أيضًا مسرح لصراع ثقافي، حيث يحتمل أن يربح حزب العدالة والتنمية الإسلاموي الانتخابات البرلمانية القادمة.
ويشهِّر حزب العدالة والتنمية بتوجُّه المغرب إلى الغرب. فيسمي مهرجان الكناوة مرتعًا "للفجور والمخدرات والمِثليَّة". كما يجري التحريض ضد إقامة حفلات الهواء الطلق للشبيبة في "شارع الشبيبة الموسيقية" في الدار البيضاء أيضًا. وتعلق مجلة "تيلكيل" "Telquel" المغربية على هذا بإن: "حزب العدالة والتنمية يرى في ذلك مزيجًا من قوم عاد وثمود".
إلا أن الجمهور في الصويرة لا يعير اهتمامًا لهذه التشويهات والتهديدات. هنا يرقص النشء المغربي، من أطفال الشوارع المدمنين على شمّ الغراء المخدِر إلى تلاميذ المدارس المتهندمين بأردية الهيبيين الجديدة وحتى المرتدين لألبسة الموضة الأنيقة. الكل يتمتع بالموسيقى بغض النظر إن كانت هذه الموسيقى موسيقى الكناوة أو الهيب هوب.
دافيد زيبرت
ترجمة يوسف حجازي
حقوق الطبع قنطرة 2007
قنطرة
الكنَاوَة بين الفن والطقوس الدينية
طقوس الكناوة شهادة على تأثير ثقافة غربي إفريقيا على المغرب، ولا يوجد أي مكان تتمثل فيه ما يسمى "بالأفرَقَة" بشدة كما هو الحال في مدينة الصويرة، حيث شهد الصحفي اندرياس كيرشغِسنر إحدى مراسم الكناوة الشعائري
نجوم الموسيقى الغربية في المغرب
أجيال من الموسيقيين الغربيين ابتداء من الستينات توافدوا على المغرب للتعلم من موسيقيي الكناوة، الذين تعود جذورهم إلى عبيد كانوا يعملون في حقول قصب السكر. بقلم أندرياس كيرشغاسن