Against the Flow
في بيئةٍ مشحونةٍ بالرموز، تحدد العواطفُ والأحداثُ السياسية الكبرى إيقاعَها اليومي، تضيع التدرجات والفوارق الدقيقة في صخب الواقع الإعلامي. بيد أن هذه الفوارق الدقيقة هي التي تـُبرِزُ النفحات العاطفية الرقيقة فتجعل الواقع المُعاش قابلًا للاستيعاب، أكثر مما هو نظيرها الإعلامي قادرٌ على فعله على الإطلاق. وعندما يتمكّن الفن من هضم الفوارق الدقيقة وإعادة صياغتها يتحول إلى زخمٍ هائلٍ ويترسخ في ذاكرة كل مشاهد، وهي مسألة لا يفلح الفن فيها دائمًا.
لدى افتتاح أول بينالي فلسطيني في مهرجان "قلنديا الدولي"، كان هناك أملٌ في اغتنام الفرصة لإظهار النبرات الرهيفة. وقد سُمي المهرجان على اسم نقطة تفتيشٍ إسرائيليةٍ شهيرةٍ تقع بين رام الله والقدس. وافتتح بين أنقاض مزرعة وأشجار الزيتون في قرية قلنديا. "تصطدم المفارقات ببعضها البعض في قلنديا: ففي وقت سابق شكل المطار الدولي القائم هناك نقطة الوصل مع العالم، أما اليوم فترمز قلنديا للفصل والعزلة والتفتت"، يقول جاك برسكيان مدير البينالي الفني ومدير مؤسسة المعمل للفن المعاصر.
يصف برسكيان البينالي بأنه "تضافر تاريخي للقوى المنظمة للمهرجان"، فبدلًا من التنافس على المصادر المالية، استطاعت سبع منظمات فنية وثقافية أنْ تتعاون مع بعضها لتنظيم حدث فني ذي مستوى عالمي. ولأول مرّة تتعاون مؤسسات فنية وثقافية في رام الله والقدس والناصرة وتجمع معارضها السنوية في برنامج واحد.
نشأت فكرة التعاون في الأصل بين معرض القدس السنوي الذي تقيمه مؤسسة المعمل للفن المعاصر وبينالي فن العمارة الرابع الذي أعدته "رواق"، وتوسعّت الفكرة في مسار العام الماضي ليشمل سبع مؤسسات وسلسلة من الفعاليات الأخرى كالأمسيات الأدبية والندوات الحوارية والمعارض الاستعادية.
وبحسب جاك برسكيان "لا يمكن الحديث بعد عن بينالي. إلا أننا نأمل أن نكون قد أطلقنا الفكرة". والآن لا بد وأن تـُستتبع هذه الكلمات بأفعال، لكي لا يبقى البرنامج الطموح استعراضًا للمؤسسات المشاركة وليتحول إلى بينالي قائم بذاته.
قلنديا ـ تجسيد للتناقضات وللواقع الفلسطيني
لا يبدو مستغربًا اعتماد البينالي الفلسطيني الأول للفن المعاصر اسم قلنديا. فقلنديا تقف على النقيض من العالم الجديد الجميل في رام الله بمقاهيها وسياراتها الجديدة وازدهارها العمراني الذي لا يتوقف.
إنها قلنديا التي تمثل أكثر من أي مكان آخر رمزًا للواقع الفلسطينيين وللجمود السياسي الراهن الوخيم. وبين مطرقة وعود أوسلو وسندان الحاضر المخيب نكاد لا نجد حيزًا للإبداع. ولا يحجب الاعتراف الأخير في الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 29 تشرين الثاني/نوفمبر 2012 هذا الواقع، على الرغم من قيمته الرمزية الكبيرة، لأنه لا يُحدث تغييرًا يُذكر في الواقع الراهن.
سير على الحبل المشدود
كان للجمود المستمر في الصراع الفلسطيني الاسرائيلي منذ عقودٍ عواقبه على الفن في فلسطين أيضًا، لذلك فان تقديم الدعم لصناع الفن الفلسطيني يعد من أكبر التحديات التي تواجه عالم الفن الفلسطيني، وذلك رغم الصعوبات في البنية التحتية لكي يتسنى لهم البحث والتحضير لفترة طويلة من الوقت، دون المراهنة على المعالجة السريعة للرموز السياسية.
وفي الواقع لن تستطيع السوق العالمية ملء هذه الفجوة على المدى الطويل إلا على مراحل، إذ يتقدم ما يبدو سياسيًا إلى الواجهة ويطغى على التفاعل الحثيث مع الوضع القائم أكثر مما ينبغي. يوهم التصفيق الأول بالنجاح، إلا أنه لا يدوم طويلًا. ويغدو التعامل الفني مع حاضر وإشكالية الواقع الفلسطيني بمثابة السير على الحبل المشدود بين إشارات مُفرغة من المعنى والتفاعل الحثيث مع مظاهر تبدو هامشية، بما في ذلك السقوط.
مثال للتعاطي السطحي مع السياسة
يقدم عمل خالد جرار، الذي عُرض في الافتتاح الذي أقامته الأكاديمية الدولية للفنون مثالًا على ذلك من خلال الخرسانة المصبوبة على شكل كرة قدم على قاعدة تـُعرض خلفها مشاهد فيديو للجدار الفاصل الحقيقي. يعبث الفنان بالمواد المكوِّنة للعمل وبالتطلعّات وبالسطوة السياسية للجدار الفاصل، لكنه لا يتعمّق للأسف في المعالجة الفنيّة، مقدمًا للمشاهد أقصر علاقة سببية بين نقطتين، إذ لا يقدم اختيار جدار الفصل باعتباره رمزًا للقمع والاحتلال الإسرائيليين أية معارف جديدة وبالتالي لا تحث هذه السهولة على متابعة التفكير.
تصدّر البرنامج بوضوح المعرض المشترك بين مؤسسة المعمل للفن المعاصر ورواق وقد حمل عنوان "علامات في الزمن" Gestures in time وأشرفت عليه القيِّمتان الفنيَّتان كاتيا غراسيا أنطون ولارا خالدي.
وضمن تقليد "معرض القدس" Jerusalem Show ، الذي يعقد سنويًا في المدينة القديمة، استخدمتا البيئة التاريخية باعتبارها مكان عرض متاحًا للجمهور. حيث تربط مؤسسة المعمل للفن المعاصر منذ العام 2007 المنطقة المحاذية للمدينة القديمة في فعاليتها السنوية "معرض القدس" وتنظم بذلك أحد أهم فعاليات الفن في فلسطين حيث تم التعامل مع القدس الشرقية بوصفها موقعًا متاحًا لعرض الأعمال الفنية، يوفِّر حيزًا للفن المعاصر ويشكل بحضوره موقفًا سياسيًا في الوقت ذاته.
لم يستطع معرض "علامات في الزمن" الأخذ بهذه الفكرة إلا بشكلٍ جزئيٍ، لأنَّ المعرض لم يركّز على القدس وحدها، إنما شمل أيضًا مواقع أخرى في شمال وجنوب الضفة الغربية. كما تناولت الأعمال التي اختارتها كاتيا غراسيا أنطون ولارا خالدي مواضيع مثل السخط على السياسة وانعدام الثقة بالأنظمة الحكومية ومدى قدرة الفرد على التفاعل مع الحاضر بشكل إبداعي وجمالي.
ومن الأعمال التي نجحت في ذلك عمل مارتن سوتو كليمنت المفاهيمي بامتياز، والذي يحاول الإحاطة بمحلية حمّام العين القديم، ليعيده بشاعرية إلى المشاهد، حيث تبقى نفحة من الإجلاء والوحشة قابعة في الفضاء.
صعوبة البحث عن متنفسٍ
بدا أنَّ البحث عن متنفسٍ وعن أشكالٍ جديدةٍ للتعبير عن الوجود الراهن في هذه المنطقة، والذي لا يمكن وصفه هو الموضوع المشترك في المعرض. النزال عبر استخدام شكلٍ جديدٍ يسعى للرد على الفراغ الداخلي للنظام الرأسمالي العالمي. وهناك حقًا بعض الأعمال التي تجد إجابةً فعليةً وتجد نوعًا من التوازن بين الماضي والحاضر الخائب والمُحبِط.
يبرز على نحوٍ خاصٍ العمل الشاعري للفنانين روان أبو رحمة وباسل عبّاس الذي عُرض في صالة صارت مؤخرًا من صالات عرض مؤسسة المعمل بعد أن كانت مصنعًا للبلاط في القدس القديمة. عملهما „The Incidental Insurgents: A story in Parts: The Part about The Bandits“ "المتمردون عرَضيًا: قصة على أجزاء: الجزء الخاص بقطاع الطرق" من الأعمال القليلة التي تعكس الإحساس بالحياة و -علامات في الزمن - بشكلٍ فنيٍ عميق.
بمساعدة نصوص أدبية كتبها فيكتور سيرج Victor Serge (1910) وروبرتو بولانو Roberto Bolano (1970) ومن تقارير واقعية عن المتمردين أبو جلدة والعرميط في الثلاثينيات في فلسطين، حقق الفنانان عملًا شاملًا يعكس بصريًا ومكانيًا بوضوحٍ مهيبٍ حالة الانشداه والسلبية المؤلمين إزاء بنىً تبدو قاهرة. يعرض عمل الفيديو سير سيارة إلى اللانهاية. وبحث محموم عن مخرج، ترافقه إيقاعات إلكترونية مكتومة تـُذكِّر على نحوٍ بعيدٍ بضربات القلب. وتحل اقتباسات من الأعمال الأدبية بالأصفر الفاقع محل السرد.
لغة جديدة لم لا صوت لهم
قوة الصور والنصوص يجري تلقفها في الغرفة المجاورة من خلال سكون التركيب الفني في الصالة: مكتب تمت مغادرته في حالة ذعر، مليء بالملاحظات والمطبوعات حول المشروع. يغوص المشاهد في مسار عمل الفنانين، ويستطيع تتبّع أفكارهما الخاصة بالموضوع، واستخلاص النتائج بنفسه.
لكن بالرغم من كل ما يظهر من دقة أكاديمية، لا يستغني العرض عن نقل الشعور للزائر بأنه في حالة هروب سوية مع الفنانين. استطاع أبو رحمة وعبّاس بتركيبهما الفني والفيديو العثور على لغةٍ للتعبير عن الانشداه والشوق لأشكال مقاومة جديدة، وقد أحاطوا بذلك بتدرجات النبرات الدقيقة الساكنة، التي يمكنها إبراز أحاسيس الفلسطينيين الراهنة أكثر بكثيرٍ من عددٍ كبيرٍ من الأعمال الفنية السياسية الأخرى.
يعتبر تضافر أكبر مؤسسات الفن والثقافة في فلسطين بالتأكيد خطوة صحيحة تجاه مستقبلٍ غامض. إلا أنَّ هذا لا يمكنه وحده إنقاذ البينالي القادم والمشهد الفني في فلسطين على مر السنين. لذلك ينبغي على المؤسسات اغتنام الفرصة وعدم الاكتفاء بجمع برامجهم السنوية العادية بجانب بعضها البعض، إنما تطوير برنامج مستقل يطرح القضايا الملحة لتطوير المشهد الفني في فلسطين بجرأة لا أنْ يقتصر البرنامج على السعي للفت انتباه سوق الفن العالمية وحسب.
إنَّ إحداث تغيرات في البنية التحتية والتضافر بين المؤسسات من شأنهما تشجيع الفنان الفلسطيني على إجراء أبحاث مكثّفة، قبل إطلاق أفكاره في الحيز العام. ومن شأن هذا أنْ يجعل من مهرجان قلنديا الدولي منبرًا لنقاشٍ ناقدٍ (للذات) ونقاش إبداعي حول عصرنا الحديث فيغدو بالتالي منارةً حيويةً للإبداع في المنطقة ويكون إشارةً معاكسةً لتيار الفعاليات عالية النبرات ولكن الخالية من المضمون.
علياء ريان
ترجمة: يوسف حجازي
تحرير: لؤي المدهون
حقوق النشر: موقع قنطرة 2013