أعتبر نفسي فلسطينيًّا
في بيت من الصنف الإنكليزي بجدران من الآجرّ الأحمر غير بعيد من وسط مدينة لندن المفعم بالحيويّة يقطن عازف الجاز غيلاد عتزمون مع زوجته المغنّية تال عتزمون وطفليهما. رزنامة عمله المكتظّة لا تكاد تترك له وقتًا لعائلته، ذلك أنّه ومنذ أن حصل مع فرقة "Orient House Ensemble" في شهر يوليو/تموز الماضي على جائزة البي بي سي لأحسن ألبوم جاز، قد غدا مطلوبًا أكثر من ذي قبل، هو الذي سبق له أن اشتهر بعزفه مع الرّاحل يان دوري أسطورة الجاز.
داخل بيته، بين المطبخ والبيانو وغرفة الأطفال يدور الحديث باللغتين الأنكليزيّة والعبريّة. وغيلاد عتزمون ولد ونشأ في إسرائيل مثله مثل أبويه. إلاّ أنّه أولى ظهره إلى الدولة اليهوديّة وأصبح منذ زمن غير بعيد مواطنا بريطانيا، وليس ذلك بسبب دوافع مهنيّة فقط، يوضّح غيلاد عتزمون، بل لأنّه أيضًا يرفض إيديولوجية الدولة الإسرائيليّة القائمة على الصهيونيّة ذات الأسس الدينيّة.
وبالرغم أنّ والديه كانا من المنتمين إلى اليمين الإسرائيلي، فإنّه لم يكن ينظرإلى الفلسطينيّين كأعداء. "أثناء اجتياح بيروت سنة 1982رأيت الكثير من الموتى، وأغلبهم من السوريّين والفلسطينيّين. وأنا أذكر إلى الآن أننّي كنت أشعر بهم تمامًا مثل الإسرائيليّين: بشرٌ مشتركون في هذه اللعبة الدمويّة الغبيّة. إلاّ أنّني كنت أشعر بنفسي قريبًا منهم بالرغم من كلّ شيء. لكن عندما بدأ بعض زملائي في تصوير جثث نصف متعفّنة مطروحة فوق الدبّابات كما لو كان الأمر يعلّق برموز غنيمة حربيّة، عندها شعرت بأنّني لا أريد أن تكون لي أيّة علاقة بهذا كلّه؛ لا مع إسرائيل، ولا مع الصهيونيّة."
تحمل رواية البدايات التي ألّفها عتزمون عنوان "دليل التائهين"، وليس من باب الصدف أن جاءت تحمل نفس العنوان الذي يحمله كتاب الفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون الذي ألّفه قبل 800 سنة بهدف هدْي يهود عصره إلى الطريق السويّ. لكنّه وعلى خلاف جدّه الأكاديميّ البعيد فإنّ غيلاد عتزمون الذي كان بصدد إعداد أطروحة دكتوراه آنذاك لم يشيّد صرحًا فكريًّا سكولاستيكيًّا، بل رسم رؤية حديثة للعالم ذات طابع ساخر.
تدور أحداث الرواية في سنة 2052 : الصهيونيّة قد اضمحلّت، ودولة إسرائيل ذات الطابع الديني اليهوديّ انتهت إلى الفشل بسبب تناقضاتها الداخليّة. أستاذ الفلسفة غنتر فانكرْ، وهو صورة المثيل لغيلاد عتزمان، قد هاجر من إسرائيل إلى ألمانيا وابتدع علم الـ "peepologie" وترك بعد وفاته عملا علميًّا متكاملا. والبيبولوجيا، أو "علم الشِّوافة والإدماج" تتأسّس على مبدأ الحبّ المتحرّر وغايتها هي إنقاذ اليهود والبشريّة عامّة من شرّ أنفسهم.
إنّ ما يمكن أن يقرأ كسخرية شديدة اللهجة ضدّ حكومة أريل شارون، يمثّل مع ذلك قناعة راسخة لدى عتزمون: " عندما يفكّر المرء أنّ بعد ما لا يزيد عن عشر سنوات سيكون عدد السكّان غير اليهود ما بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسّط أكثر من اليهود، فإنّه يغدو واضحًا إذًا أنّه ستوجد دولة فلسطينيّة في يوم ما في منطقة الشرق الأوسط. وإنّني من الآن أعتبر نفسي فلسطينيًّا"، يقول الفنّان وهو يغمز بعينيه.
عندما صدرت هذه الرواية باللغة العبريّة الأصليّة في إسرائيل سنة 2001 كان الصدى الذي لقيته لدى الصحافة الإسرائيليّة إيجابيًّا للغاية. ومع ذلك فإنّ "دليل التائهين" لا يمكن اعتبارها رائعة أدبيّة. ولئن كانت الفكرة التي تقوم عليها الرّواية أصيلة، والنصّ في بعض المواقع مكتوبًا بطريقة رائعة، فإنّ بساطة الأحداث وكذلك التكرارات تجعل الرواية مع التقدّم في القراءة تغدو مملّة.
أمّا في ألمانيا واعتبارًا لتصاعد موجة العنصريّة يغدو السؤال مطروحًا إلى أيّ مدى يمكن أن يساهم كتاب عتزمون في تشجيع موجة معاداة الساميّة؟ بالنسبة لغيلاد عتزمون فإنّ الأمر سيّان. كانت هناك بعض هواجس أثناء ترجمة العمل إلى اللغة الألمانيّة، يعترف عتزمون، لكنّه يؤكّد أنّه لا يشعر بأيّ خوف: " إذا ما كان هناك أناس سيحاولون استغلال عملي من أجل تبرير شيء ما أو من أجل متابعة مشاريعهم الخاصّة: فليتفضّلوا ! لكن لا تنسوا: هذا الكتاب رواية متخيَّلة. إنّه يصف صيرورة تحرّر من الاغتراب ومن منفى داخليّ يفرضه المرء على نفسه، وفي رأيي إذا ما قرأتم، أنتم الألمان هذا الكتاب، فلتفكّروا في أنفسكم وأنتم تقرأون.
بقلم مارتينا صبرا
ترجمة علي مصباح