نسق»الشيخ والمريد» لعبدالله حمودي… جوهر الأنظمة التسلطية

الكاتبة ، الكاتب: إلهام الطالبي

يعتبر كتاب «الشيخ والمريد» للإنثروبولوجي المغربي عبد الله حمودي الصادر من دار توبقال بترجمة عبدالمجيد جحفة، مدخلا مهما لفك شيفرة النسق الثقافي لبنية التسلطية في المجتمعات العربية، وحفرا في تربة الاستبداد العربي من أجل معرفة الآليات الإنثربولوجية والسياسية العميقة، التي تتحكم في إعادة إنتاج الأسس الثقافية للسلطة في المجتمعات العربية، لاسيما وأن حمودي لم يكن مفكرا متسرعا، بل كان يتوفر على قدر عال من المراس والتأني في تفكيك النسق السلطوي، والإجابة على سؤال خامره طويلا، وهو كيف يمكن أن تواجه السلطوية فكريا وعمليا في المجتمعات العربية الحديثة؟
يقصد مؤلف «الرهان الثقافي وهمّ القطيعة» من المواجهة والتحليل وتفكيك قواعد التسلط الاجتماعي والثقافي ومناهضة آلياته واستبدالها بآليات التضامن، الحياة والإبداع في مناخ متحرر، لم يتوقف شغف الإنثروبولوجي المغربي عند هذا الحد، بل رهن هذا السؤال بسؤال آخر كان قد استبد بالمثقفين العرب في أزمنة مختلفة، وهو كيف يمكن أن نفسر أن تحكم مجتمعاتنا، من المحيط إلى الخليج بنيات تسلطية؟
ربط المؤلف في السياق ذاته السلطوية بظاهرة معروفة في مجتمعاتنا، وهي القدرة على إنتاج المشكلات، معتبرا أن هذه القدرة تفوق أحيانا وبكثير قدرتها على إيجاد حلول، لافتا إلى أن هذه القدرة تبتلع الوقت وتستنزف جهد العاملين، بمن فيهم أولئك الذين ينشطون في الحقل الفكري، وصف حمودي تلك القدرة بمثابة آلة تقمع وازع العمل والإنتاج والإبداع وتقلص فضاء التحرك الحر. يركز حمودي في طرحه على تسرب خطاطة ثقافية في حقل الصوفية إلى المجال السياسي، مبرزا أن علاقة الشيخ والمريد أضحت علاقة نموذجية لعلاقات السلطات الأخرى، وبالتالي فإن هذه العلاقة تظهر بقوة عقب تمحيص تطابقاتها البنيوية مع العلاقات الأخرى، سواء في مجال التعليم أو المجال السوسيو النقابي أو في مجالي الإدارة والنظم الأخرى. ويتناول عبدالله حمودي أيضا عملية تبديل نسق الشيخ والمريد في تمفصلاته العميقة على مستوى بنية السطح في الخطاب السياسي للدولة السلطوية قائلا، في السياق ذاته، إن المقولات نفسها، من خدمة وطاعة وتقرب، التي تتحكم في العلاقة بين الشيخ والمريد، تشكل مواقف خدام الملك، أو على الأقل رغبات الزعيم إزاء رجاله. ومن هذا المنظور فالنخبة الدينية والنخبة السياسية والبيروقراطية تمتثل للقواعد والمعايير نفسها التي تميزها عن الرجال العاديين.
وأخيرا فالمريد وخدام الدولة يعتقدون من خلال ممارستهم والعادات الخاصة التي يتمثلونها أنهم يقتربون من النجاح بالوفاء والطاعة للشيخ أو الزعيم وليس بالمجهود والعمل.


إن علاقة الشيخ والمريد تمر من مرحلة التأهيل التي تبدأ بقطع الصلة بالوالدين، ويترجم ذلك عمليا بالتخلي عن كل القيم الدنيوية، مرورا إلى مرحلة التلقين، التي يتم عبرها تخريب كل قوى النفس والشهوات الغرائزية؛ فتسهل السيطرة والتحكم في الذات، فعبر هذا المرور يسلم المريد إرادته لشيخه لكي يرث سره. وهكذا يرث المريد سر شيخه، فيبدأ في إعادة تكرار نموذج هذا الشيخ: سلوكه، سلطته.. ليعيد الشيخ الجديد إنتاج الدور القديم نفسه. وهكذا تعمل ثنائية الشيخ والمريد على تكريس السلطوية، والحفاظ على نسقها عبر عملية إعادة إنتاج الدور نفسه، وعبرها يرث المريد إرث وسر شيخه من جهة ولايته؛ ومن جهة أخرى يعيد إنتاج نمط حياة الشيخ وسلوكه إزاء نفسه والآخرين.


يعتبر مؤلف «الأضحية وأقنعتها» أن الأبوة المطلقة التي يدعيها الشيخ في علاقاته بمريديه هي نفسها التي يمارسها الزعيم في علاقاته برعاياه، لأنه في كلتا الحالتين هنا مركز جذب ينظم حركة الاعتراف والانتماء من جانب الشيخ/ الزعيم. ولا تتم عملية الاعتراف دون شيخ أو زعيم، وفي هذه الحال يرى حمودي أن العلاقة بين الشيخ والمريد تتحول إلى بنية ثقافية إنثروبولوجية عميقة تنظم كل مناحي الحياة الاجتماعية لتتحول الدولة إلى زاوية كبيرة، أو تحول مُكَبَر لثقافة الخضوع في الزوايا.


إن إنتاج نسق الشيخ والمريد يجعلنا نقف أمام بنية سياسية تؤثث في العمق الممارسة السياسية وتجلياتها في كل البلاد العربية، عبر حصر سلطة اتخاذ القرار في مجموعة صغيرة من الرجال، يبرز واحد فقط على الساحة العمومية. وبلغة إنثروبولوجية سياسية إننا أمام سلطة الواحد أي الشيخ.
يأخذنا الباحث عبر تحليله المعمق لنستخلص معه العلاقة القائمة بين الشيخ والمريد من الزاوية الإنثروبولوجية والنفسية، موضحا كيف تترسخ تبعية المريد للشيخ في اللاوعي بالــذات العربية، خاصة أن الشيخ يرمز إلى نمط المثالي العاطفي الروحاني، معتبرا أن تشبث التسلطية العربــــية بنسق الشيخ والمريد راجع إلى رغبتــــها في الهروب من النظرة الموضوعية تجاه التاريخ، وخوف النخب العربية الحاكمة من تجاوز التصور التقليداني تجاه الدولة نظرا لأن هذه الأخيرة تشكل ميدانا لتربية النوع الإنساني وترسيخ ثقافة الحرية والديمقراطية وأصول مجتمع مدني يراقب شطط السلطة والاستبداد.


في دراساته هاته سيصطدم حمودي مع التراث المعرفي الكولونيالي، ليدخل في حوار قوي مع أطروحاته ونتائجه، مبينا قصورها عن فهم ما يعتمل في المجتمع المغربي، ومؤكدا على أن الدهشة والافتتان بالمغرب المجهول ساهمت في خلق معرفة ضبابية ومتسرعة عنه. سيحاور في هذا المستوى مونتاني وبيرك ودوتي وغيرتز، لينقض في كتابه «الشيخ والمريد» على تلك الثنائية الموروثة عن الإنثروبولوجيا الكولونيالية التي تميز بين مجتمع الدولة ومجتمعات اللادولة، وعلى عكس الأطروحة ذات النزعة التطورية التي تريد أن تخضع «الحلقات الانتقالية» لمسار تراكمي لتوليد ونشأة الدولة المعاصرة، كما يميط حمودي اللثام في بحثه عن أن الدولة المغربية هي نتاج لإعادة إحياء لقيم تقليدية واستخدامها كأشكال معاصرة لتنظيم السلطة، وبعبارة أوضح فالدولة الوطنية هي نتاج لعملية توفيق بين قيم الدولة السلطانية، والقيم التكنو- بيروقراطية الموروثة عن عهد الحماية، والنتيجة نسق سياسي غير مكتمل البنيان، بين صراع نسقين متناقضين من حيث الجوهر التاريخي والسياسي ما يولد نسقا متناقضا من حيث الشكل والمضمون، معتبرا أننا لسنا أمام مجتمع حداثي معاصر ولا أمام مجتمع تقليدي.


كاتبة مغربي