فضاء القاهرة يضيق بـ"المشاة"

قبل عشرة أشهر، أخذني حظي إلى العاصمة الإسبانية مدريد، في رحلة تدريبية طيلة 3 أيام. كانت تلك أول مرة أسافر فيها خارج مصر، وبعدها بأشهر قليلة سافرت إلى تونس. بعد الرحلتين، تأكدت من أنني لا أكره "المشي"، كما كنت أقول دائمًا لوالدي عندما كان يحثني على ممارسته، حتى لو بدافع "التوفير"، فضلاً عن فوائده كرياضة، وأنه يثقل عليّ فقط حين يكون في شوارع القاهرة.
وُلدت لأسرة تقع ضمن شريحة دُنيا في الطبقة المتوسطة تنحدر من حي الجمالية بالقاهرة التاريخية، الذي يضم مسجد الأزهر ويبعد كيلو مترًا فقط عن مسجد الحسين. انعكس ذلك على نزهاتنا التقليدية أثناء طفولتي؛ تمشية من منزل جدي إلى المسجد الأثري، عبر شوارع ومدقات تمنحك شعورًا بالراحة والعراقة على ضيقها، وتصل في نهايتها إلى رحاب المسجد المحاط بهالة غامضة من السكون.
حكيت لزوجي كثيرًا عن هذه النزهة، وأخيرًا اصطحبته لمحاكاتها. خرجنا من منزل جدي، سلكنا الحواري ذاتها، لكنها لم تعد تمنحني الراحة نفسها. فقد وصل إليها سائقو "الدليفري" الذين يجعلونك دائمًا في قلق وترقب، بعدما كثروا بفعل البطالة فخصموا من رصيد المشاة. كاد واحد منهم يصدمنا أثناء جولتنا.

"القاهرة التي عرفتها في خطر"
يُنقّب الروائي المصري يوسف رخا، في روايته الأولى باللغة الإنجليزية، في الجذور العميقة لثورة 25 يناير 2011. ويجادل في حوار مع قنطرة بأن موجة الربيع العربي أخفقت في إحداث تغيير حقيقي أو طرح رؤية مستقبلية مُقنعة.
وصلنا مسجد الحسين، الذي بات محاصرًا بأسوار حديدية سوداء منذ مشروع التطوير الذي افتتحه الرئيس عبد الفتاح السيسي في ديسمبر/كانون الأول 2022. وهو مشروع خصم من رصيد الجمال وراحة المشاة والمتنزهين، لحساب احتياطات الأمن. حُرمنا من متعة أن يمتد نظرك ليصل إلى قبة المسجد ومعماره، كل ما يصطدم به الآن سور أبوابه موصده لا تفتح سوى في أوقات الصلاة.
ومن قبل، في منطقتي بالعمرانية في الجيزة، حيث عشت حتى وقت قريب، عانينا عند تدشين كوبري "كمال عامر" الذي افتتحته الحكومة في مارس/أذار 2023. قسّم الكوبري الجديد المنطقة إلى شقين طيلة 3 كيلومترات تقريبًا، لا يربط بينهما سوى جسرين للمشاة، لا يقترب أيًا منهما من محل سكني. خلال عملية البناء التي استمرت سنوات، كنا نختبر دروبًا جديدة، حركة مرورية غير منتظمة، وزحامًا خانقًا.
الآن، وبعد تشغيل الكبري، ورغم فائدته لي كقائدة سيارة، لا يزال بالنسبة لأهلي وسكان المنطقة، كتلة صماء تفرقهم وتهدر بعض حيوات من يخاطرون بالمرور عليه بدلاً من المشي مسافة أطول وصولاً لسلم المشاة.
المشي هناك ليس آمنًا أيضًا، إذ يتعين عليك تفادي "التوك توك" التي تتحرك بجنون، وحوادث دهسها للمارة متكررة. ربما لهذا يفضل السكان المخاطرة لتوفير الوقت، حتى لو كان ذلك على حساب حياتهم. ذات مرة في طريقي إلى منزلي في حدائق أكتوبر عبر كوبري "كمال عامر"، صادفت جثة رجل بدا أنه تعرض للدهس، وحوله رجال أمن يشيرون للسيارات بالمضي دون توقف.
تتكرر حوادث الطرق بشكل شبه يومي في مصر، إثر عوامل عدة؛ منها غياب الإشارات، وقلة الإضاءة، وسرعة بعض السائقين الجنونية، وقلة الدوريات الأمنية على الطرق. ووفق إحصائية رسمية، قتل 5260 شخصًا وأصيب أكثر من 76 ألفاً آخرين في حوادث طرق عام 2024.
ليس الفقراء فقط
رغم استثمارات الحكومة المصرية الضخمة في شق الطرق الجديدة، إلا أن الخصم من رصيد المشاة فعل متأصل في فلسفة تخطيطها، حتى لو كانت داخل منطقة حضارية مهمة مثل مصر الجديدة، التي تسكنها طبقات مرفهة، وليست مثل منطقتي الشعبية العشوائية.
تكشف ورقة نشرتها مؤسسة "ندى من أجل طرق مصرية آمنة" (مارس/أذار 2023)، بعنوان "مصر الجديدة (هليوبوليس) المشاة والبنية الأساسية للتنقل"، كيف قطّعت الكباري أوصال شوارع الحي، وأجبرت المشاة لاستقلال وسيلة للتنقل داخل محيطهم الجغرافي بدلاً من المشي.
لم أزر المنطقة منذ سنوات، بعد أن كنت أتردد عليها يوميًا تقريبًا خلال عملي السابق هناك. في ذلك الوقت، مثلّت النقيض من منطقتي، حيث البراح واضح، القدرة على المشي ممهدة، ولكن بعد قراءتي لورقة مؤسسة ندى، عدت لزيارة مصر الجديدة — على بُعد 48 كيلومترًا من منزلي — فإذا بالزحام أكبر، وفعل المشي أصعب.
تضع الورقة البحثية، المشي ضمن نطاق "السفر النشط" أيّ التنقل والحركة سواء بالمشي أو استقلال الدراجات الهوائية، وتعدد مزاياه الصحية في: انخفاض معدلات الإصابة بأمراض الضغط، والسمنة. تلفت الدراسة إلى أن المصريين في المرتبة الـ18 بين شعوب في العالم في زيادة الوزن، وفق إحصائيات منظمة الصحة العالمية.
تشير ورقة مؤسسة ندى، إلى أن 87% من الرحلات المقطوعة يوميًا في القاهرة الكبرى (القاهرة والجيزة والإسكندرية) بوسائل مميكنة، و13% فقط مقطوعة بوسائل التنقل النشط (المشي، والدراجات الهوائية) من إجمالي الرحلات البالغة 25.6 مليون رحلة يوميًا في العام 2014. وأعتقد أن النسبة انخفضت أكثر الآن، مع النمو المتزايد سواء لوسائل النقل العامة والخاصة.
تقارن الورقة، بالتجارب العالمية التي تمنح الأولوية في استخدام الشوارع للمشاة أولاً، ثم راكبي الدراجات، يليهم مستخدمو الحافلات، وأخيرًا السيارات الخاصة. وذلك ما لم يحدث في هليوبولس، بل في مصر كلها، رغم المحاولات.

في أكتوبر/ تشرين الأول 2022، أطلقت محافظة القاهرة، مبادرة تطبيق "كايرو بايك" لتأجير الدراجات، في محاولة لتشجيع النقل الخضراء في قلب العاصمة. بدت التجربة واعدة في بدايتها، لكن لم يمضِ سوى بضعة أشهر حتى ظهرت ملامح فشلها، فالمسارات المخصصة للدراجات التي رسمتها المحافظة على الطرق لم تحترمها السيارات، ولم يتعرض المخالفون لأي محاسبة، حتى اختفت الخطوط الفاصلة تحت عجلات المركبات.
وبصفتي من هواة الدراجات، جربت التطبيق مرة، ولكن كانت النتيجة محبطة، فالدراجات غير مصانة، تقودها بصعوبة سواء لجودتها أو زحام الطريق بالسيارات والمارة.
الأشجار كضحية لسياسات استثمارية
في مصر، المارة مظلومون وظالمون في آن، فلا مسارات مخصصة لهم، ولا احترام من قبلهم للإشارات المرورية. يتكاتف الجميع في مشهد فوضوي، لا يخلق سوى مزيد من الأزمات والحوادث.
أتذكر في مدريد، كنت أمشي أكثر من ساعة، عدة كيلو مترات، بخفة، لا أحمل همّ مضايقات أو تحرش كالذي أعاني منه في شوارع القاهرة. صحيح أن الطراز المعماري في وسط القاهرة قريب للآخر في مدريد، لكن يشوش على جماله أتربة تغطيه دون عناية، باعة جائلون يفترشون الطرقات، متسولون يعترضون طريقك، مصورون يعرضون خدماتهم قصرًا لالتقاط صور لك وأنت تمشي على كوبري قصر النيل.

سياسة الاستدانة بشكل مفرط تهدد مستقبل مصر
الأزمة الاقتصادية والمالية التي تعيشها مصر تعود في المقام الأول إلى سياسة الاستدانة بشكل مفرط لا يستطيع الاقتصاد المصري الفعلي أن يتحمله. الخبير الاقتصادي يزيد صايغ يسلط الضوء على عيوب النموذج الاقتصادي المصري وينتقد تعامل السياسة الألمانية والأوروبية مع نظام السيسي. حاوره محمود حسين لموقع قنطرة.
في مدريد، اختبرت كيف تضع دولة أولوية للمشاة: أرصفة واسعة ممهدة، تكاد تساوي في عرضها، المساحة الممنوحة للسيارات، يتخللها مقاعد للراحة كل عدة أمتار"، شوارع جانبية مخصصة فقط للمشي، تغطيها مساحات خضراء وأشجار ـــ تُقطع عمدًا هنا في القاهرة.
مثل تلك المساحة التي كانت متنفسًا لكثير من الأسر أمام جامعة القاهرة العريقة، أزيلت، لصالح مشاريع استثمارية وطرق جديدة. فباتت الأشجار والحدائق هي الأخرى ضحية سياسات استثمارية تفضل المنافذ الاقتصادية على التوازن البيئي، فنجني أثاره من الآن، في التغيرات المناخية العنيفة التي نمر بها، في بلد 96% من مساحتها صحراوية.
تبدلت نزهة كثير من المصريين، فباتت المراكز التجارة المغلقة (المولات) بديلاً عن الحدائق التي تتقلص يومًا بعد يوم، ومع وصول درجات الحرارة لمتوسط 38 درجة والرطوبة لأكثر من 60%، صار المشي في الشارع عقاباً، يحررك منه مول مُكيّف.
ذلك الملجأ الذي بدأت أتصالح معه مرغمة كغيري من الطبقات المصرية المتوسطة والدنيا، كان في الأصل وجهة طبقات اجتماعية أعلى، تفضل العزلة بين واجهات الماركات العالمية، كي تتفادى الاحتكاك بشوارع القاهرة القاسية.
قنطرة ©