صرخة من أجل عالم عادل
أصبح مصطلح "العولمة" مثقلاً بالمعاني السياسية والاقتصادية منذ قيام الشركات الاقتصادية الكبرى متعددة الجنسيات بعولمة السوق الاقتصادي في الستينات. وقد كثر استخدام المصطلح بشدة للإيحاء بمعنيين متضادين: معنى إيجابي عندما يستخدمه ممثلو المؤسسات الاقتصادية العالمية، ومعنى آخر سلبي عندما يستخدمه سياسيو ومثقفو العالم الثالث. فالمصطلح بالنسبة للفئة الأولى هو علامة إيجابية على التقدم والتنمية، بينما يعني للفئة الأخيرة الهيمنة الاقتصادية للقوة الاقتصادية والسياسية العالمية على اقتصاديات وسياسات دول العالم الثالث.
أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية هي القوة السياسية الوحيدة بعد انهيار القوة السياسية العالمية الثانية، أي الاتحاد السوفيتي. وأصبحت الليبرالية والرأسمالية بالتالي
هي المبادئ العالمية للنظام العالمي 'الجديد' كعلامة على 'نهاية التاريخ' على حد قول فوكوياما. وترى نظرية صامويل هنتينغتون "صراع الحضارات" أن الصراع الرئيسي للسياسات العالمية قد ينشأ بين أمم ترجع لحضارات مختلفة. وقد حُدد سبع من حضارات الأمم هذه، من بينها الإسلام، جنباً إلى جنب مع الحضارة الغربية.
السؤال المطروح الآن هو: هل من الممكن حقاً التعرف على انبثاق حضارة عالمية عن النقد الدولي الموجه للعولمة؟ أو بعبارة أخرى، هل يمكن اعتبار هذا النقد الدولي بمثابة احتجاج حضاري ضد تأصل 'حضارة الرأسمالية' في العولمة؟ وأخيراً هل يعكس هذا النقد الدولي وجود حضارة عامة يمكن أن تخدم كاتفاق ليس فقط على التعامل مع العولمة، وإنما على احترام الديمقراطية وحقوق الإنسان أيضاً؟ وعند العودة إلى تصور نهاية التاريخ لفوكاياما، يمكننا بسهولة ملاحظة أنه يتضمن إدعاء حق 'حضارة العالم' أي حضارة الرأسمالية بمكوناتها من الحرية والديمقراطية. وبينما يتنبأ تصور 'نهاية التاريخ' هذا بقدوم عالم موحد من الديمقراطية وحقوق الإنسان، يؤسسه النظام الرأسمالي العالمي، فإن مذهب 'صراع الحضارات' يشير إلى تنوع القيم الحضارية التي تقود حتماً إلى كارثة. وليس من الصعب تماماً إدراك أن التصورين يعكسان الانقسام الثنائي الجوهري في بنية النظام العالمي الجديد، متنبئاً بنهاية مشابهة للمدينة الفاضلة من جهة، وتوقع فاجع من جهة أخرى. ونحن على وعي بالطبع أن تصور'نهاية التاريخ' يدعي انتصار طريقة الحياة الأمريكية، والنظام السياسي الأمريكي، والقيم الحضارية والأخلاق الأمريكية، ولهذا يجب أن تسود كونياً. ومن أجل تحقيق مثل هذه النهاية السعيدة فمن الضروري شن حروب ضد الحضارات الأخرى التي تغض الطرف عن أنظمة ذات قيم مختلفة.
إلا أن حرب الخليج الثانية، عاصفة الصحراء، قد كشفت بسرعة أن القوتين السياسية والعسكرية للولايات المتحدة الأمريكية هما الوسيلة التي ستتحقق من خلالهما هيمنة طريقة الحياة الأمريكية على العالم. إنها ليست قوة الحضارة باتصالها المنتظم والحر مع الحضارات الأخرى، وإنما هي القوة السياسية والعسكرية التي تفرض نوعاً بعينه من أسلوب المعيشة والقيم الحضارية على الآخرين. ولا حاجة لتوضيح أن القوة السياسية والعسكرية قائمة على القوة الاقتصادية المتزايدة في إطار عملية العولمة.
ويرجع بروز دور وسائل الإعلام إلى حرب الخليج الثانية، عاصفة الصحراء، أيضاً حيث تمكن الناس في كافة أرجاء الأرض من متابعة الأعمال العسكرية الأمريكية خطوة بخطوة نهاراً وليلاً من خلال القناة الإخبارية لشبكة سي.إن.إن. غيرأن قوة وسائل الإعلام، وقبل حرب الخليج الثانية بوقت طويل، كانت هي القناة التي تم من خلالها نشر الحضارة الأمريكية الجماهيرية وجعلها معروفة في كل مكان. إن طريقة الحياة الأمريكية التي تعرضها مسلسلات التلفزيون السطحية، تخلق عالماً مثالياً مزيفاً لدى القطاعات الشعبية في الحضارات الأخرى، بينما تؤدي إلى رد فعل دفاعي لدى الطبقات الاجتماعية الأعلى ثقافياً. إن الصراع بين القيم الحضارية الأمريكية الجماهيرية وبين القيم الحضارية المحلية يؤكد عليه وينتشر بسرعة بين الطبقات الاجتماعية الأدنى، حيث يمكن للناس إدراك الفجوة في مستويات المعيشة بين الشمال والجنوب. وتتضح في عالم القرية الصغيرة، وبفضل تقنيات الاتصال المتقدمة، الفروق في أسلوب المعيشة، والفجوة بين الأغنياء والفقراء، وأصحاب المزايا وهؤلاء المحرومين منها.
وليس السؤال المطروح هو إن كان التنوع الحضاري في خطر أم لا، وإنما هي مسألة خلق عالم عادل، اقتصادياً، وسياسياً وحضارياً. إن صرخة العامة من أجل العدل تمثل تهديداً لكل من النظام العالمي الذي تمثله الولايات المتحدة الأمريكية، والأنظمة السياسية الإقليمية التي يمثلها القادة الموالون للغرب العاجزون، بسبب فسادهم، عن تحقيق أي تطور اقتصادي أو سياسي لبلادهم، وهم ليسوا على استعداد كذلك أن يسمحوا لشعوبهم أن تقيم أنظمة سياسية ديمقراطية خاصة بها. ونظراً لأن هؤلاء الحكام الطغاة لا يمثلون أي خطر على النظام العالمي الجديد، فإنه يتم حمايتهم ضد إرادة شعوبهم. ورغم أن هؤلاء الحكام موالون للغرب سياسياً، إلا أنهم يؤكدون من الناحية الحضارية على القيم التقليدية لحضارتهم المحلية، ويخلقون بهذا الخوف لدى الجماهير من التحديث. وتعتبر الحداثة في نظر هؤلاء الحكام تهديداً لهم لأنها تعني حرية كل فرد، سواء كان ذكراً أم أنثى، في التعبير عن نفسه.
أما في حالة العالم الإسلامي، على سبيل المثال، فقد تم تقديم الحداثة في سياق تحدي الضغط الأوربي. وتوضح فاطمة مرنيسي -عن حق- في كتابها الإسلام والديمقراطية أنه نظراً لأن قبول الحداثة كان قائماً أساساً على 'الخوف' من فقدان الهوية الذاتية، فإن الفردية احتلت مكاناً غامضاً لدى مصلحي القرن التاسع عشر سواء في الحركات الدينية أو الوطنية. واضطر القوميون المسلمون، في مواجهة قوة الغرب العسكرية الاستعمارية، إلى الاحتماء بماضيهم وتشييده كمتراس ثقافي بغرض التخلص من قسوة الاستعمار. إلا إن الماضي الإسلامي الذي أعادوه إلى الحياة لم يثّبت الهوية الحديثة في التقليد العقلاني. وكان القوميون، في الواقع، أسرى موقف تاريخي حتّم أن تكون الحداثة خياراً خاسراً. وكان هناك خياران. تمثل الأول في إدعاء الحق في 'الإرث الإنساني للمستعمر الغربي في مقابل المخاطرة بفقدان وحدة الصف.' أما الثاني فتمثل في الرأي القائل 'بالحفاظ بحذر على شيء من الوحدة في مواجهة المستعمر، وذلك عن طريق التشبث بالماضي واستحسان تقليد "الطاعة" ومنع كل التجديد الغربي باستثناء استيراد التقنية. حيث تعني العقلانية "الرأي الفردي" و "العقل" وبالتالي إمكانية اختلاف الآراء مما يمثل تهديداً لوحدة المجتمع.
لم يتغير الوضع في عهد ما بعد الاستعمار؛ إذ أن القادة السياسيين غير الشرعيين، الذين تقلدوا زمام الأمور إما بواسطة القوة العسكرية أو عن طريق الوراثة، فرضوا قيم الطاعة التقليدية الثقافية والتضامن القومي مقابل الفردية. وكان لا بد من إعادة تأويل قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان الحديثة، ووفقاً لذلك قبل بعضها ورُفض البعض الآخر.
وللوصول إلى الوضع الحاضر، فليس هناك سبيل للهروب من آثار كارثة 11 سبتمبر/أيلول، التي أعادت خلق موقف مشابه لوضع الاستعمار المبكر. إن مكافحة الإرهاب، وهي في حد ذاتها معركة مشروعة وعادلة، قد انقلبت إلى شن حرب مستمرة ضد كل الآخرين، الذين ليسوا في صفنا، حسبما أعلن رئيس الولايات المتحدة. إن تعبيرات مثل: قيمنا، حضارتنا، ثقافتنا تنطوي بداهة وبوضوح على فكرة أن الآخرين غير متحضرين. ولا يحمل البيان الذي صدر عن وموقع من 60 من العلماء والسياسيين والمثقفين الأمريكيين في فبراير/شباط هذا العام، والموجه للشعب في العالمين العربي والإسلامي، من أجل التوصل إلى تفاهم متبادل، سوى قدراً ضئيلاً جداً من النقد للسياسة الخارجية للولايات المتحدة، التي كادت أن تعزلها عن كل العالم قبل الهجوم الإرهابي على مركز التجارة العالمية. ولا ذكر في هذا البيان إطلاقاً للدعم غير المشروط للسياسة الإسرائيلية الرامية إلى الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني، وهو الأمر الذي يضعف الثقة بالاستقلال الفكري لهؤلاء الموقعين على البيان.
ما هو قدر التغيير الذي يمكن ملاحظته الآن في العلاقة بين الغرب والعالم الإسلامي؟ وما هو مقدار الضغط الذي لا يزال يمارس على العالم الإسلامي من أجل حماية المصالح الاقتصادية والسياسية الغربية؟ وكم هو عدد الأنظمة السياسية غير العادلة التي يساندها الغرب السياسي ضد إرادة الشعب؟ وما هو مقدار التلاعب السياسي ضد المسلمين من خلال عرض الإسلام كعدو الغرب البديل بعد انهيار الاتحاد السوفيتي؟ إذا كان صراع الحضارات لا يمكن تجنبه، فلماذا يقبل المسلمون قيم حضارة عليهم تدميرها؟ هذه أسئلة مشروعة ويجب طرحها حقاً في أي حوار يدور حول التنوع الحضاري. صحيح أن العالم قد أصبح قرية صغيرة، ولكنها قرية صغيرة جداً يزداد فيها الفقراء من أهل الجنوب فقراً يوماً بعد يوم، بينما يزداد الأغنياء في الشمال غنى. وتكون الحداثة وحقوق الإنسان والديمقراطية من نصيب ذوي الامتياز فقط، أما الأقل حظاً فليس أمامهم سوى الصراخ التماساً للعدل. وفي هذه الصرخة، العنيفة أحياناً – ليس في الإسلام- تكمن قضية الديمقراطية وكل الأمور المتعلقة بها.
وضمن هذا السياق، أصبحت أوجه الشبه فيما بين الحضارات تغيب تماماً عن أية مناقشات أوربية تتناول القيم الغربية. ويتم في وسائل الإعلام نهاراً وليلاً التأكيد على الاستقطاب الحضاري وتعيين الحدود بين الحضارات المختلفة، مع بعض الاستثناءات القليلة جداً التي لا يكاد المرء يلاحظها. إن السبيل الوحيد للتغلب على تسييس الفروق الحضارية هو البدء في إعادة بناء النظام العالمي عن طريق ترسيخ القيم الكونية كالمساواة والحرية والعدل لكل شعوب الأرض بصرف النظر عن اللون أو اللغة أو الدين أو الحضارة. ومن الصعب في القرن الحادي والعشرين القبول بوجود دولة على أساس ديني. ومع كل الاحترام لكافة الأديان الموجودة في العالم، فإن إقامة دولة ما على أيدلوجية دينية فقط، يعني إقصاء المواطنين الآخرين الذين لا يعتنقون نفس الدين. ولكن العالم لا ينبث بكلمة، سواء كانت الدولة تنادي بالإسلام أو اليهودية. ولا يوجد في هذا النمط من الدول مكاناً للديمقراطية أو حقوق الإنسان، التي قد تمنح لأتباع نفس الدين فقط، أما المواطنون الآخرون فليس لهم نفس الحق.
إن إمكانية توطيد القيم الكونية كالمساواة والحرية والعدل، والتي تستلزم ضمناً ترسيخ الديمقراطية وحقوق الإنسان في كل حضارة، هي إمكانية كبيرة بقدر كبر رغبة البشر المشاركة العادلة في مصادر وثروات أمهم الأرض. ولا أعتقد أن هناك أية حضارة قد تعارض قيم العدل الإنساني، أو الحرية السياسية والدينية، أو أن تقاوم مجموعة حقوق الإنسان. إن إنكار هذه القيم من خلال أي تعبير حضاري ما هو إلا وسيلة لحماية قوى سياسية معينة أو الإبقاء على المزايا التي تتمتع بها مجموعة ما على حساب الآخرين. لقد آن الأوان لكي تعترف الحضارة الغربية بحقيقة أن حداثتها لم تأت من فراغ، وإنما هي نتيجة التراكم التاريخي للقيم المنقولة من حضارات قديمة مختلفة منذ أن وطأ الإنسان الأرض بقدمه، وتعلم إنتاج حاجاته. إن القيم الإنسانية الكونية، التي ينظر إليها كغربية فقط، تعود في الواقع إلى كفاح الإنسان من أجل السلام والعدل. إنها - بصرف النظر عن الخلفية الدينية أو الحضارية أو السياسية الاجتماعية- ملكية كل الأمم والحضارات، التي كافحت طيلة العصور منذ ثورة إسبارتاكوس ضد العبودية في روما 73- 71 قبل الميلاد وحتى العنصرية في جنوب أفريقيا في هذا القرن، من أجل تحقيقها.
ترجمة حسن الشريف
© Zeitschrift für KulturAustausch 2/2002
نفسها نصر حامد أبو زيد (1943) درس الأدب المقارن في جامعة القاهرة، حصل على رتبة أستاذ 1995 في الجامعة رغم معارضة عنيفة من طرف المحافظين. نشر العديد من المؤلفات عن التفسير العصري للقرآن استنادا إلى وسائل مستمدة من علم اللغات. أبو زيد حاليا زميل في معهد العلوم في برلين.