نص الرسالة المشتركة ل 38 من علماء المسلمين الموجهة إلى البابا بينيديكت السادس عشر:

بسم الله الرحمن الرحيم

« وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالـَّتِي هِيَ أَحْسَنُ . . .» (القرآن الكريم، العنكبوت 29: 46)

قداسة البابا،

بالنسبة إلى محاضرتكم الّتي ألقيتموها في جامعة رِجنسبورغ في ألمانيا بتاريخ 12 أيلول/سبتمبر 2006م، نحسب أنه من الملائم في سياق روح النقاش المفتوح أن نتناول استخدامكم لمناظرة جرت بين الإمبراطور مانويل الثاني باليولوجوس ورجل «فارسي مثقف» كنقطة بداية لخطابكم حول العلاقة بين العقل والإيمان. ففي الوقت الذي نثني فيه على جهودكم التي تبذلونها في معارضة هيمنة الفلسفة الوضعية والمادية في حياة الإنسان، لا بد لنا أن ننوه إلى بعض الأخطاء التي وردت في إطار الطريقة التي أشرتم فيها إلى الإسلام على أنه الجهة المقابلة للاستعمال المناسب للعقل؛ بالإضافة إلى بعض الأخطاء التي وردت في التأكيدات التي سقتموها لدعم حجتكم.

« لا إكراه في الدين . . .» لقد ذكرتم بأنه «وفقاً لما يقرره أهل الدراية» فإنّ الآية القرآنية التي مطلعها « لا إكراه في الدين . . .» (البقرة، 2: 256) تعود إلى بداية أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم عندما «كان ضعيفاً وتحت التهديد»، وهذا غير صحيح. والصحيح الثابت أنّ هذه الآية تعود إلى الفترة الّتي كان فيها تنزيل القرآن الكريم متوافقاً ومنسجماً مع تنامي السيطرة السياسية والعسكرية للأمة الإسلامية الفتيّة. لم تكن آية « لا إكراه في الدين . . .» أمراً للمسلمين بالبقاء ثابتين راسخين أمام رغبة الذين ظلموهم وعذبوهم لإرغامهم على التخلي عن دينهم وإيمانهم؛ ولكنها جاءت تذكيراً للمسلمين أنفسهم عندما تحقّقت لهم أسباب القوّة والمنعة، أنه لا يمكن لهم أن يرغموا قلوب غيرهم على الإيمان. « لا إكراه في الدين . . .» تخاطب أولئك الذين هم في حالة القوّة وليس الضعف. ولقد بيّنت التفاسير الأولى للقرآن الكريم (مثل تفسير الطبري) بأنّ بعض المسلمين في المدينة أرادوا إرغام أبنائهم ليتحوّلوا من اليهودية أو النصرانية إلى الإسلام، فكانت هذه الآية جواباً دقيقاً لهم بألاّ يحاولوا أن يُكرِهوا أبناءهم على الإسلام. هذا بالإضافة إلى أن المسلمين لديهم أيضاً توجيهات قرآنية هادية في هذا الصدد مثل: « وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ...» (الكهف، 18: 29)؛ وأيضاً: « قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ* وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ * » (الكافرون، 109: 1-6).

تنزيه الله تعالى

لقد قلتم أيضاً إنّ: «الإله، بالنسبة إلى التعاليم الإسلامية، مُنَزّه تنزيهاً مطلقاً«؛ وهذا تبسيط يمكن أن يكون مؤدّاه مضللاً. فلقد بَيَّن الله تعالى في القرآن الكريم أنه: «. . . لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ . . .» (الشورى، 42: 11)، وبيّن أيضاً: « اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ . ..» (النور، 24: 35)، وقال: «. . . وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ » (ق، 50: 16)، وقال: « هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ . . .» (الحديد، 57: 3)، وقال: « . . . وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ . . .» (الحديد، 57: 4)، وقال: «. . . فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّه . . .ِ» (البقرة، 2: 115)؛ وكذلك دعونا نتذكر حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلّم الذي يبيّن فيه أن الله تعالى يقول (في العبد الصالح): «فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها» (صحيح البخاري 6502، كتاب الرقاق). في مجال التعليم المتعلّق بالرقائق وعلم الكلام والفلسفة، يعتبر المفكر ابن حزم (المتوفى 1069م) الذي استشهدتم به، شخصية فاضلة ولكن هامشيّة ـ وإن كان ذا شهرة؛ وهو ينتمي إلى المذهب الظاهري الذي لا يتبعه أحد في العالم الإسلامي اليوم. وإذا أراد إنسان البحث عن نصوص وصياغات أصيلة بشأن عقيدة التنزيه، فإن هناك شخصيات لدى المسلمين أهم بكثير من ابن حزم من حيث تأثيرهم ومرجعيتهم في مجال العقيدة الإسلامية مثل الإمام الغزالي (المتوفى 1111م) وكثيرين غيره.

لقد اقتبستم مناقشة مفادها أنه بسبب أن الإمبراطور «كان متأثراً بشدة بالفلسفة اليونانية» فإنّ فكرة أنّ «الله لا يرضى عن سفك الدّماء» «أمر بَدَهي» بالنسبة له، وأنّ التعاليم الإسلامية بشأن تنزيه الله عُرضَت مقابلها كنموذج مضاد. فقولكم إنّ إرادة الله بالنسبة للمسلمين «غير مقيّدة بأي مقولة من مقولاتنا» يعتبر تبسيطاً أيضاً يمكن أن يفضي إلى سوء فهم. إنّ لله تعالى في دين الإسلام أسماء كثيرة منها: الرّحيم والعادل والبصير والسّميع والعليم والودود واللطيف. وإنّ اعتقاد المسلمين التّام بوحدانية الله تعالى وأنه « وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدُ » (الإخلاص، 112: 4) لم يؤدِّ بهم إلى إنكار نسبة هذه الصفات إلى الله تعالى وإلى بعض خلقه، (مع الوضع جانباً الآن فكرة «المقولات» وهي عبارة تحتاج إلى إيضاح أكثر في هذا السياق). وحيث أنّ هذا أمر يتعلق بإرادة الله تعالى، فاستنتاجكم أنّ المسلمين يؤمنون بإله مزاجي يمكن أن يأمرنا بالشّر أو يمكن ألا يأمر، فهذا يُغفِل قول الله تعالى في القرآن الكريم: « إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ » (النحل، 16: 90)؛ تماماً كما يُغفِل قوله تعالى: « . . . كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ . . . » (الأنعام، 6: 12، انظر أيضاً 6: 54)؛ وبأنه تعالى قال: «. . . وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ . . .» (الأعراف، 7: 156). وإن كلمة رحمة يمكن أيضاً أن تترجم إلى الحبّ واللطف والشفقة. ومن كلمة الرحمة جاءت العبارة المقدّسة التي يستعملها المسلمون يومياً، « بسم الله الرحمن الرحيم ». أليس بدهيّاً أنّ سفك دم بريء يتعارض مع الرّحمة والشفقة؟

استعمال التفكير المنطقي

* إنّ التّعاليم الإسلامية غنية بتنقيباتها وبحوثها في طبيعة الذّكاء الإنساني وعلاقته بكنه الله تعالى وإرادته، ويتضمن ذلك تساؤلات بشأن ما هو بَدَهي وما هو غير بَدَهي. لكن الفصل بين «التفكير المنطقي» من جهة و«الإيمان» من جهة أخرى لا يوجد بنفس هذا الشكل تماماً في الفكر الإسلامي؛ بل إنّ المسلمين أدركوا قوّة الذكاء الإنساني وحدوده بطريقتهم الخاصة، مقرّين بتسلسل هرمي للمعرفة يقع التفكير المنطقي في جزء هامّ جداً منه. وهناك تطرّفان عمل المنهج الفكري الإسلامي الأصيل على تجنبهما عموماً: الأول، جعل العقل التحليلي هو الحَكَم النهائي على الحقيقة؛ والآخر، هو إنكار قوّة الإدراك الإنساني في تناول التساؤلات المطلقة. والأهم من ذلك، أن البحوث الفكرية للمسلمين خلال العصور، في أنماطها الأكثر نضجاً ورواجاً، قد حافظت على الانسجام والتوافق بين حقائق تنزيل القرآن الكريم ومطالب الذّكاء الإنساني دون التضحية بأحدهما من أجل الآخر. يقول الله تعالى: « سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ . . . » (فصّلت، 41: 53). هذا وإن العقلَ آيةٌ من بين آيات كثيرة بداخلنا، دعانا الله تعالى للتأمل فيها والتأمل بها، كوسيلة لمعرفة الحقيقة.

ما الحرب المقدّسة؟

نود الإشارة إلى أن «الحرب المقدسة» مصطلح ليس له وجود في المفردات الإسلامية؛ ولا بد من التأكيد هنا أنّ «الجهاد»، يعني المجاهدة والمناضلة، وخصوصاً الجهاد في سبيل الله تعالى. إنّ هذا الجهاد يمكن أن يأخذ أشكالاً كثيرة، بما في ذلك استخدام القوّة. وبالرغم من أنّ الجهاد يمكن أن يكون مباركاً بمعنى أن يكون في سبيل غاية سامية مباركة، إلاّ أنه ليس بالضرورة «حرباً». وعلاوة على ذلك، تجدر الملاحظة إلى أن مانويل الثاني باليولوجوس يقول بأن «العنف» يتعارض مع طبيعة الله تعالى، ولكن المسيح نفسه عليه السلام استعمل العنف ضدّ صّرافي الأموال في المعبد، وقال: «لا تظنّوا أنني أتيت لأجلب السّلام في الأرض، لم آتِ لجلب السلام ولكن جئت بالسيف..» (متّى، 10: 34 ـ36). وعندما أغرق الله تعالى فرعون، هل كان يتصرّف على عكس طبيعته؟ ربما قصد الإمبراطور القول إنّ القسوة والوحشيّة والعدوان ضدّ إرادة الله تعالى، وفي هذه الحالة، فإنّ هذا يتوافق تماماً مع الشّريعة فيما يخصّ الجهاد.

لقد قلتم بأنّ «الإمبراطور عَلِم بالطبع التعليمات التي طُوّرت فيما بعد ودُوّنت في القرآن فيما يتعلق بالحرب المقدّسة»، ولكن كما أشرنا أعلاه بخصوص « لا إكراه في الدين . . .» فإن التعليمات آنفة الذكر لم تكن فيما بعد على الإطلاق. وعلاوة على ذلك، فإنّ أقوال الإمبراطور حول اعتناق الدين بالعنف تُبيّن بأنه لم يكن يدري ما هي هذه التعليمات وكيف كانت دائماً.
ويمكن تلخيص القواعد الإسلامية الأصيلة المعتمدة الخاصة بالحرب في المبادئ التالية:

1. غير المقاتلين ليسوا أهدافاً جائزة أو شرعية. ولقد تم التأكيد على هذا مراراً وبشكل واضح من قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ومن قِبَل أهل العلم منذ ذلك الحين.

2. الاعتقاد الديني لوحده لا يجعل أي إنسان هدفاً للنيل منه. فالمجتمع الإسلامي الأول كان أفراده يقاتلون وثنيين قاموا بطردِهم من ديارهم وظلمِهم وتعذيبِهم وسفكِ دمائهم. وبعد ذلك كانت الفتوحات الإسلامية ذات طبيعة سياسية.

3. المسلمون يمكنهم أن يعيشوا بسلام مع جيرانهم وينبغي عليهم ذلك. « وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ . . .» (الأنفال، 8: 61). ومع ذلك، فهذا لا يستبعد حقهم الشرعي في الدفاع عن أنفسهم والحفاظ على سيادتهم واستقلالهم.

والمسلمون ملتزمون تماماً بالتقيّد بهذه القواعد كالتزامهم باجتناب السرقة والزنا. وإذا نظم الدّين تشريعاً للحرب وحدد الظروف التي تجعلها ضروريةً وعادلةً، فذلك لا يجعل هذا الدين ديناً عدوانياً، كما لو أنّ الدين وضع نظاماً خاصاً بالعلاقة الجنسية فإن ذلك لا يجعل الدين ديناً شهوانياً. وإذا استخف البعض بالتعاليم والمبادئ الراسخة بقوّة وعلى مدى طويل من أجل أحلام يوطوبية حيث الغاية تبرر الوسيلة، فإنّ فعلهم يكون من قبيل الهوى والرغبة الخاصة وليس بتشريعٍ من الله تعالى أو من نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم أو من أهل العلم. يقول الله تعالى في القرآن الكريم: «. . . وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى . . .»(المائدة، 5: 8). وفي هذا السياق، لا بد من بيانِ أنّ جريمة القتل التي وقعت في الصومال بتاريخ 17/9/2006 وراح ضحيتها راهبة كاثوليكية بريئة – وأية أعمال عنف فردية مخزية وشائنة مماثلة أخرى ـ «كردّة فعل» لمحاضرتكم في جامعة رِجنسبورغ، لا تمت بصلة إلى الإسلام أبداً، ونحن ندين مثل هذه الأفعال تماماً.

اعتناق الدين بالإكراه

إنّ الفكرة التي مفادها أن المسلمين مأمورون بنشر دينهم «بالسيف» وأن الإسلام في الواقع انتشر بشكل هائل «بالسيف» تتهاوى أمام التدقيق وإمعان النظر. وحقيقة الأمر أنّ الإسلام من حيث كونه كياناً سياسياً انتشر بشكل جزئي نتيجة للفتوحات، لكن الجزء الأكبر من توسعه قد تحقّق نتيجة للنشاط الدعوي. فالتعاليم الإسلامية لم تنص على أنْ يتم إرغام سكان البلاد المفتوحة أو إكراههم على الإسلام. وفي الواقع، إن كثيراً من المناطق الأولى التي فتحها المسلمون بقيت أغلب أجزائها غير مسلمة لقرون من الزمان. ولو أن المسلمين رغبوا بإكراه الناس جميعهم حتى يعتنقوا دينهم، لما بقي هناك كنيسة واحدة أو معبد يهودي في أي مكان من العالم الإسلامي. وإن أمر الله تعالى أن « لا إكراه في الدين.. » يعني الآن ما عناه في ذلك الوقت. وأنّ مجرد كون الشخص غير مسلم لم يكن مبرراً شرعياً للحرب قط لا في الشريعة ولا في العقيدة الإسلامية.

وبالنسبة لقوانين الحرب، يبدي التاريخ أن بعض المسلمين قد خرقوا المبادئ الإسلامية فيما يتعلق بإكراه غيرهم على اعتناق الدين وبمعاملة أقوام الأديان الأخرى، ولكن التاريخ يبدي أيضاً بأن هذه التصرفات بلا أدنى ريب هي استثناء يُثبت القاعدة ويبرهن عليها. وإننا نوافق بالتأكيد على أن إكراه الآخرين على الاعتقاد ـ إن كان ذلك ممكناً على أية حال ـ هو أمر غيرُ مَرْضِيّ عند الله تعالى، وأن الله تعالى لا يرضى عن سفك الدماء البريئة. ونحن في حقيقة الأمر نؤمن كما آمن المسلمون دائماً، بقول الله تعالى: «. . . مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا . . .» (المائدة، 5: 32).

شيء جديد؟

لقد ذكرتم تأكيد الإمبراطور بأن «أي شيء جديد» جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) كان «شريراً ولا إنسانياً، مثل أمره المزعوم بنشر الدين الذي يدعو إليه بالسيف». هذا وإن الأمر الذي فشل الإمبراطور في إدراكه ومعرفته ـ عدا عن أن واقعا مثل هذا الأمر (كما ذُكر أعلاه) ليس له وجود في الإسلام مطلقاً ـ هو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يدّعِ أنه جاء بشيء جديد من الأساس. يقول الله تعالى في القرآن الكريم: « مَا يُقَالُ لَكَ إلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ . . . » (فُصّلت، 41: 43)، ويقول تعالى أيضاً: « قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ » (الأحقاف، 46: 9). وهكذا فإن الإيمان بالله تعالى الواحد ليس من خصائص أي ملّة لوحدها دون غيرها. ووفقاً للعقيدة الإسلامية فإنّ جميع الأنبياء الحقيقيين (عليهم السّلام) كانوا يدعون أقواماً مختلفين في أزمنة مختلفة إلى الحقيقة ذاتها. فمن الممكن أن تكون الشرائع مختلفة، ولكن الحقيقة لا تتغيّر.

«أهل الدراية»

لقد أشرتم مرّة من دون تحديد إلى «أهل الدراية» (بشأن الإسلام)، وفعلياً قمتم أيضاً بنقل كلام باحثَيْن كاثوليكيَين بالاسم، الأستاذ (عادل) تيودور خوري و(الأستاذ المشارك) روجر أرنالدِز. ويكفي القول هنا إنه بينما يَعتبر كثيرٌ من المسلمين أن هناك منصفين من غير المسلمين ومن الكاثوليك الذين من الممكن أن يُعتبروا فعلاً «أهل دراية» في دين الإسلام، إلا أن المسلمين لم يصادقوا حسب علمنا على «أهل الدراية» اللذين أشرتم إليهما ولا يقرّون لهما بأنهما يمثلان المسلمين أو وجهات نظرهم. لقد كررتم بتاريخ 25/9/2006، ما جاء في بيانكم الهام في مدينة كولونيا في ألمانيا بتاريخ 20/8/2005، أن «الحوار بين الأديان والثقافات فيما بين المسيحيين والمسلمين لا يمكن تقليصه إلى مستوى الشيء «الزائد الاختياري»، فهو في الواقع ضرورة أساسية حيوية يعتمد عليها مستقبلنا بمقدار كبير. وفي الوقت الذي نوافقكم فيه تماماً، إلا أنه يبدو لنا بأن جزءاً كبيراً من هدف الحوار بين الأديان يكمن في أن نجاهد من أجل الإصغاء إلى الأصوات الفعليّة لأولئك الذين نتحاور معهم، وأخْذِها في الاعتبار، وليس فقط لأصوات أولئك الذين ينتمون إلى جماعتنا.

المسيحيّة والإسلام

إن المسيحيّة والإسلام يعتبران الدينين الأوّل والثّاني من حيث عدد أتباعهما في العالم، وفي التاريخ، حيث يشكل المسيحيون والمسلمون حسب التقارير ما يزيد على ثلث العالم وخمس العالم على التوالي. وهم يشكلون معاً أكثر من 55? من عدد سكان العالم، مما يجعل حُسن العلاقة بين مجتمعات هذين الدينين أهم عامل من العوامل المساهمة في إحلال سلام مؤثر حول العالم. وباعتباركم قائداً لأكثر من مليار كاثوليكي ومثالاً أخلاقياً لكثيرين غيرهم في أرجاء المعمورة، فربما تكونون الصوت الأكثر تأثيراً في مواصلة المضي قدماً في هذه العلاقة باتجاه التفاهم المتبادل. ونحن نشارككم الرغبة في إقامة حوار صريح مخلص وندرك أهميته في عالم يشتد الترابط فيه بشكل متزايد. وعند إقامة حوار مخلص صريح فإننا نأمل في الاستمرار ببناء علاقات وئام وصداقة مؤسسةٍ على الاحترام والإنصاف المتبادلَين وعلى ما يجمعنا جوهرياً من الإرث المشترك المرتبط بالأنبياء من ذرية إبراهيم (عليه السلام)؛ وخصوصاً «الوصيتين العُظْمَيَيْن» في إنجيل مرقص، 12: 29ـ31 (وبشكل مختلف في إنجيل متّى، 22: 37ـ40) «الرب إلهنا رب واحد، وتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك، هذه هي الوصية الأولى؛ وثانية مثلها هي تحب قريبك كنفسك. ليس وصية أخرى أعظم من هاتين».
وعلى ذلك، فإن المسلمين يقدرون الكلمات الآتية الصادرة من مجلس الفاتيكان الثاني:

تكنّ الكنيسة أيضاً احتراماً عالياً للمسلمين، فهم يعبدون الله الواحد الحي القيوم الرحيم القادر، خالق السماوات والأرض، والذي كلّم البشر أيضاً. وهم يجتهدون في الخضوع الكامل لأوامر الله تعالى دون تحفظ، تماماً مثل خضوع إبراهيم لقضاء الله تعالى، وهو الذي يربط المسلمون دينهم بدينه بشدة. وبالرغم من أنهم لا يقرّون بأن عيسى المسيح إله، إلا أنهم يوقرونه باعتباره نبياً، وهم يجلّون أمه العذراء أيضاً ويذكرونها حتى في أوقات تضرعهم الخاشع؛ ويترقبون أيضاً يوم القيامة والثواب من الله تعالى بعد بعث الأموات. ولهذا السبب هم يعظمون الحياة المستقيمة ويعبدون الله تعالى خاصة من خلال الصلوات والصدقات والصوم. (نوسترا إيتاته، 28/10/1965).

كذلك وبنفس القدْر، يثمّن المسلمون كلمات البابا الراحل يوحنا بولص الثاني، والذي كان يحترمه ويقدّره كثيرٌ من المسلمين:
نحن المسيحيين نعترف بكل سرور بالقيم الدينية التي نشترك فيها مع الإسلام. وأود اليوم أن أكرر ما قلته لشباب مسلمين في الدار البيضاء قبل بضع سنين: «نحن نؤمن بالإله نفسه، الإله الواحد الحي، الإله الذي خلق العالم وأخرج مخلوقاته في أكمل صورة» (انسجْنَمِنْتي، VIII/2، [1985]، صفحة 497، اقتبست من كلمة خلال عظة عامة بتاريخ 5/5/1999).
كما يقدر المسلمون أيضاً تعبيرَكم الشخصي غيرَ المسبوق عن الأسف وإيضاحَكم وتأكيدَكم (في 17/9/2006) بأن الاقتباس الذي استعملتموه لا يعكس رأيكم الشخصي، بالإضافة إلى تأكيد أمين سر حاضرة الفاتيكان الكاردينال تارشيزيو بيرتوني (في 16/9/2006) على ما جاء في الوثيقة الوفاقيّة الصادرة عن مجلس الفاتيكان نوسترا إيتاته. وأخيراً، فإن المسلمين يقدّرون تعبيركم عن «الاحترام الكامل والعميق لجميع المسلمين» بتاريخ 25/9/2006 أمام مجموعة من سفراء الدول الإسلامية.
نأمل بأننا سوف نتجنّب جميعاً أخطاءَ الماضي ونعيش سوية في المستقبل بسلام وتسامح واحترام متبادلين.
* والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله

الموقعون:

1ـ الشيخ أبو بكر أحمد المليباري الأمين العام لجمعية علماء أهل السنّة والجماعة في الهند
2 ـ الشيخ أحمد الكبيسي مؤسس هيئة العلماء في العراق
3 ـ الدكتور أحمد بدر الدين حسّون المفتي العام للجمهورية العربية السورية
4 ـ الشيخ أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام لسلطنة عمان
5 ـ الشيخ أحمد هاشم موزدي رئيس نهضة العلماء في إندونيسيا
6 ـ الدكتور السيد حسين نصر أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة جورج واشنطن أميركا
7 ـ الشيخ حمزة يوسف هانسن مؤسس ومدير معهد الزيتونة ـ كاليفورنيا (أميركا)
8 ـ الشيخ محمد عبد الله بيجي قاراتشاي نائب مفتي روسيا
9 ـ الشيخ شيفقو عمرباشيتش مفتي كرواتيا
10ـ الدكتور طارق السويدان مدير عام قناة الرسالة الفضائية الكويت
11 ـ الأستاذ عبد الحكيم مراد ونتر أستاذ كرسي الشيخ زايد للدراسات الإسلامية، كلية اللاهوت، جامعة كيمبردج مدير الأمانة الأكاديمية الإسلامية ـ بريطانيا
12 ـ الدكتور عبد العزيز عثمان التويجري مدير عام المنظمة الإسلامية للتربية والتعليم والثقافة المغرب
13 ـ الدكتور مولاي عبد الكبير العلوي المودغري مدير عام هيئة بيت مال القدس الشريف، وزير الشؤون الإسلامية سابقاً، المغرب
14 ـ الشيخ عبد الله بن محفوظ بن بيّه الأستاذ بجامعة الملك عبد العزيز في السعودية، نائب رئيس ووزير العدل ووزير التعليم ووزير الشؤون الإسلامية سابقاً في موريتانيا
15 ـ الدكتورة عبلة محمد الكحلاوي عميدة كلية الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة الأزهر
16 ـ الدكتور عز الدين إبراهيم مستشار ثقافي بوزارة شؤون الرئاسة بالإمارات ـ الإمارات
17 ـ الحبيب علي المشهور بن محمد بن سالم بن حفيظ إمام جامع تريم ورئيس مجلس الإفتاء في تريم ومحاضر بكلية الشريعة بتريم (اليمن)
18ـ الأستاذ الدكتور علي جمعة مفتي جمهورية مصر العربية مصر
19 ـ الحبيب علي زين العابدين بن عبد الرحمن الجفري مؤسس ومدير عام مؤسسة طابة اليمن
20 ـ الحبيب عمر بن محمد بن سالم بن حفيظ عميد دار المصطفى للدراسات الإسلامية، تريم، حضرموت اليمن
21 ـ الأستاذ الدكتور عمر جاه أستاذ الفكر والحضارة الإسلامية في غامبيا ـ غامبيا
22 ـ الأستاذ الدكتور الأمير غازي بن محمد بن طلال رئيس مجلس إدارة مؤسسة آل البيت للفكر الإسلامي ـ الأردن
23 ـ الأستاذ الدكتور فاروق حمادة أستاذ السنّة وعلومها بجامعة محمد الخامس ـ المغرب
24 ـ الشيخ محمد إقبال سُلّم نائب أمين عام نهضة العلماء بإندونيسيا ـ إندونيسيا
25 ـ الشيخ محمد الصادق محمد يوسف مفتي عام أوزباكستان أوزباكستان
26 ـ الشريف محمد العلويني رئيس الأكاديمية الأوربية للثقافة والعلوم الإسلامية في بروكسل بلجيكا
27 السيد محمد بن محمد المنصور مرجع الزيدية ـ اليمن
28 ـ مفتي العدل محمد تقي عثماني نائب رئيس دار العلوم، كراتشي ـ باكستان
29 ـ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي رئيس قسم العقائد والأديان بجامعة دمشق سورية
30 ـ الأستاذ الدكتور محمد عبد الغفار الشريف الأمين العام للأمانة العامة للأوقاف بدولة الكويت ـ الكويت
31 ـ آية الله محمد علي تسخيري الأمين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية إيران
32 ـ الدكتور محمد هاشم كمال عميد المعهد الدولي للفكر والحضارة الإسلامية، أستاذ الشريعة الإسلامية والفقه، الجامعة الإسلامية الدولية ـ ماليزيا
33 ـ الأستاذ الدكتور الشيخ مصطفى تسيرتش رئيس العلماء والمفتي العام لدولة البوسنة والهرسك
34 ـ الأستاذ الدكتور مصطفى كاجريسي مفتي عام اسطنبول ـ تركيا
35 ـ الشيخ معمّر زوكورليتش مفتي السنجق ـ البوسنة والهرسك
36 ـ الشيخ نجاد غرابوس مفتي سلوفينيا ـ سلوفينيا
37 ـ الشيخ نعيم ترنافا مفتي عام كوسوفوـ كوسوفو
38 ـ الشيخ نوح حاميم كلر مرشد من مشايخ الطريقة الشاذلية، وزميل أول في مؤسسة آل البيت للفكر الإسلامي، الأردن ـ أميركا