دور السياسة
أود بداية التعرض لمقولة صمويل هونتنغتن المشهورة " صراع الحضارات". وينطلق هونتنغتن من أن الحضارات في ذاتها بشكل ما هي كينونة قائمة متأسسة على قيم خاصة. ويستخدم مصطلح "الحضارة الغربية" ليشمل شمال أميركا وأجزاءً كبيرة من أوروبا ويرتكز على أساس القيم المسيحية. بينما الحضارة الإسلامية، دون أن نستغرب ذلك بطبيعة الحال، يحترم القيم الإسلامية. حتى الكثير من الذين يرفضون هذه الخريطة العالمية يقبلون حدودها العامة. وهم يصيغون مفهوم عدالة يستفيد من المفهوم المركزي لهذا التصور. وهذا يؤدي إلى الاعتقاد بأن ثمة مفهوم "غربي" أو "أوروبي" وآخر إسلامي للعدالة يتعارضان مع بعضهما البعض بشكل أساسي.
يتجاهل مفهوم "هنتينغتون" للعدالة التاريخ والسياسة.
هاينر بيليفلد(1958) درس الفلسفة واللاهوت والتاريخ. أستاذ في معهد دراسة الأزمات والعنف في جامعة بيليفلد. يركز في أبحاثه على فلسفة التنوير وعلى الأخلاقيات السياسية. له العديد من المؤلفات لا سيما عن موضوع شمولية حقوق الإنسان من منظور التعددية الثقافية. وبالنسبة لي فإن التاريخ هي التجربة بأن مجتمعا ونظاما اجتماعيا وقناعات وقيما - بما في ذلك معنى العدالة- قادرة على التغيّر وهي في الحقيقة تتغيّر. إنها ليست وقائع ثابتة أبدية.
وبالنسبة لي فإن السياسة هوالوعي بأن الناس يتحملون مسؤولية أساسية في صياغة نظامهم الاجتماعي. إنهم معنيون بمناقشة الشروط التي تنظم حياتهم المشتركة للوصول إلى مجتمع عادل وتطويره.
اقتراحي في مناقشة اليوم أن نأخذ السياسة في عين الاعتبار، وإلا فإن المناقشات حول ثقافات ومعايير ومفاهيم ثقافية مختلفة ستصبح تجريديّة وبالفعل أيديولوجية.
انطلاقا من هذه القاعدة نصل إلى نتيجة هامة: إذا وافقنا على أن مفهوم العدالة في الحقيقة هو موضوع خلاف وجدل سياسي، فإنه ليس من الممكن القبول بمفهوم نظام العدالة الاجتماعية كمعطىً. ونحن أنفسنا لا نستطيع الاعتماد على امور مثل "العدالة الطبيعية " المستندة على أبدية وعدم تغيّر الطبيعة الإنسانية مثلما كان أمرا عاديا في تقاليد " الحق الطبيعي" الأوروبي. كما لا يمكننا إدخال أي سلطة دينية في اللعبة والتي ستحدد بوضوح الكيفيّة النظام الاجتماعي العادل.
أنا لا أود الادعاء بأن ليس للدين في مسائل العدالة الاجتماعية ما يقوله. إن ما يعنيني هو أنه لا يجوز أن تحل العودة المباشرة إلى السلطة الدينية، إلى الوصايا السماوية أو القانون الإلهي، محل الحوار السياسي. وتتجسد القواعد الآلهية في شكل تفسيرات إنسانية و تأخذ بذلك هيئة ما. إذا تجاهلنا التفسيرات الإنسانية فإننا نحطم المجال الحيوي للسياسة و للتعددية وللجدل السياسي ونصل إلى نوع من الاستبدادية الدينية.
الضمان السّياسيّ للعدالة الاجتماعيّة
ما هي نتيجة التأكيد على دور السياسة؟ هل يعني أنّ كل شيء يمكن أن يُوضَع قيد البحث، أم أن كل شيء ممكن؟ هل يقودنا هذا الموقف في تفهمنا للعدالة الاجتماعية إلى نسبية كاملة؟ في الواقع، المجتمعات الحديثة غالبا ما توصف بهذه المصطلحات السلبية – والحديث يدور حول النسبية كما الشكيّة أو انحطاط القيم. وفي هذا ربما تكمن ذرّة من الحقيقة، لكنّ بالتّأكيد ليست كل الحقيقة. وبالقدر الذي فقدنا فيه إمكانية تطبيق عدل طبيعي أو إلهي، ينمو من ناحية أخرى وعينا لمسؤولية الإنسان. لهذا السبب فإن احترام المسؤولية الإنسانية اصبح باطراد جوهر مبدأ الدّيمقراطيّة الحديثة.
ولكي نكون على قدر من الدقة: الاحترام حق لكلّ إنسان لأنه كائن مسؤول عن أفعاله. وتقودنا هذه الفكرة إلى تفسير حديث لمفهوم الكرامة الإنسانيّة. مفهوم الكرامة الإنسانيّة نفسها قديم بالفعل، موجود في التوراة كما في القرآن. الجديد في الفكرة هو الاحترام القائم على أساس كرامة كلّ المخلوقات الإنسانيّة، يظهر سياسيًّا في شكل حقوق الإنسان: في شكل حقوق لكل إنسان يمكن الحصول عليها قضائيا. إن احترام الكرامة الإنسانيّة هو المبدأ الأساسيّ الذي تقوم عليه كل نظم العدالة. وكان اشتراط احترام المسؤولية الإنسانيّة هو المطلب الأساسيّ دائمًا في الجدل حول ما يمكن أن تعنيه العدالة الاجتماعيّة.
لا أريد الادّعاء بأن المجتمعات الدّيمقراطيّة في الواقع تحقق هذا المقياس. ليس هناك ما يدعو للتفاخر بالذات أو الرّضا المغرور. لكن يمكننا أن نلاحظ أن المطالبة بالاحترام حقيقة موجودة في كل مجالات مجتمعنا. وقد غيّرت هذه المطالبة، على سبيل المثال وظيفة الحياة الزوجّية، حيث يُفهم الزواج الحديث كشراكة قائمة على مبدأ الاحترام المتبادل. ويُظهر المثال أيضا مدى تأثير فكرة الاحترام وتقدمها على المسؤولية الإنسانية - كتفسير جديد لدافع قديم: فكرة الكرامة الإنسانيّة.
أين يتمثّل دور الدّيانات في هذا السياق - المسيحيّة والإسلام؟ تلفظت التّقاليد الدينية برغبة عميقة نحو العدالة الاجتماعية، قد أفصحت عن نفسها مرارًا وتكرارًا، وهذا يمكن أن يثري المناقشات الحاليّة. لقد تبنّت التقاليد الدّينيّة فكرة الكرامة الإنسانيّة: خلقت كل الكائنات البشرية في التصور التوراتي على صورة اللّه. أو حسب الفكرة القرآنيّة تُدعى المخلوقات البشرية إلى التصرّف "كخليفة" هذا يعني التصرف كخليفة للّه على الأرض، كما يترجم البعض هذا المفهوم.
من الناحية العملية بالطبع، لم تدعم الجماعات الدّينيّة دائمًا، الديمقراطية وحقوق الإنسان. وقفت كنيستي الرومانية- الكاثوليكية لفترة طويلة معارضة حقوق الإنسان عموما والحريات الدينية على وجه الخصوص. في الوثائق الرّسميّة للقرن التّاسع عشر نُسِبَتْ إلى حرّيّة الدين كلّ الآثار السّيّئة الممكنة: أدت إلى لا مبالاة في المسائل الدينيّة، إلى تخريب سلطة المسئولين أو حتّى إلى دمار البنى الأخلاقيةّ للمجتمع. في الستينات من القرن السّابق فقط وصلت الكنيسة الكاثوليكيةّ إلى قرارها بدعم حقوق الإنسان وحرية الدين رسميا. ذلك يدل على أن الجماعات الدينيّة نفسها هي جزء من المجتمع وتخضع لنفس عمليات التعلّم، التي تجتاح المجتمع بالكامل.
أما ما يخص الإسلام فقد وجد كثير من المسلمين طرقا للمصالحة بين متطلبات دينهم واعترافهم بالديمقراطية و حقوق الإنسان . هذه المصالحة الممكنة، والتي تحققت بالفعل، هي نقد لمقولة هنتنغتون بأن الديمقراطية وحقوق الإنسان إرث غربي محصور على الغرب. ومن ناحية أخرى يشير الاصلاحيون المسلمون إلى أسئلة صعبة كثيرة لم تتم الإجابة عليها بعد كما يجب.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، هناك سّؤال مطروح عن إمكانية إيجاد توافق بين الشريعة الإسلاميةّ وبين جدول أعمال حقوق الإنسان. كيف من الممكن أن يتم ذلك؟ أو السؤال عن كيفية فرض المساواة بين المرأة والرجل في عالم الفكر الإسلاميّ. وهل تشمل حرية الدين حرية تغيير الديانة أيضا والتحوّل من الإسلام إلى دين آخر؟ هذه الأسئلة نُوقِشتَ بين المسلمين فيما بينهم وبين المسلمين وغير المسلمين.
آمل أن تعطينا هذه المناقشة فرصة لتناول السؤال حول كيفية التعامل مع تعددية المفاهيم المختلفة على قاعدة الاحترام المتبادل. دعوني أنهي هذه الكلمات الافتتاحيّة بالملاحظة أنّ ليس هناك في أوروبا مفهوم واضح للعدالة اجتماعية. لكنّ هناك بعض المبادئ نستطيع عبرها الاقتراب من تعددية الأفكار وما يمكن أن تكون العدالة الاجتماعية. إن حقوق الإنسان هو جوهر هذه المبادئ الأساسيّة.
ترجمة مصطفى السليمان